في صمت رحل.. وفي هدأة قرّر الإنسحاب إلى ملكوت أرحب وإلى عوامل قد يترجّل فيها القلم عن الصهيل والعقل عن التفكير.. لم يخف كعادته.. واجه موته بشجاعة، وبلا تردّد.. قد يكون اقتنع في قرارة نفسه، أن دورة الحياة قد اكتملت وبأنّ الرسالة التي عاش ليكتبها قد وصلت وأنّه قد أزف أوان الرحيل.. رحل »محمّد ڤلبي« صاحب »الحربوشة« لقاح الشغّالين.. رحل الحكيم العارف بأوجاع الشعب وآلام المساكين. رحل في غمرة احتفال الشغالين بذكرى التأسيس ومعارك النضج والإكتمال، رحل في شهر الانتفاضات.. جانفي الحريّة والإرادة.. جانفي الاضراب العام والمحاكمات والتعذيب.. جانفي السجن.. ولكنّه أيضا جانفي النضال والصمود ضدّ اعداء الحوار الموتورين.. رحل من دون أن يكتب »لمحة النهاية« أو »حربوشة« الوداع الأخير. سيذكره العمّال والفلاحون.. سيذكره العاطلون والمهمشون.. سيذكره الشعب حين تزدحم الرزايا وتبحّ الأقلام.. فإن يكن »ڤلبي« قل أسلم الروح لخالقها، فإنّ شهادة وفاته قد كتبتها بالحبر الأسود القاني الممزوج بدم الشهداء الذين سقطوا على مذبح الحريّة ذات 26 جانفي 1978.. شهادة وفاة ووصيّة كتبها حين ألجم الرصاص الأفواه واخترق أجساد المئات، وأعلنت المشانق أراجيح للرجال في الميادين والساحات. كتبها من هنا، على صفحات »الشعب« وباسم الشعب معلنا »الكرنفال (❊)«. كرنفال العزّة للشغالين وللشعب الكرامة والسلام: »إنّما اعلموا أن حبسكم لا طاقة له على إحتواء حريّة التفكير. وانّكم إن قدرتم على اعتقالنا فلن تستطيعوا أبدا اعتقال المستقبل والمصير.. وأمّا مسألة القتل والذبح والإغتيالات، فهي لا تخيفنا لأننا لن نكون حاضرين لقراءة إعلان الوفاة، إنّما ان صعدنا إلى جوار الربّ وهجرنا هذه الديار.. اذكروا فقط أنّنا سنترك فيها من بعدنا أولادنا الصغار.. ومن يدري قد يحكمون غدا في أولادكم وتحدثهم نفسهم لا قدّر اللّه بأخذ الثأر!«. ... رحم اللّه »محمد ڤلبي« أو »حمّادي« كما يحلوا لرفاق دربه أن ينادوه. (❊) »كرنفال« هو عنوان »حربوشة« كتبها محمد ڤلبي أثناء الاضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشعب في 26 جانفي 1978. وقد كتب هذه »الحربوشة« ردّا على تصريح أحد الوزراء الذين هدّدوا بنصب المشانق لقيادات الاتحاد في ساحة باب سويقة.