ذلك الذي رسم البسمة على الشفاه رحل عنّا إلى الأبد... ذلك الذي فتح العقول على أسئلة عجيبة وغير منتظرة وهو يكتب في ظلّ ظروف صعبة ومعقدة »لمحة« لجريدة الصباح أو »حربوشة« لجريدة الشعب... ترك هذا العالم »الحزين« ودخل العدم. عاش حزينا بحقّ... حزنا تراه مرسوما على قسمات وجهه ونابعا من أعماقه عند الكلام... ولكنّّ من بحار حزنه ومعاناته اعتصر الفرح للآخرين... لقد جنّد قلمه الساخر لمعانقة كافة القضايا التي آمن بها... ووصل القمّة حقا حين تحامل على جسمه الضئيل وانضمّ الى جريدة الشعب ليحتلّ مكتبا صغيرا يمارس فيه طقوسه في الكتابة، ويحاول فيه معانقة آلام الكادحين وقضاياهم العادلة. كان يكتب في ذلك الركن الذي يكاد يكون مظلما، على ضوء خافت لفانوس كهربائيّ موضوع بعناية فوق مكتبه... وكان اللون الأخضر هو الطاغي في ذلك المكان... فهو لون الستار الموضوع على الحائط... ولون الغطاء الذي يغطّى »طاولة« الكتابة... فذلك هو الدّيكور الذي اختاره لإبداع »حرابشه« التي دوّخ بها القرّاء بحضور بديهته وبجرأته في نقد كلّ المظاهر الاجتماعية البالية وكلّ المواقف السياسية التي يراها ظالمة أو منافية للعدل. لقيت »حرابشه« صداها عند الكادحين حتّى انّ عمال المناجم بالجنوب التونسي وهم يهتفون بحياة الحبيب عاشور الذي كان يؤدّي زيارة اليهم في الظروف السابقة لانتفاضة 26 جانفي 1978 قد لفت نظرهم وجود صاحب »الحرابش« الى جانب زعيمهم فخصّصوا تصفيقة حارّة لتحيته وهو أمر غير معهود بكثرة في حياة الصحفيين. سيكتب التاريخ ما شاء عن محمد ڤلبي... هذا الذي نشير إليه بكلامنا السابق... لأنّ الرجل ككل الناس كانت له الى جانب محاسنه أخطاء ونقاط ضعف... ولكن التاريخ سيحفظ حتما أنه كان عمادا من أعمدة الصحافة الحرّة والساخرة... وأنه كان بحقّ وريثا لعلي الدّوعاجي وصحبه الذين أثثوا أربعينات القرن العشرين بزخم من الكتابات الخالدة... وصاغوا إبداعاتهم من خلال معاناتهم وبؤسهم... وهم الذين عاشوا يتمنّون »عنبة« فتقصر عنها يدهم. كذلك عاش محمد ڤلبي... فأنا أعرف أنه مات وفي قلبه غصّة... إذ ساررني يوما بأسف تامّ قائلا:... »لو كانت الظروف المادّية والسياسية تسمح لي بذلك لتقدّمت بطلب لتأسيس جريدة ساخرة من طراز»الكانار أو نشينى« الفرنسية (جريدة »البطة المغلولة«)... ولم ألتق به كثيرا بعد 26 جانفي 1978... ولكنني أذكر انني قابلته آخر مرّة صدفة أمام قصرالعدالة وقد أطلق لحيته... وازداد حزنا... وكان برفقتي الاستاذ عبد الستار بن موسى رئيس الفرع الجهويّ للمحامين بتونس آنذاك... وبعد تبادل التحية، وبعد أن تولّيت تقديمهما لبعضهما وتبادل الكلمات التي تفرضها تلك اللقاءات العابرة سألته وأنا أعرف الجواب مسبّقا: أين وصلت في حلمك لإنشاء صحيفة هزليّة؟ فأجابني بكلمة واحدة: وا أسفاه! ونحن نودّعه اليوم فإنّ وطنا بأكمله يجب أن يأسف لأنّه كانت لديه قيمة فكريّة مجسّمة في إنسان... وكفاءة نادرة... ولكن لم يقع استغلالها كما ينبغي. فوداعا محمد قلبي... وعزاؤنا وعزاؤك أنك فعلت رغم كلّ شيء ما تستطيع... وأنك ساهمت بقسطك في النضال من أجل الحرية والعدالة... وهو نضال سيتواصل حتى تحقيق أهدافه.