يتوزع المشهد الإعلامي في أي مجتمع إلى خمسة عناصر أساسية. وهي تتدرج حسب مدى انتشارها وفق الترتيب التالي، التلفزة ثم الإذاعة فالصحف ثم الدوريات، والانترنت كعنصر حديث هي الخامسة في هذا الترتيب رغم تصدّرها في بعض البلدان مراتب متقدمة لسرعة انتشارها واستعمالها، وهذا الترتيب الذي أوردته ليس ثابتا في كل المجتمعات بشكل مستمر ونحن في مجتمعنا تقريبا يتدرج المشهد الإعلامي وفقا لذاك الترتيب، وهو لا يعنيني هنا بدرجة أولى. كما أن تنوّع وسائل إعلامنا التقليدية منها والمستحدثة وتناسلها المطرد لا يعنيني أيضا، ولكن وجب أن نعدّد أطرافها التي تتمثل أساسا في أربع قنوات تلفزية وأكثر من تسع محطات إذاعية بين خاصة وجهوية ووطنية وكذلك أكثر من ثلاثين صحيفة ودورية بين يومية وأسبوعية وشهرية، ولدينا أكثر من مشغلين للشبكة العنكبوتية، حكومية وخاصة... هذا »الثراء« الإعلامي مقارنة ببعض البلدان من جهة ومقارنة بفترة ما قبل عشرين سنة من جهة ثانية، لم يعكس بعدُ طفرة نوعية تواكب بشكل جدّي نسق المعلومة الوطنية والإقليمية والدولية ولم يحقق في تقديري الشخصي ما اصطلحتُ عليه بالسميق الإعلامي، أي الحدّ الادني الذي لا يجب النزول تحته، وهذا السميق أو الحد الأدنى قد يرتبط بهامش الحرية المفترض أن يكون متحققا بشكل أو بآخر، وهو بالفعل مرتبط بها، ومن دون ذلك الهامش لا يمكن أن نتحدث عن إعلام حرّ ومتطوّر ومواكب وله قُدرة تنافسية، ولكن وبغض النظر عن هذا الهامش الحيوي والاستراتيجي، هناك هامش آخر أو لنقل هناك أرضية ضرورية لتماسك هذا القطاع وهي المتمثلة في كل ما هو ايتيقي أي أخلاقي وكل ما هو استيتيقي أي جمالي... ومن دون التفصيل والتدقيق يمكننا أن نقف على »ارتباك« وتذبذب هذه الأرضية وانحسار هذا الهامش بشكل مريب في عناصر مشهدنا الإعلامي الخمسة من دون استثناء... فالمحطات التلفزيونية لا تزال أسيرة الخبر المعلّب والخطاب الخشبي المتكلس الذي إما أن يكون مفروضا أو منقولا ونادرا جدا ما نقف على »سبق« تلفزيوني أو خبر مبتكر من حيث صيغته وأسلوب تقديمه، هذا إلى جانب السقوط اللغوي الفظيع الذي يجذب المشاهد يوميا إلى بؤر العقم والخرس... أما الموجات الإذاعية فقد استحسنت ركوب طوفان الأغاني المبتذلة واستغفال المستمع من خلال برامج مصطنعة تنأى عن هموم المواطن ومشاغله الحقيقية وظلت كذلك أخبار الإذاعات تسبح في فلك النص المكتوب سلفا والتقديم الباهت على وتيرة التلفزات... صحافتنا المكتوبة هي الأخرى مازالت تكابد لتصل للسميق الإعلامي، فبغض النظر عن قلة قليلة من بعض الصحف، فان غالبية الصحف لم تعد تستحي من نقل أخبار الانترنت وتحليلات الفضائيات الدولية طبعا إلى جانب صفحات الحظ والأكل وحشد الورق بالصور والتعاليق البائسة... وحدها ربما الشبكة العنكبوتية صارت متنفسا حقيقيا لتمرير الأخبار اليومية والجادة رغم ما يحاط بهذه الشبكة من عراقيل تقنية ومقصودة... إن الخبر الذي لا يتطور من العمق والذي لا يقع تحليله وتقديمه من الزوايا الأكثر التصاقا بواقعه وتداعياته لا يمكنه أن يكون مادة مستساغة سواء للقارئ أو المشاهد أو المستمع أو المبحر عبر الانترنت...