في زمن التضييق وجفاف منابع العلم الشرعي اختار تونسيون الهجرة إلى منابع أخرى لم تنضب، فدرسوا بالأزهر الشريف وتخرجوا منه وعادوا إلى تونس حاملين سند العلم من أجل ملأ الثغور الحاصلة في بلادهم. الشيخ محمد الهنتاتي المتحصل على الدكتوراه من جامعة الأزهر اخترنا محاورته في علاقة الأزهر بالزيتونة وفي موقفه من آخر المستجدات على الساحة السياسية والإسلامية فكان الحوار التالي: لو تقدم لنا لمحة عن سيرتك الذاتية ومسيرتك العلمية في الأزهر؟ محمد الهنتاتي، متحصل على الدكتوراه في القرآن وعلومه من كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة. التحقت بالثانوية العامة في القسم الأدبيحيث خضعت لامتحان تحديد المستوى. تحصلت على الإجازة في أصول تفسير القرآن الكريم ثم الماجستير ثم الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى بموضوع الشمولية في علوم القرآن الكريم حيث صدر في كتاب على نفقة الأزهر. كنت أيضا سجين سياسي سابق متمتع بالعفو التشريعي العام على الورق فقط، سجنت بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مرخص فيها وعقد اجتماعات بدون رخصة وجمع تبرعات وإضرام النار في سيارات الداخلية، حيث كانت التهمة الأخيرة ملفقة لأنهم أرادوا توريطي بأي طريقة للتخلص مني. صعدت المنبر في عهد المخلوع بهوية مدلسة في إحدى عشرة مرة. كان آخر إيقاف لي يوم 13 جانفي 2011 رفقة أمان الله الجوهري ابن سحنون الجوهري شهيد حركة النهضة إذ تم نقلنا ليلا إلى أمن الدولة فتعرضنا لألوان من التعذيب قبل أن يتم إطلاق سراحنا يوم 17 جانفي 2011 بحيث لم نعلم بهروب بن علي إلا بعد يومين. ماهي ضوابط العمل الدعوي في تونس وهل يمكن أن يرتبط برخصة من الدولة؟ العمل الدعوي هو مشروع بالكتاب والسّنة والإجماع وهو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن البقية. ونظراللتجفيف الديني الذي خلفته الأنظمة السابقة فإننا مدعوون لأن ندعو التونسيين للإسلام من جديد، لا على سبيل تكفيرهم وثبوت كفرهم وإنما على سبيل تنبيههم من الغفلة. أما علاقته بالدولة فالأصل أن تكون هي الراعية للدين والدنيا في أي دستور في بلاد المسلمين، وإذا كانت كذلك فلا بأس أن نسترخص منها لكن إذا كانت تحارب الدين فلا يمكن أن نسترخص لأن الإجابة معلومة مسبقا. من ناحية أخرى يجب على الدولة أن تشرف على الدين وتحميه وأن توفر كلية للدعوة وتؤطر الدعاة وتفتح الباب أمامهم وإلا فلا ذريعة لها بأن تمنع الخيمات الدعوية وتمنع من تذكير الناس بدين ربهم بتعلّة قوانين بن علي التي لا تزال سارية المفعول إلى يومنا هذا. ماهو موقفكم من تعاطي الحكومة مع ملف أنصار الشريعة؟ تعاطي الحكومة مع هذا الملف لم يكن موفقا بالمرة وكان شديدا وقاسيا رغم بعض التجاوزات التي لا يمكن تعميمها على التيار السلفي بأسره، وإذا عممنا نكون قد سقطنا فيما سقط فيه بن علي وهو محاربة تيار وفكر كامل، وهذا ما نلاحظه على أرض الواقع اليوم، فهو لا يعد أن يكون محاربة لجريمة مادية قانونية جرمها المشرع التونسي. لقد أخطأت الحكومة في التعاطي معهم واستعملت نفس الأسلوب المستعمل أمريكيا وفرنسيا وبورقيبيا ونوفمبريا بشكل جعلها تذكر الشعب بتفاصيل يفترض أنها مضت وولت، كما أن الحكومة تتعامل مع أنصار الشريعة بالحديد والنار وتقيم عليهم الحجة إنهم يفتقدون للقانونية في النشاط بينما نجد أن الغالبية الساحقة من الناشطين السياسيين يخالفون أيضا الضوابط القانونية في أنشطتهم. وهذا يدل على محاربة تيار بعينه وفكر بذاته. ولو أرادت الحكومة النصح فعليها احتضان أبنائها وتوعيتهم والاستماع إلى مشاغلهم وإسداء الخدمات لهم لا أن تقتلهم وتسجنهم وتزيد في احتقانهم وغضبهم مما يحيل أرض وسماء تونس على صدامات تكون الضحية فيها دائما الدين والوطن. كيف تقرؤون مساعي إعادة جامع الزيتونة تحت سلطة وزارة الشؤون الدينية؟ الجامع قانونا يجب أن يكون تحت سلطة وإشراف وزارة الشؤون الدينية من حيث إدارته لا من حيث ملكيته، والمشيخة هي عبارة عن جمعية مستقلة الآن من الناحية القانونية. أما جامعة الزيتونة فهي تتبع وزارة التعليم العالي. ولذلك فالموقف معقد جدا وهذا ليس في صالح عودة التعليم الزيتوني كما نصبو إليه. ثم إني لا أقترح عودة التعليم الزيتوني بالشكل الجمعياتي الخيري أو بالشكل التقليدي الذي يجعله معزولا عن التعليم العصري، بل إن التعليم الزيتوني الأكاديمي يجب أن يمرر عبر المراحل التعليمية الرسمية القانونية الحكومية فيكون التعليم الزيتوني مصاحبا للتعليم العصري في مقررات ومناهج المرحلة الابتدائية وحتى في المرحلة التمهيدية. أما اليوم فمشيخة جامع الزيتونة معطلة لأن القائمين عليها وأعني ذلك حسين العبيدي لا يستطيع أن يتأقلم ويتفهم بعض الجوانب القانونية والبراغماتية لإنجاح عودة التعليم الزيتوني، وهو محق في بعض الأمور ومخطئ في بعضها الآخر. أما الذي أعتبره حاليا خطرا داهما على الزيتونة هو اختراقه من طرف الأحباش وشيخه في تونس فريد الباجي. هناك بوادر تعاون في القريب بين الزيتونة والأزهر من خلال انتداب أساتذة أزهريين للتدريس بالزيتونة، كيف ترون ذلك؟ لقد استعان الأزهر بالهيئة العلمية الزيتونية في وقت ما لتركيز التعليم السني وبالتالي إذا ستتم إعارة أساتذة أزهريين إلى مشيخة الزيتونة فلا حرج في ذلك لكن علينا تجهيز وتمويل انتدابهم مثل باقي البعثات العلمية، ولا أعتقد أن مشيخة الزيتونة قادرة على ذلك ماديا. عموما يمكن إرجاع مجد الزيتونة بإرجاع التعليم الأصيل ومقرارته فاليوم يجب تضافر الجهود بين وزارة التربية والتعليم العالي ووزارة الشؤون الدينية ومشيخة الجامع الأعظم إن كانت هناك نية صادقة لإرجاع ميراث الآباء والأجداد لأصحابه، وبنفس القدر كذلك يجب إصلاح جامعة الزيتونة وتشجيع البحث لدى الطالب الزيتوني في الشريعة وأصول الدين. وإن لم يقع هذا ففي اعتقادي أن عودة التعليم الزيتوني لن تنجح. ماذا عن إغلاق المدارس القرآنية؟ هذه نكبة كبرى وقرار خاطئ بامتياز فحتى في عهد المخلوع لم تتخذ مثل هذه الإجراءات وبالتالي هي فضيحة كبيرة إن استمرت الحكومة ولم تتراجع على ذلك، وسوف ينتقم الله تعالى لكتابه العزيز. وإني أذكر رئيس الوزراء التركي العلماني "بولند أجاوويد" عندما تأزم الوضع الاقتصادي وكثر الفساد المالي واقتربت حكومته من الفشل وأصبحت مهددة بسحب الثقة منها أراد تحريك الهاجس العلماني فأصدر قرارا بغلق جميع المدارس القرآنية في تركيا فزلزل الله الأرض من تحت الحكومة ومواطنيها الساكتين عنها بزلزال راح ضحيته قرابة 130 ألف مواطن. لكن الشعب التونسي لن يسكت عن هذا وأنا أولهم فالطامة والصاخة والقارعة إن لم يقع التراجع عن هذا القرار وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز "وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". ما قولك في توحيد الصفوف بين مختلف التيارات الإسلامية في هذه الفترة؟ توحيد الصفوف في هذه الفترة بالذات شيء مطلوب ومرغوب لكن يجب توفير الظروف الملائمة له من خلال احترام أربعة نقاط يمكن الاجتماع حولها لتحصل الوحدة بين الإسلاميين، وهي العلم والدعوة والجهاد في سبيل الله وتطبيق الشريعة. بهذه النقاط الأربع يمكن توحيد صفوف الإسلاميين في تونس لأن المساس بأي نقطة منها سوف يوسع الخلاف ويؤسس للتباعد والتباين وربما لا سمح الله التصادم وهذا ما يريده العدو الأوحد لنا. وماهو تقييمك لأداء حركة النهضة؟ للأسف لم تلتزم حركة النهضة بالمرجعية الإسلامية رغم وجود قاعدة كبيرة لهذه المرجعية داخل الحركة، والواقع أنها ليست الطرف الوحيد الحاكم في البلاد وإنما هي شريكة في الحكم وإن كانت صاحبة الأغلبية المؤثرة في القرار، لكن إذا تخاذلت حركة النهضة في نصرة العلم والدعوة والشريعة والجهاد فسوف تفقد قاعدتها الجماهيرية التي تروم دينها وتلتزم به. وإن كانت في موضع الضغط والضعف فعليها أن تصارح الشعب وتشركه في القرار وإن لم تفعل هذا وذاك فستكون بذلك قد دخلت في لعبة مريبة يجب فك رموزها وأعني بذلك التزامات لجهات غير وطنية من داخل تونس وجهات غربية غير راضية على ثورتنا المجيدة. أما أداء الحكومة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية فهو مقبول عموما لقصر الفترة وللإرث الثقيل الذي تركه عدو تونس الأول الباجي قايد السبسي. لكني في المقابل أرى الحكومة من الناحية السياسية ترضي أطرافا وتتنازل لهم رغم قلة وزنهم سياسيا وشعبيا وتطبق القانون فقط على الشباب الإسلامي بصرامة وبحزم وتطالبهم بالتراخيص لإقامة الخيمات والاجتماعات وتتغاضى عن الملحدين والعلمانيين. لقد تغاضت عنهم في 20 مارس وفي 9 أفريل وفي ذكرى حشاد وفي الحوض المنجمي وفي ترك الأحباش يصولون ويجولون ومع التشيع ومنحهم رخص جمعيات وأمام الحملات التنصيرية والتبشيرية ودخول 30 ألف تونسي للنصرانية. لذلك فالحكومة تمشي سياسيا في طريق مسدود وسوف ترتطم به قريبا إن لم تعد إلى الحق وتنصره. ويمكن القول أن الإسلام مستهدف اليوم في تونس وما يؤلم أنه من أبناء وطنه ولكن يجب أن يعلم كل الساسة أن الشعب التونسي قد خلع جلباب الخوف بنجاح ثورة 14 جانفي ولن يقبل التلاعب بدينه وقيمه وهويته حتى وإن رضي السياسيون فيما بينهم بذلك.