لا اعلم إن كانت الصدفة وحدها هي التي جعلت السيّد الصحبي عتيق مبعوث رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي يجلس جنبا إلى جنب مع السيّد رضا بلحاج مبعوث رئيس حزب نداء تونس الباجي قايد السبسي وهما يتحولان صحبة السيّدة مية الجريبي الأمينة العامة للحزب الجمهوري والسيّد المولدي الرياحي ممثل حزب التكتل والسيّد المهدي بن غربيّة ممثّل حزب التحالف الديمقراطي. البعض قراها على سبيل المصادفة والبعض الآخر اعتبرها بمثابة رسالة طمأنة إلى الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل مفادها أن ما كان حائلا يوم 16 نوفمبر دون اكتمال الإجماع من قبل كل المكونات السياسيّة حول مبادرة الاتحاد للحوار الوطني قد صار من الماضي باعتبار أن السبب الذي حال دون مشاركة حزبي المؤتمر والنهضة في الشوط الأول من الحوار والمتمثل في رفض الجلوس مع حزب نداء تونس لم يعد عائقا وأن مياها كثيرة جرت بين الأحزاب الثلاثة لم يكن آخرها مشاركتها في الحوار الوطني الذي دعا إليه رئيس الجمهوريّة المؤقت منصف المرزوقي واحتضنه قصر الضيافة بقرطاج، فقبله جمعت الثلاثي لقاءات في مناسبات عدّة أولها المشاركة في الاحتفال بذكرى الاستقلال الأمريكي الذي نظمته سفارة الولاياتالمتحدةالأمريكيةبتونس والثاني كان بمناسبة دعوة رئيس الحكومة المتخلي هذه الأحزاب للمشاركة في تشكيل حكومة كفاءات اثر اغتيال الشهيد شكري بلعيد، تلك الدعوة التي لم تر النور وانتهت باستقالة السيّد حمادي الجبالي وتكليف السيّد علي العريض وزير داخليته بتشكيل حكومة كما ارتضتها أحزاب الترويكا. مهما كان السبب مصادفة أو رسالة طمأنة من الحزبين اللدودين فإن تلك الصورة التي جالت الصفحات الاجتماعية طولا وعرضا وانتشرت في الصحف للسيدين عتيق وبلحاج قد أثبتت دون أدنى شكّ أن موقف الاتحاد كان حكيما ومتبصرا وموضوعيا عندما أكّد على أن الحوار الوطني يجب ألاّ يستثني أو يقصي أي طرف سياسي فاعل في البلاد إلاّ من أقصى نفسه خاصة إذا كان هذا الطرف ينشط ضمن حدود القانون وحاصل على تأشيرة حزبيّة، على خلاف ما ذهبت إليه ماكينة التضليل الجهنميّة من تأويلات رأت في هذا الموقف مدخلا إلى رسكلة حزب نداء تونس في الحياة السياسيّة وإعطائه مشروعيّة الجلوس مع أحزاب تعتبر أنفسها الوريثة الشرعيّة للثورة، وهو التأويل المغرض الذي كان الزمن والمناسبات كيفيلن بإثبات تفاهته حين انكشف دون مواربة أن شعرة معاوية لم تنقطع يوما بين النهضة خاصة وشريكيها في الترويكا وبين حزب نداء تونس وما لقاء السفارة الأمريكية ولقاءات الفرصة الأخيرة لحكومة السيد حمادي الجبالي والتي لم يكن الاتحاد العام التونسي للشغل طرفا فيها من بعيد أو قريب إلا دليل على ذلك، فحملات الفايسبوك الاستعراضيّة والتراشق بالاتهامات على المنابر الإعلامية وأعمدة الصحف بين الغريمين ليست سوى السباب الذي يقود المودّة بواد بغيض السياسة واكراهاتها.. ولعلّ التصريحات الأخيرة لكل من «الشيخين» السبسي والغنوشي في حواراتهما التلفزيّة وما لمسه المتابع لها من غزل بين الرجلين وتأكيد على علاقتهما الإنسانية الطيبة والمتينة وعلى تكرر اللقاءات بينهما إلا دليل على أن الأمر ليس عداوة بين «الثوريين ورموز الثورة المضادة» وإنما هو اختلاف المصالح واحتداد التنافس بين خصمين سياسيين يتقنان لعبة المناورة السياسيّة ويتقاسمان الاستفادة من هذا الاستقطاب الثنائي الذي كلّما خفّ بينها صبّا عليه قليلا من زيت التصريحات النارية ليتصاعد لهيبه فيرفع حرارة الاستقطاب داخل الساحة السياسية ويشدّ المواطنين الى طرفي الحبل بين النهضة والنداء، ويبقى بذلك للشيخين الفضل في إخماد هذا اللهيب السياسي والظهور بمظهر رجلي الإطفاء الوطنيين. غير أن الصديقين اللدودين أو العدوين الحميمين يدركان جيدا أن هذه اللعبة السياسيّة التي تصل أحيانا حدودا تنذر بخروجها عن إرادتهما كما وقع في حادثة اغتيال الشهيد لطفي نقض. ويدركان أن هفوة واحدة غير محسوبة قد تؤدي الى خروج اللعبة عن السيطرة نهائيا وتحولها الى فوضى مدمرة تحرق كل خيوط اللعبة مثلما وقع غداة اغتيال شهيد الوطن شكري بلعيد الأمر الذي استدعى من اللاعبين والجمهور والحكم حبس أنفاسهم في انتظار الحريق لولا حكمة رفاقه وأصدقائه الذين اختاروا التريث وانتصروا للوطن على حساب تسجيل أهداف سياسية على خصومهم السياسيين وجنبوا بذلك البلاد حمّاما من الدم. اللاعبان المستفيدان من حالة الاستقطاب والتجييش صارا اليوم يدركان جيّدا أن طرفا ثالثا قويا ومهابا وصاحب مشروعية لا يمكن العبث به أو تجاهله يقف متابعا مجرى اللعبة السياسيّة وهو يعرف تماما متى وكيف يتدخل ليوقف هذه المباراة العبثيّة متى تحولت إلى خطر يتهدد الجميع اللاعبين والملعب والجمهور. هذا الطرف نفسه هو الذي دفع ضيوف قصر الضيافة بقرطاج إلى أن ينفضّوا من على طاولة الرئيس ويعلقون حوارهم متنبهين إلى حقيقة لطالما حاولوا إنكارها أو تجاهله مفادها ألاّ شرعيّة لأية أجندا تنظم اللعبة السياسيّة توضع بمعزل عن الاتحاد العام التونسي للشغل وشركائه وأصدقائه الذين اعتبروا مبادرته الوطنيّة وحدها الكفيلة بجمع الفرقاء السياسيين على طاولة جديّة للحوار الوطني وأن محاولات سحب البساط من تحت الاتحاد عبث ومضيعة للوقت . أوقف الاجتماع وعلقت أشغاله وجاء اللاعبون السياسيون الفاعلون صبيحة يوم الاثنين 22 افريل 2013 إلى بطحاء محمد علي مثقلين بأمل ذابل أن يلتحق الاتحاد العام التونسي للشغل بالحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي بعد أن ظهر لهم بالدّليل اثر جولات من الحوار أن الاتحاد حاضر رغم التغييب من قبل من وجّه الدعوى، واكتشفوا أنه لا يمكن لكائن من كان تغييب توأم الوطن ومرفأ النجاة الذي لا تخطئه البوصلة. المجتمعون بأعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد وعلى رأسهم الأمين العام اتفقوا على أن الحوار الوطني لا يمكن أن ينجح إلاّ والاتحاد في ضمانته، وأكدوا أنّ دور الاتحاد وكما كان محددا في تأمينه المرحلة الانتقاليّة الأولى يزداد اليوم أهميّة في هذه المرحلة الانتقاليّة الثانية من خلال سعيه إلى إيجاد صيغة للعمل المشترك تجنّب الوطن وقتا ضائعا في الحسابات الحزبيّة الضيقة وتنتشله من المزالق والأخطار الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة التي تتهدده، وبيّنوا أن الاتحاد بحكم كونه غير معني بالتجاذبات السياسية بين الأحزاب قادر بمعية شركائه من المنظمات الاجتماعية والحقوقية على الوصول إلى تحقيق حالة جامعة من التوافق الوطني تؤسس لواقع سياسي جديد يفرض حالة من التعديل والتوازن والترشيد خلال المتبقي من عمر المرحلة الانتقاليّة. الأخ الأمين العام وفي رده على ضيوفه أكّد أن الاتحاد قرأ الواقع جيّدا منذ مدّة واستشرف المخاطر التي ترافق المراحل الانتقاليّة لذلك سارع إلى إطلاق مبادرة الحوار الوطني في 16 أكتوبر 2012 حتى يجنّب البلاد عديد المنزلقات الخطيرة، واعتبر أن المبادرة ركزت على أهمّ النقاط الخلافيّة والمصيريّة التي تمّ الخلوص إليها بعد مشاورات ماراطونيّة معمقة مع أغلب المكونات السياسيّة ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الوطنيّة تمهيدا للشوط الأول من المؤتمر الذي نجح في تجسير عديد النقاط الخلافيّة، وذكّر بأن الاتحاد فوجئ برفض حزبين للمشاركة في الحوار بعد أن أبديا استعدادهما وموافقتهما وهما حزبا المؤتمر والنهضة مما جعل نجاح هذا المؤتمر للحوار الوطني نسبيا، ودعا الأحزاب المشاركة إلى استكمال ما بدأته من مشاورات في دار الضيافة في انتظار أن تتمّ اللمسات الأخيرة لعقد الشوط الثاني من مؤتمر الحوار الوطني بعد استكمال التنسيق مع أصدقائه وأنّه من المرجح أن ينطلق هذا المؤتمر مع منتصف شهر ماي القادم. ونحن نغادر دار الاتحاد بعد أربع ساعات قضيناها كإعلاميين ننتظر ما سيسفر عنه اللقاء، اعترضنا السيّد الطيّب البكوش وهو في طريقه لمقابلة الأخ الأمين العام في مكتبه، وقبل انتهائي من كتابة هذا المقال بلغني أنّ السيّد راشد الغنوشي قد اتصل بالأخ حسين العبّاسي ليؤكد له استعداد حركة النهضة للمشاركة في الشوط الثاني من مؤتمر الاتحاد للحوار الوطني دون شروط. تأخرت الاستجابة قرابة الستّة أشهر وتأخر موعد تونس مع التوافق حول خارطة طريق وطنيّة للمتبقي من عمر المرحلة الانتقالية، وفقدنا الوقت والمال والرجال على مذبح التناحر السياسي على السلطة، وصبر الاتحاد صبر أيوب رغم التشويه والافتراءات والاعتداءات التي كانت آخر فصولها جريمة 4 ديسمبر 2012 الجبانة، لكن منظمة حشّاد أثبتت للجميع في الأخير أنّها الخيمة الجامعة وضمير كل التونسيين وبوصلة الوطن التي لا تخيب، ليصدق ما لهجت به حناجر الشعب «عاش عاش الاتحاد أعظم قوّة في البلاد». نقولها ونمضي على درب حشاد.