بقلم: شكري بن عيسى (*) امر عجيب غريب في تاريخ الدول والجيوش، لم يحدث حتى في اكثر الدول اشتعالا بالحروب والقلاقل، واكثر الجيوش اضطرابا وانهيارا، ان تعلن استقالة رئيس اركان جيش البر، على امواج اذاعة خاصة، زيادة على ان هذا الجهاز "الاعلامي" معلوم انخراطه في منظومة نظام المخلوع التي لا تزال تهيمن على عديد القطاعات الحيوية واهمها الاعلام بالبلاد. كان يمكن ان يمر الخبر، دون ان يحدث هذه البلبلة العميقة، لو كان صدر في الاعلام العمومي او تم بطريقة مباشرة عبر ندوة صحفية او نقطة اعلام او بيان اخباري موجه لكل وسائل الاعلام، ولكن ان يصدر بطريقة التأكيد، تحت عنوان "حصري" ومن "مصادر جديرة بالثقة"، في وضع بدت فيه الاذاعة اما جهازا رسميا "مفوَّضاً" داخل وزارة الدفاع، او جهازا استعلاماتيا يضاهي اكبر الاجهزة العالمية الاستخباراتية قوة ودقة ولكن ايضا حصانة، او هي تابعة لاحداها تتلقى الاخبار منها مباشرة. ما يبعث على الانشغال العميق ويثير الريبة الواسعة هو ان الاذاعة هذه، التي يترأس تحريرها احد العناصر السابقين للبوليس، اوردت كل التفاصيل حول "تعيين شخصية لخلافة الحامدي" و"تاريخ الاعلان عنها"، موجهة اتهامات صريحة للقوات المسلحة ب"الفشل التكتيكي"، متهكمة على الحامدي التي اعتبرته "جاء به الرئيس المؤقت المرزوقي"، في اهانة واضحة لاحد اركان المؤسسة العسكرية باشارتها الماكرة الى كونه "تابعا" للمرزوقي الشخص، وليس خادما للوطن ومدافعا على الراية الوطنية. الخبر "الدقيق" في مضمونه، المدهش في شكله، حقق ارقاما قياسية في عدد المتابعين وعدد التعاليق والمشاركات، خاصة على شبكة التواصل الاجتماعي "فايسبوك"، وشغل كل الراي العام بل الشعب برمته الثلاثاء ليلا والاربعاء، خاصة وان التوقيت كان دقيقا وحساسا الى حد عال. والسؤال الكبير، ما ابعاد هذا الاعلان على هذه القناة التي تمثل خطا سياسيا مرتبطا منذ المخلوع بالبوليس السياسي وبخط الحركة المضادة للثورة؟؟ أن يأتي التجسيم الفعلي، من الغد صباحا، للخبر وبكامل التفاصيل، فهو ما يعمق الانشغال، خاصة وان الاعلان تم عن طريق قناة "خاصة جدا" بوزارة الدفاع نقضت تكذيب، لمجد الحمامي، الثلاثاء ليلا، الناطق (الذي يبدو بل ثابت انه ظهر غير رسمي) باسم وزارة الدفاع، للخبر المعلن في القناة المرتبطة عضويا بالطرابلسية، وكأن "هيكلا" داخل "هيكل" هو الذي يمسك بالقرار وتمثل الاذاعة المعنية ذراعه الاعلامية، التي قصّرت فقط في اعلان اسم "الخليفة"، خشية ان تنفضح الامور بشكل صارخ. كنا ننتظر في الحد الادنى بفتح تحقيق علني وشفاف، حول تسريب اسرار عسكرية عالية الحساسية، تمثل جناية خطيرة تهدد الامن وتمثل اعتداء واضحا على القوات المسلحة، وحول تضارب التصريحات وتداخل "الاجهزة" و"تناقض القرارات" داخل وزارة الدفاع، الوزارة المصنفة سيادية والمؤتمنة على سلامة التراب الوطني وامن البلاد، ولكن على ما يبدو ان الامر يندرج ضمن حركة عميقة مسنودة وتتمتع بكل الحصانة، لم تتضح بعد اغلب اهدافها، ولكن لم يمنع الوقوف عند الكثير من اسرارها. الكثير من التعاليق تحدثت عن وجود "مكائد" ومنها ما اشار الى وجود "تواطأ" و"تآمر" والبعض اثار وجود "تصفيات" ومنهم من وصل الى حد اعتبار وجود تخطيط ل"انقلاب" على المسار الانتقالي، والحقيقة ان الاسئلة مشروعة وكلها لها ما يسندها، خاصة وان استهداف المؤسسة العسكرية كان واضحا وممنهجا واندرج ضمن "حملة" متناغمة متصاعدة قادتها اجنحة القوى المضادة للثورة الاعلامية، انطلقت من اتهام احد قيادات النقابات البوليسية بصفة مبطنة ولكنها صارخة في نفس الان للجيش بالتخاذل بتجاهل تقارير استخباراتية بحدوث الهجوم البربري على جنودنا بالشعانبي يوم 16 جويلية، وتبعها ظهور رئيس نداء تونس الذي مرر كلمات في طعم السم في جسم القوات المسلحة. وما يؤكد وجود مخطط هو ظهور اصوات متجانسة متضامنة سياسية باجهزة اعلامية مشككة في الانتخابات وفي هيئة الانتخابات وصرصار، فشلت في هجمتها الاولى، وفجأة جدت بطريقة غريبة احداث الشعانبي الدموية، بشكل بدا فيه الحامدي رئيس اركان جيش البر المتهم الاول، خاصة وان المسألة تمت بطريقة غاية في الغرابة. السهولة التي تمكن منها المهاجمون من مباغتة جنودنا، تدل على ان الامر اكبر من وجود اخلالات في التسيير والقيادة، الى وجود اختراقات جوهرية داخل الجهاز العسكري، في منظومته المعلوماتية. ما جعل الصورة تتضح باستهداف الحامدي الذي يشكل صمام الامان خاصة لضمان استكمال مسار الانتخابات، هذا الرجل الذي شكل مصدر استهداف لهذا الاعتبار الجوهري ولكن من منطلق انتمائه الجهوي (سيدي بوزيد) وعدم ارتباطه بمنظومة بن علي وغياب علاقات مع الحركة المضادة للثورة والارتباطات الدولية ولحيازته الرضى والاجماع داخل المؤسسة العسكري، الذي جعله لا يستجيب ل"مشروع" مجموعة الاحزاب المرتبطة بالمنظومة النوفمبرية التي فشلت في ارباك المسار الانتخابي عبر محاولتها الاولى التي قادها رئيس نداء تونس. المؤسسة العسكرية صارت في مهب التناحر السياسي، والتدخلات الدولية الاستخباراتية المرتبطة ظاهريا وباطنيا بقوى سياسية معلومة، ما جعل الامور داخلها تتعقد والتحكم يصبح الى حد ما غير واضح، وهو ما اوقع الحامدي في وضع المرتبك الذي فقد السيطرة والتحكم، خاصة وانه فقد التجانس مع معاونيه الذين تم تعيين بعضهم بشكل مضاد لتوجهه، وجعله دون سلطة فعلية مع تحمل اخفاقات ومسؤوليات كبيرة، لا ننسى ان بعض القيادات مرتبطة بالجنرال عمار الذي تم ارغامه على الاستقالة في سنة 2013. عندما تصل التجاذبات والاختراقات الحزبية والدولية عمق المؤسسة العسكرية فالمستهدف يصبح الوطن، وبث البلبلة وارباك واضعاف معنويات الجيش صارت معلومة، والخيانة مطروحة بقوة، والتعتيم وعدم فتح التحقيقات الشفافة العلنية سواء السياسية او القضائية يصب في هذا الاتجاه. لم تمر تونس بعد الثورة بوضع ادق من هذا الذي نعيشه بتعقداته وتشابكه، تقديم الترشحات للانتخابات تفصلنا عنه ثلاثة اسابيع فقط، والانتخابات في اقل من ثلاثة اشهر، والوضع الامني هش، والوضع الاقليمي متفجر في ليبيا، والموسم السياحي الذي سينقذ الاقتصاد في فترة ذروته، ولا ندري فعلا لماذا يحدث الذي يحدث صلب القوات المسلحة في هذا الظرف الحساس بالذات!!؟؟ مجموعة من الاسئلة المشروعة ترفع حالة القلق الى مداها، وتضع في تداعياتها المستقبل الامني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي في حكم المجهول، وتهدد في ابعادها السيادة الوطنية وتفتح الباب امام اشكال تدخل اجنبي بطرق قد تختلف حسب الظرف وموازين القوى وتقاطع المصالح بين مختلف الاطراف الدولية والوطنية المعنية!!