بنزرت: تنفيذ قرارات هدم وإزالة لاسوار واعمدة خرسانية    مدنين: بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري بعد مراجعة تسعيرة البيع بالجملة    وزارة التجارة: المواد المدعّمة تتصدّر قائمة المخالفات الاقتصادية    عاجل/ الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل أغلب الطلبة المعتصمين    مجددا بعد اسبوعين.. الأمطار تشل الحركة في الإمارات    رئيس لجنة الشباب والرياضة : تعديل قانون مكافحة المنشطات ورفع العقوبة وارد جدا    رسميا/ روزنامة الامتحانات الوطنية..#خبر_عاجل    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    صناعة النفط و النقل واللوجستك : تونس تنظم معرضين من 25 الى 28 جوان المقبل    المغازة العامة تتألق وتزيد رقم معاملاتها ب 7.2%    4 حالات وفاة في شهرين:طبيب بيطري يحذّر من انتشار داء الكلب في صفوف التونسيين.    إضراب حضوري للمحامين بمحاكم تونس الكبرى    رسميا: الشروع في صرف قروض السكن في صيغتها الجديدة ابتداء من هذا التاريخ..#خبر_عاجل    بنزيما يغادر إلى مدريد    تتصدرها قمة الإفريقي والصفاقسي.. تعيينات مباريات الجولة الأولى إياب من مرحلة التتويج للبطولة الوطنية و النقل التلفزي    عبد المجيد القوبنطيني: " ماهوش وقت نتائج في النجم الساحلي .. لأن هذا الخطر يهدد الفريق " (فيديو)    اليوم: جلسة تفاوض بين جامعة الثانوي ووزارة التربية    جبنيانة: الكشف عن ورشة لصنع القوارب البحرية ماالقصة ؟    فظيع/ حادث مروع ينهي حياة كهل ويتسبب في بتر ساق آخر..    صفاقس_ساقية الدائر: إخماد حريق بمصنع نجارة.    وزيرة التربية: ''المقاطعة تساوي الإقتطاع...تسالني فلوس نخلّصك تتغيّب نقصّلك''    إرتفاع أسعار اللحوم البيضاء: غرفة تجّار لحوم الدواجن تعلق وتكشف..    هواة الصيد يُطالبون باسترجاع رخصة الصيد البحري الترفيهي    24 ألف وحدة اقتصاديّة تحدث سنويّا.. النسيج المؤسّساتي يتعزّز    بطولة الكرة الطائرة: النادي الصفاقسي يفوز على مولدية بوسالم    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    حادث مرور قاتل بسيدي بوزيد..    النادي الإفريقي: هيكل دخيل ينطلق في المشاورات .. إستعدادا للإنتخابات    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    الحبيب جغام ... وفاء للثقافة والمصدح    وفاة الممثل عبد الله الشاهد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    الحماية المدنية: 9 قتلى و341 مصابا خلال ال 24 ساعة الماضية    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    روبليف يقصي ألكاراز ويتقدم لقبل نهائي بطولة مدريد المفتوحة للتنس    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    البنك المركزي : نسبة الفائدة في السوق النقدية يبلغ مستوى 7.97 % خلال أفريل    حالة الطقس ليوم الخميس 02 ماي 2024    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    المهرجان الدولي للثقافة والفنون دورة شاعر الشعب محمود بيرم التونسي .. من الحلم إلى الإنجاز    وزيرة التربية تكشف تفاصيل تسوية ملفات المعلمين النوّاب    تونس:تفاصيل التمديد في سن التقاعد بالقطاع الخاص    بينهم ''تيك توكر''...عصابة لاغتصاب الأطفال في دولة عربية    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    وفاة غامضة ثانية لمسؤول كشف العيوب في طائرات 'بوينغ'    مايكروسوفت تكشف عن أكبر استثمار في تاريخها في ماليزيا    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    تركيا ستنضم لجنوب إفريقيا في القضية ضد إسرائيل في لاهاي    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    المرسى.. الاطاحة بمنحرفين يروّجان الأقراص المخدّرة    وزارة الشباب والرياضة تصدر بلاغ هام..    الكاف: اليوم انطلاق فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان سيكا جاز    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخميس الأسود أو عندما أفلتت العملية السياسية من أيدي السلطة
بقلم: الطاهر بلخوجة وزير الداخلية السابق
نشر في الشعب يوم 06 - 02 - 2010

استفحل الانقسام داخل الحزب والحكومة في النصف الثاني من سنة 1977، وكان كلّ من الطرفين يتبجحّ بدعم الوزير الأول. والحقيقة ان نويرة حاول البقاء فوق الخصومات وشجع ضمنيا اتجاهنا وتجاوب مع تمسكنا بالاعتدال ورفضنا الاستفزاز والتصعيد. وكان الحبيب الشطي وزير الشؤون الخارجية يبلغنا تعاليق البلدان الأجنبية وكلّها نقد وحيرة. وكان محمد الناصر وزير الشؤون الاجتماعية يجتهد عبثًا، وكان مطلعا على أدنى دقائق تفكير مخاطبيه في الحكومة وفي الاتحاد. وكان عبد العزيز الأصرم وزير الاقتصاد يهتز لمشاكل مؤسساته الاقتصادية.
وتأثّر المنجي الكعلي من حوادث قصر هلال، ولازم المنصف بن الحاج عمر الوزير الأول لإخباره وطمأنته. وكان دوري دقيقا في وزارة الداخلية يتمثّل في تهدئة الخواطر وصد الاستفزازات حتى لا تتعكّر الأمور. وكنّا نسهل للوزير الأول مهمّته بفضل علاقاتنا مع أقراننا واطاراتنا السياسة ومع عالم الشغل. وكانت رؤيتنا وموقفنا المتحرّر يواسيانه ويجلبان صورة طيبة لحكومته.
أمّا رئيس الدولة الذي كان قد رفض بوضوح في سبتمبر 1977 إقصاء الزعيم النقابي من الديوان السياسي وأوصانا بالمصالحة، فإنّه في هذه المرّة منزعج من الاضطرابات الاجتماعية وخاصة من عجزنا عن مسك زمام الأمور. وكان قد حملنا على أن نندفع في اتجاه الوفاق والعمل الإصلاحي بعد اضطرابات قصر هلال، ولكنّه لم يتصوّر هذه المرّة مدى خطورة الوضع، واحتفظ بثقته المطلقة في سلطته الطبيعية والشرعية مقتنعا بتفوق الدولة والحزب دائما وفي جميع الظروف.
وتصدّع العمل السياسي في القمّة، وازداد تدهور الوضع الاجتماعي لاسيما في المدن الكبرى مثل تونس وصفاقس وسوسة وقابس وقفصة...وكان الولاة الذين لم يعودوا تحت سلطة الحزب كما كان الشأن خلال فترة تعميم التعاضد يحاولون سدّ الثغرات. وتجاوزت الأحداث اللجان الجهوية للمصالحة التي أنشأتها بصفة استعجالية وزارتا الداخلية والشؤون الاجتماعية والتي كانت تضمّ الحزب والشركاء الاجتماعيين في الجهات.
وانعقدت الندوة العادية للولاة من 26 إلى 28 نوفمبر 1977 بجندوبة، فكانت مناسبة لعرض خطورة الوضع الذي لم يعد يتحمّل أي تراخ أو تردّد. وكانت للمرّة الأولى جلسة مغلقة مع الوزير الأول وكان مصحوبا بثلّة من كبار المسؤولين مدير الحزب ووزراء الاقتصاد والشؤون الاجتماعية والكاتب العام للحكومة. فطلب الولادة بإلحاح الإسراع في إصلاح سياستنا في القمّة، ذلك الإصلاح الكفيل وحده بالإنعكاس على القاعدة لتهدئة التململ الذي عمّ كلّ الفئات، وقد تضخم القلق في البلاد وعمّت الحيرة. وضرب الولاة عدّة أمثلة حول تعقد المشاكل على مستوى المسؤولين المحليين، وتسربها في آخر الأمر إلى الشارع، فينساق الشعب كلّ مرّة وعلى رأسه المهمشون والمنبوذون. ولم تعد قوات الأمن قادرة على السيطرة على الوضع الذي أذهل الوزير ولكنّه تجاهل الأسباب السياسية واكتفى بالتذكير بأنّ جميع الأعمال ينبغي ان تتمّ في الإطار القانوني، وكرّر ثقته في تمسكه بالميثاق الاجتماعي، وقلّل من أهمية النزاعات الاجتماعية الأخيرة، مفتقدا هكذا لأي حلّ سياسي وكأنّه يموج تحت وطأة الأحداث.
وفي اليوم التالي وأثناء جلسة ثانية مغلقة بحضور مدير الحزب والوزراء الموجودين في جندوبة، ركّز الولاة على النزاعات في جهاتهم، ففسّروها بالتفاوت بين حدة المشاكل وتصرف القادة في الجهة، وأكدوا أنّ التناحر سيزداد خطورة في الجهات ان لم نتوصّل إلى وفاق بين ممثلي الحزب وممثلي النقابة محلّيا طبقا لوفاق في القمة.
فاقتصر مدير الحزب، بدون أن يقدم حلولا عملية، على الإشارة إلى ضرورة صيانة الوئام في البلاد ولم يستجب لتساؤلات الولاة. ومن جانبي ختمت كلمتي بالإعراب عن أملي في حصول استفاقة جماعية مع التصريح بشدّة بأنّي »لن أتحمّل مسؤولية أي مواجهة دامية«. فأزعجت هذه الجملة الكثيرين بينما انشرح لها معظم المواطنين عند قراءتها بالصحافة. وقد نقلت جريدة الصباح بتاريخ 29 نوفمبر 1977 بعض مقتطفات من الخطاب العلني الذي ألقيته في اختتام ندوة الولاة حيث قلت:
»لقد عمل الحزب دوما وأبدا من أجل ثورة اقتصادية تكون مصحوبة بثورة عميقة في العقليات. ونحن اليوم فقدنا مصداقيتنا أمام شباب أصبح ينبذ وضع بلاده. فهل ينبغي اللجوء إلى القمع لإصلاح تلك العناصر التي تنحصر في المنقطعين عن التعليم والعاطلين والمهمشين الذين يزداد عددهم على نحو خطير يوما بعد يوم؟ (...) فمن الخطأ أن نظنّ آن القمع يحلّ المشاكل ويغنم العقول فينبغي لنا تحليل جوهر مصاعبنا. (...) ويجب علينا اليوم وضع حدّ للمواجهات بين مختلف فئات المجتمع (...) ذلك أنّ النظام البورقيبي يرتكز على كسب الجماهير الشعبية بصفة تلقائية«.
وفي العاصمة، ومع الأسف لم يتبع تلك الندوة أي اجتماع استعجالي، لا في الحكومة ولا في الديوان السياسي، اذ أنّ تفتّت السلطة المركزية لم يعد يسمح بذلك. وبدا الوزير الأول وكأنّه لا يتحكم في الوضع، ذلك أنّ المشاكل أصبحت تكتسي صبغة نزاعية، وعجلت بتفسخ النظام ووضعه في قفص الاتهام. فاحتدت لهجة الكتابات والأقوال، وصرّح مثلا أحد المسؤولين، سواء من باب الحماقة أو من باب الاستفزاز، بوجوب اقامة مشانق في ساحة باب سويقة، تلك الساحة الرمزية الشعبية في مدينة تونس العتيقة.
وأعيدت الكرّة لبعث منظمة نقابية منافسة لاتحاد الشغل. واستقبل بورقيبة بطلب ملح من مدير الحزب، وبصورة رسمية وعلنية، أحد النقابيين القدامى: فرحات الدشراوي العضو السابق في المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل ووزير الشؤون الاجتماعية سابقا. فتلقّى المسؤولون في الاتحاد وعموم المنخرطين تلك المناورة بامتعاظ واعتبروها بداية الهجوم على قيادة منظمتهم. وبرزت المناورة بوضوح في شهر نوفمبر من خلال مقابلات الصيّاح والدشراوي، ثم حين طلب مدير الحزب صراحة بعقد مؤتمر استثنائي للمنظمة النقابية لإقصاء عاشور. وقد حرص الحزب منذ مدّة على تنظيم العناصر المنشقة عن اتحاد الشغل وتمويلهم.
[وقد كان عاشور أول من اقترف لعبة مماثلة عام 1956 ضدّ الاتحاد الذي كان يرأسه عندئذ أحمد بن صالح، لما انشق وأنشأ الاتحاد التونسي للشغل الذي لم يعمّر طويلا].
وأصبحت جميع المضاعفات والمخاطر محتملة، ولم ينحصر النزاع في تلك المناورات السياسية بل تسرّب إلى الشارع. وأكّد الاتحاد انتشار وجود ما أسماه بالمليشيات غير الشرعية، وكتب انّ قرّاء صحيفة الشعب (الأسبوعية الناطقة بلسان الاتحاد) يتعرّضون للهجوم والضغط، وانّ بعض قادة المنظمة قد سير بهم الى المقرات الجهوية للحزب (...). وجمع عاشور ملفّا كاملا وموثّقا يلخّص تلك الاعتداءات بالاستناد الى تواريخ مضبوطة والى تصريحات الشهود. فأمرت بإجراء تحقيق أثبت وجود تلك الأعمال العنيفة. وطلب منّي الديوان السياسي إصدار بلاغ لتكذيب وجود مليشيات تابعة للحزب. فأصدرت بلاغا يعلن »أنّ وزارة الداخلية لا علم لها بوجود مثل هذه الميليشيات«. فتحسّر بعضهم في الحزب من أنّ البلاغ لم ينفِ قطعا وجودها.
ولم يؤكد مدير الحزب رسميا حقيقتها الاّ بعد الخميس الأسود في تصريح لمجلة »جون أفريك« (26 جانفي 1978)، جاء فيه: »كان للحزب الاشتراكي الدستوري في كل وقت أشخاص ملحقون بمصلحة النظام التابعة له. وقد انخفض عددهم في المدّة الأخيرة إلى 200. لكن قبل يوم 26 جانفي، استدعينا 500 عنصر. وقد اضطررنا الى استخدام أولئك الشبّان الإضافيين في ظروف محدّدة لمساعدة قوات الأمن«.
وكانت تلك الوحدات تتصرّف في الخفاء خلال ذلك الخريف من سنة 1977، ثمّ راجت أخبارها وأساطيرها عند المواطنين. فأعلم الحبيب بن قمرة المحافظ المركزي للشرطة بالعاصمة المدير العام للأمن أنّ سيارات عادية مكتظّة بعناصر مشتبه فيها تجوب الشوارع، لاسيما في المساء والليل بدعوى القيام بمهمات »الرعاية«. فوجهت تعليمات صارمة لإيقاف المعنيين بالأمر والاحتفاظ بهم في مراكز الأمن طوال الليل لاستجوابهم. لنتصور وزيرا للداخلية يزجّ بمليشيا حزبه في السجن! ولم أنبه نويرة ولا الصياح ولا أيّا كان لأنّي اعتبرت أنّ الأمر يتعلّق بمشكل أمني ينبغي تطويقه بسرعة. وأشعر المحافظ المركزي بعض المسؤولين في الحزب سرّا بالأوامر التي أصدرتها تحذيرا لهم حتى لا يتفاقم الأمر. وفي الحين اختفى أعضاء لجان الرعاية، وهكذا وضعت حدّا ولو لفترة ما لانحراف كاد يجرّنا الى دوامة العنف والتعسّف.
وفي خضم ذلك، بادرت المنظمة النقابية في توسيع نطاق مطالبنا لتعزيز موقعها. وطالب عمّال حوالي عشر شركات عمومية بزيادة أجورهم، وهي عملية محفوفة بالمخاطر اقتصاديا باعتبار انّ الأجور قد تمّ رفعها في مطلع السنّة بنسبة 33٪ بمقتضى الميثاق الاجتماعي. فدعوت عاشور شخصيا إلى التأنّي وإلى تهدئة جماعته. فاقتنع بأنّه يجب الحذر من الفخوخ والاستفزازات التي تؤدي قطعا الى تعقيد الأوضاع. وأنشئت لجان مشتركة بين الحكومة ومنظمة الأعراف واتحاد الشغل، وفتحت المفاوضات المتعلقة بمراجعة القوانين الأساسية لبعض الشركات، ولكنّها فشلت رغم الجهود التوفيقية من وزير الشؤون الاجتماعية، لأنّها لم تكن سوى ستار للذين استعدوا لمواجهة عاشور وحركته، بعد ما فاتتهم الفرصة في قصر هلال.
وبدأت المحاولة الأولى دون استشارة الديوان السياسي من خلال ايداع القانون الأساسي »للقوّة الشغيلة التونسية« لدى مصالح وزارة الداخلية بصورة رسمية هذه المرّة، ممّا زاد في غضب النقابيين.
وبينما كنّا في الحكومة والحزب نتأرجح بين السكينة والمواجهة، وإذا بنوايا مريعة تجد في أواخر نوفمبر 1977. ذلك أنّ شخصا أفرزه المجتمع لانحرافه وسوابقه يدعى مبروك عبد الله الورداني ساهم سنة 1962 في اغتيال صالح بن يوسف قد أخرج مسدسا في أحد الفنادق بسوسة، معلنا »أنّ نفس هذا السلاح الذي استعمل لتصفية ابن يوسف«، سيستعمل للقضاء على الحبيب عاشور...«. وانتشر الخبر بسرعة. فزارني عاشور لإعلامي »رسميا« قبل أن يقدّم شكواه. وأثبت تحقيق مصالح الأمن صحّة التهديدات. فأعلمت بذلك الوزير الأول، وناقشنا الموضوع في اجتماع مضيق. وقد كان بعضهم يريد لف القضيّة، وكان عبد الله فرحات منزعجا لافتضاح الموضوع وخشي أن يتخّذ هذا المشكل ابعادا سياسية لاسيما وأنّ مبروك أصيل بلدته الوردانين. وكان لابد من تحمّل مسؤولياتنا أمام الواقعة، فأمرت بإلقاء القبض على المعني بالأمر فأودع السجن. واستوجب ذلك اعلام الرئيس توا، فوجهت إليه مدير الأمن عبد المجيد بوسلامة مصحوبا بمعاونه عبد الحميد السخيري. فشرحا له تفاصيل القضية وانعكاساتها الخطيرة. فسألهما بورقيبة هل هناك احتمال وقوع مواجهة أو اضطراب يهزّ البلاد. فأوضحا له بصراحة أنّ الأمور تسير بسرعة الى التعفّن وإنّنا مقبلون على مواجهة فترات عسيرة. فهمهم الرئيس مطوّلا وطالبهما بالتيقّظ، ثمّ باح لهما عند الباب: »قلت لنويرة والصياح بأن يتفاهما بسرعة مع بلخوجة، وهذا ما سيساعدكم على حفظ الوئام«.
ثمّ دعاني رئيس الدولة في المساء ذاته لتحليل الوضع، وجدّد لي تشجيعاته المألوفة للسعي إلى إحلال الوفاق ان أمكن، وإلى الصرامة إذا وجب ذلك. واستدعيت عاشور، فرفض سحب شكواه وذكّرني بأنّ وزير الداخلية أحمد المستيري نبّهه سنة 1971 إلى عملية مماثلة موجهة ضدّه، ومنحه رخصة لحمل السلاح لم يستعملها قط. ثمّ استدعى عاشور إلى قرطاج، فآشتكى للرئيس من كلّ شيء، ولم يتعهّد بأي شيء. وقد كان يعلم أنّ السلطة تستعد لتعويضه، فاستند على تضامن اتباعه ومؤازرة منظمته.
وبمناسبة إحياء ذكرى اغتيال فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر، أجاب الحبيب عاشور على مآخذ خصومه: »نأمل أن لا نصل إلى التصادم الدموي، رغم بعض الذين يودّون نصب المشانق«. ونشرت جريدة »الشعب« لسان الاتحاد في الصفحة الأولى من عددها في 9 ديسمبر العنوان التالي: »إنّهم يعدون لنا المشانق، ونحن لا نريد لهم الاّ الخير«. وأضرب يوم 8 من نفس الشهر رجال التعليم، ثمّ قرابة 13000 من عمّال المناجم في قفصة، وأعلن عمّال السكك الحديدية الاضراب ليوم 16.
وبمناسبة مناقشة ميزانية سنة 1978 بدا الوزير الأول متحيّرا في خطابه الافتتاحي في مجلس الأمة أمام الذين يحثّونه على المواجهة من جهة والذين يحاولون تجنبها من جهة أخرى. فوضع الجميع أمام مسؤولياتهم وقال: »انّ البلاد على وشك الانحدار في اتجاه المواجهة التي من شأنها ان تنسف سياستنا التعاقدية وان تجرّ نظامنا في دوامة التطرّف والقطيعة بين الأجيال (...) انّنا نقترح العودة الى الأخلاقية البورقيبيّة أي إلى الحوار الصريح الصحيح (...)« وواصل بنفس اللهجة ودون ان يهتمّ بالتناقض وقال: »انّ بعض المعارضين لنموذجنا الإنمائي واختيارنا الاجتماعي قد تمكّنوا بمهارة من استعمال الحركة النقابية كنقطة ارتكاز (...) اقرأوا المقالات التي تصدر هنا وهناك في بلادنا وفي الخارج بلغة مقتبسة من معاجمهم الماركسية أو اليسارية المعهودة أو البعثية المتعارفة«.
فأجابت الندوة التي نظمتها الجامعات النقابية التونسية والكنديّة للبنوك ومؤسسات التأمين في بيانها: »لايمكن أن نتصوّر وجود حريات نقابية بدون حريات فردية وعمومية«.
وزاد في الطين بلّة إعلان المصمودي يوم 12 ديسمبر في الصحافة عن عودته الى تونس في نفس اليوم. وقد أدلى مدير الحزب يوم 7 بتصريح الى جريدة »الجزيرة« السعودية، وكأنّه يمد إليه يد المساعدة: »ليس هناك ما يمنع رجوع المصمودي. فقد ذهب من تلقاء نفسه، وأوهم بعكس ذلك الرأي العام العربي والدولي«. فانتهز المصمودي الفرصة، وعقّد الوضع قبل عودته حيث قال: »يجب تشجيع اتحاد الشغل وعاشور على العمل على توثيق أواصر الوحدة الوطنية. انّ الاتحاد قادر على أن يبعث مع ليبيا مشاركة قائمة على أساس التضامن والتعاون، بضمان قاعدة شعبية تجعلها في مأمن من النزوات«.
فكان ذلك بالضبط ما كان يكفي لإقناع نويرة بأن من أزعجه من قبل قد قدم لنجدة عاشور. واستقبل المصمودي في تونس من طرف الزعيم الفلسطيني »أبو أياد« أمام مدرج الطائرة وقد طالبه المصمودي من قبل بأن يكون »شاهدا«. وعند منتصف الليل، اتصل بي الوزير الأول هاتفيا وهو منزعج: »لقد نجحت مؤامرة المصمودي«. فبيّنت له أنّ هذا الأخير سيكون أقل ازعاجا داخل البلاد منه خارجها. ثمّ قررنا وضعه تحت الإقامة الجبرية.
وفي مجلس الأمة، بين النقاش الذي جرى يومي 13 و14 ديسمبر رصانة كثير من النواب أمثال الحبيب ماجول الكاتب العام لمنظمة الأعراف، أو توفيق الصيد رئيس المنظمة الفلاحية الذين كانوا يخشون دوامة العنف، فأعربوا عن رغبتهم في تحلّي المسؤولين بالاعتدال والتعقّل، في حين حاول النائب الدستوري حسن قاسم إثارة الهجوم على اتحاد الشغل من جديد قائلا: »ينبغي أن تظهر الدولة أكثر ما يمكن من الصرامة والحزم في معاقبة مثيري الشغب، وانّ الخطر الكبير يتمثّل في العناصر الأجنبيّة التي تسربت إلى صفوف المنظمة النقابية لنشر نظريات الشغب والدمار«. وبالعكس دعا خيرالدين الصالحي، عضو المكتب التنفيذي للإتحاد الى تحقيق الإستقرار مؤكدا أنّ المنظمة النقابيّة »تعمل لمصلحة البلاد، وتسعى الى تعزيز النظام وتعارض الفوضى والعنف«.
وفي ختام النقاش بمجلس الأمة يوم 15 من نفس الشهر وبحضور »أبو أياد«، صرّح الوزير الأول في نفحة تحرّرية، متصدّيا لجميع الضغوط: »انّ الاتحاد العام التونسي للشغل أظهر مرّة أخرى ما يتسّم به عمله وأهدافه من صبغة وطنية وبرهن على أهمية الدور الذي يريد القيام به في سبيل تشييد صرح التقدم (...) فالاضرابات، بالرغم من جانبها السلبي، تتضمّن عناصر ايجابية. إذ تبيّن انّ الأمّة ترفض في قرارة نفسها القطيعة واليأس، وانّها تظلّ متمسكة بشدّة بالحوار والحل الوسط (...) فالإضراب لا يعني بالضرورة رفض النظام، كما أنّه لا يعبر أيضا عن إرادة تدمير المؤسسات. انّه يمثّل إجراء شرعيا وثمرة نمط المجتمع الذي اختارته البلاد«.
وكان هذا الخطاب بمثابة نداء متعقّل الى الاتّزان لتجنب المأساة. وكنّا بحاجة إلى هذا الموقف الجريء حتّى تتبلور الإرادة السياسية عند الطرفين. وقد شعرنا منذ أكثر من أسبوعين بهلع الوزير الأول أمام تفاقم الأوضاع. فلم أنقطع من جانبي عن تشجيعه على احباط جميع الضغوط، وكنت بالنسبة إليه مع بعض الزملاء المتحرّرين عامل توازن سياسي، وكانت نجاعتنا وشعبيتنا تواسيه وتشدّ أزره.
في نفس الوقت تحقيقات وبنفس الهدف في قصر قرطاج دون اية نتيجة. وكلّنا كان يعرف ان الرئيس ذاته كان قد حرص على ان يتم تسجيل أحاديثه مع الرئيس »نكسون وهانري كيسنجر« »للتاريخ« وبالاتفاق مع زوجته، ترك تلك الآلات تشتغل بصورة مستمرة. ولذلك كان اعتاد ان يصطحبني دائما الى البهو الملاصق لمكتبه كلما اراد ان يمدني بالأسرار الخطيرة.
وأخيرا ثبت للهادي نويرة انه خودع في عديد من التهم، فحاول تهدئة الوضع، وصرّح في خطاب ختم به نقاش مجلس الامة يوم 30 ديسمبر: »لا يمكنني ان أنسى ما قاله الامين العام للاتحاد العام التونسي للشغل من إطراء لمساهمتي الشخصية في تطبيق السياسة التي ينص عليها الميثاق الاجتماعي (...) فالاتحاد منظمتنا النقابية الوطنية ويعتبر عنصرا اساسيا من عناصر توازن نموذجنا الانمائي (...) والحكومة مقتنعة اكثر من اي وقت مضى بأن الحوار يمثل القاعدة الذهبية للاتصال بين المجموعات والمصالح«.
ولكن الشارع كان في تلك الآونة يتحدى منطق الوزير الاول ورئيس الدولة. وبمرأى وبمسمع من الجميع، ضاعفت الميليشيات اعتداءاتها على المسؤولين النقابيين وتخريبها لاجتماعاتهم وتخاذلت مصالح وزارة الداخلية ولم تفرض الأمن العام الشرعي.
فحاول الحبيب عاشور حينئذ تسييس الازمة. وأعلن يوم 8 جانفي اثناء المجلس الوطني للاتحاد عن استقالته من الديوان السياسي للحزب، كما انفصل المسؤولون النقابيون الآخرون من اللجنة المركزية.
وأعلن المجلس الوطني للنقابة عن استقلال المنظمة الشغيلة استقلالا تاما عن التنظيمات السياسية.
ونشرت »لوموند« يوم 8 ثم 10 جانفي 1978، فصلين بإمضاء مبعوثها الخاص، »دانيال جونكا«، بعنوان »تونس بين الانقباض والانفتاح«، لوصف الوضع وصفًا يتسم بالموضوعية التي ميزت دوما تلك الصحيفة.
ففي الفصل الاول الذي يحمل عنوان »عملية كومندوس« كتب الصحافي : كان السيد بلخوجة ضحيّة حرصه على الحوار والانفتاح، ورفض بالخصوص استعمال القوة ضد العناصر النقابية (...) وكان في جميع المحافل يتخذ مواقف لفائدة سياسة التشاور، للاستجابة للتحولات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تشهدها البلاد (...) وعلى كل، فإن إقصاءه قد ابرز الأهمية الجديدة التي يكتسبها التيار الملائم في البلاد لنشر الديمقراطية، وقد اصبح ذلك واضحا من الآن فصاعدا حتى في الدوائر العليا للحكم...«.
وفي فصله الثاني الذي يحمل عنوان »وزن النقابات« قال الصحافي: »بالنسبة الى الوزير الاول، جاء كل الشر من تسرب عناصر مشكوك فيها اندسوا في صفوف المنظمة النقابية مثل انصار حرب الطبقات (...)«. اما مدير الحزب فيقول : »تواجدت دائما في تونس في ظلّ الحزب الواحد تيارات أقلية لم نشأ مقاومتها، كما هو الشأن في النظم العسكرية: وهم الماركسيون اللينينيون واليساريون وانصار حركة آفاق وحتى في أقصى اليمين الإخوان المسلمون. وقد حاول بعض قادة الاتحاد العام التونسي للشغل مجاملة هذه التيارات، والخطر ان يصبح الاتحاد منظمة شغيلة غير مسؤولة«. وصرح عاشور : »الاتحاد العام التونسي للشغل ليس له مطامع سياسية. لا نريد انتزاع الحكم من السيد نويرة. الا ان منظمتنا متفتحة على جميع التيارات، والذين يأتون اليها يدرجون عملهم في اطار نقابي بحت...«.
وختم »جونكا« كاتبا: »ان إبعاد السادة بلخوجة والشطي والكعلي من الديوان السياسي في المدة الاخيرة، وهم من أنصار الحوار مع النقابات، يدلّ مرّة أخرى على ان ابطال المتابعة والاستمرار غير مستعدين للتنازلات والتغيير. وهناك اتجاه آخر مازال ممكنا في كنف الشرعية، اذا ما قرر الرئيس ذلك. لكن ينبغي ان نتساءل هل مازالت لديه الوسائل اللازمة لذلك...«.
وفي 9 جانفي استقبلني الرئيس وكان متكدّرا، فقال لي: »انك ارتكبت مرة اخرى هفوات خطرة. فلماذا سمحت بدخول الليبيين الخمسة الذين منعوا من التأشيرة؟ لقد عهدت اليك بأمني وأمن البلاد«.
وعندئذ أدركت الى اي حد خُدع بورقيبة. فأرجعت الحقيقة الى نصابها بهدوء ولكن بدقة ومع كل التفاصيل، وقلت له: انّي كنت في فرنسا. ولئن منحت مصالحي تلك التأشيرات، فذلك لأن أولئك الليبيين هم اعضاء في مجلس ادارة نزل »دار جربة«، وقد قدموا بصورة طبيعية للمساهمة في اجتماع مع شركائهم التونسيين ولا لعملية ارهابية في تونس. ثم حرصت على وصف خطورة الوضع في البلاد بالاعتماد على عدة براهين وأدلة.
فلم اشاهد بورقيبة قط ممتقعا مثل ذلك اليوم. فغضب في اول الامر ثم تحول الى الذهول والحيرة. فطلب مني ان اذهب فورا الى الهادي نويرة لأقص عليه كل شيء، وفي نفس الوقت وضع يده على جهاز الهاتف مرتين كما لو انه كان يحاول ان يفعل ذلك بنفسه، ودامت تلك المقابلة المؤثرة حوالي اربعين دقيق، وخرجت منها منشرحا قوي العزيمة.
ومن الغد، أعلمت عثمان كشريد الكاتب العام للحكومة، الذي اضطلع بنفس المهمة بوزارة الداخلية في مدّة مسؤوليتي، وهو رجل يتميز بنزاهة مثالية. فنقل الى الوزير الاول محادثتي مع رئيس الدولة. ولكن الأذى كان قد حصل، وكان الهادي نويرة يدور في دوامة لا يقدر التحكم فيها، وكان بورقيبة يعيش مأزقا سياسيا فأردت الابتعاد عن ذلك الجو الخانق، وقررت يوم 10 جانفي العودة الى »نيس« بفرنسا.
وفي مثل ذلك الجو الخطير أدّى الوزير الاول زيارة خاصة لم يعلن عنها الى باريس. واستقبله يوم 9 جانفي في قصر »الأليزيه« رئيس الجمهورية »فاليري جيسكار ديستان«، ثم تحادث في قصر »ماتينيون« مع الوزير الاول »ريمون بار«. ومن 17 الى 21 أدى »غي ميري« قائد أركان الجيوش الفرنسية زيارة الى تونس بدعوة من عبد الله فرحات وزير الدفاع وكان مصحوبا بوفد عسكري.
وفي يوم 19 جانفي أعلمني أحد الأصدقاء هاتفيا بدعوة اللجنة المركزية للحزب الى الاجتماع يوم 20 في دورة استثنائية وتأكدت انه لم يتم استدعائي رغم انّي مازلت عضوا فيها. فرجعت فورا الى تونس وفاجأت الجميع بحضوري وقد تقرر تخصيص تلك الدورة بأكملها للتنديد بالوزراء الستّة المستقيلين، لسعيهم »لزعزعة الحكومة«.
وفي الحين، نزل أمين مال الحزب ووزير الدفاع، عبد الله فرحات الى الحلبة وصرح في الاجتماع: »ان المؤامرة واضحة للعيان: فمنذ خمس سنوات، نشاهد تجاوز السلطة من قبل وزير الداخلية السابق ذلك الوزير الذي يذهب الى الجزائر، ويتحول الى ليبيا عدة مرات دون ان نعلم ماذا يفعل هناك؟ ولنتساءل عن وجود وزير الدخلية الليبي هنا منذ عشرين يوما دون ان نعلم ماذا يجري (...)«. ثم حاول التشهير بالتواطؤ بين وزارة الداخلية واتحاد الشغل، قبل ان يظلّ الطريق في متاهات حوادث قصر هلال.
ثم حلّ محله كبار المسؤولين في ادارة الحزب. فهنأ احدهم وزير الدفاع على »أذنيه الكبيرتين وعينيه الواسعتين«. والتجأ الثاني الى تشبيه مجازي غريب: »كانت بالمنستير عربة يجرها ثمانية أحصن تقوم بتزفيت الطريق، وذات يوم، رغم ضربات السوط، رفضت الأحصنة التحرك (...) ونحن لدينا عربة وطنية متوقفة بسبب بعض الاحصنة المخالفة التي يكفي التخلص منها«.
فكان تشويها سافرا. فتناول رفاقي المنجي الكعلي ومحمد الناصر بدورهم الكلمة، وفسّروا عملهم التوفيقي لحصر الأزمة وتجنب المواجهة. ورغم ذلك شعرنا أنا وزملائي المستقيلين بعزلتنا واتهامنا، واذا بواحد من أبناء المنستير صلاح الدين فرشيو ينقذ الموقف ويقول : »لا يحق لنا ان نستمع الى اشياء تتم بمثل هذه الخطورة دون ان نصغي الى المعنيين بالامر«. فانتهزت الفرصة فورا وصعدت الى المنصة. وفي ظرف ثلاثين دقيقة، ارتجلت خطابا حاولت فيه افحام المتهجمين. فاتجهت أولا نحو الامين العام للحزب الهادي نويرة، وقلت : »انكم هنا تمثلون بورقيبة فلا تتركوا نفسكم عرضة للانجذاب . وانكم تعلمون جيدا ان بعضهم يريد فصم الوحدة الوطنية، ويمكن ان يذهب بنا ذلك الى بعيد. لقد حافظتم الى حد الآن على التوازن بين نزعة المواجهة ونزعة الحوار والوفاق الوطني. وقد قلتم لنا عند عودتكم من العراق ان الرئيس حسن البكر رجاك بعدم تبديد المناضلين السياسيين وخسارتهم كما وقع في بغداد.
ثم اجبت عبد الله فرحات: »انك تعلم شخصيا واكثر من الجميع أسرار زياراتي وفوائد اتصالاتي بجيراننا (...) ويعرفها الرئيس والجميع (...) ولا فائدة في تدقيق سرها (...) واني حريص على صيانة اسرار الامن والدفاع (...) ولكن أذكرك بالأصل: عرضت علي بواسطة صديق مشترك رئيس بلدية تونس، صفقة سياسية تتمثل في قبول نوع من التسلسل الخلافي: نويرة فرحات بلخوجة. فصدمتني تخميناتك ورفضت عرضك، فأستأت له (...) لا يسمح لي واجبي التخفظي بأن اسير الى ابعد من هذا في هذا المقام (...)«.
ثم اكدت ان رئيس الدولة شرفني بمقابلة دامت اربعين دقيقة خلافا لبلاغ مصالح الرئاسة وقتئذ. ثم فندت الاسطورة المبتذلة التي قدمت لبورقيبة حول بعض الارهابيين الليبيين. وسردت بالدقيق تفاصيل محادثني في ذلك الشأن مع بورقيبة واعلمتهم بما كانت عليه مباغتة الرئيس لما عرف الحقيقة.
فحل صمت مخجل في الاجتماع، ولم يتجرأ أحد من المسؤولين المتشنجين على أخذ الكلمة، فتحركت صفوف اعضاء اللجنة المركزية المندهشين، وكان يميل كثيرهم في التصفيق في حين تضايق الآخرون واكفهرت وجوههم. وقد ثقل الجو من كثرة الأكاذيب ولم يفكر احد في استئناف الهجوم علينا، وربحنا اذ ذاك المعركة وساهمنا في نفس الوقت في بلورة الامور وبث الشك في حقيقة نوايا بعضهم.
وعلمنا فيما بعد، ان العملية كانت في نظر مدبريها ترمي الى اعتقالنا في نهاية أشغال اللجنة المركزية. وقد كانت حافلة شرطة تنتظر امام باب مقر الحزب لتسوقنا، انا وجميع المستقيلين الى قاضي التحقيق. وأكد نويرة ذلك فيما بعد للمنصف بلحاج عمر الكاتب العام السابق للحكومة: »من حسن حظكم اني كنت موجودا، فقد حاولوا اكثر من عشر مرات اتهامكم«. فلنعترف بهذا الحق لنويرة : انه رجل دولة، لم يسقط في المجادلة ولم يشجع سلوك الفتك والغدر وقد أضعفته سياسيا مغادرتنا الحكومة. وكان صمد منذ مدة تجاه الضغوط الحادة المسلطة عليه، ولسوء الحظ غمرته أخيرا أمواج العنف وهي آفة كان يكرهها طيلة نضاله ومسؤولياته.
وأعادت لائحة اللجنة الاتهامات التي لم تكن لتساعد على الانفراج، وخلافا لعروض التفتح التي قدمها الامين العام للحزب، أكدت اللائحة من جديد: »ان النزاع بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الاشتراكي الدستوري يكمن في الاختلافات حول الاختيارات الايديولوجية ونماذج التنمية«.
ونشرت وكالة تونس افريقيا للأنباء تعليقا يقول: »لقد سقط القناع. انهم يريدون الاطاحة بالنظام. فالفوضويون يريدون ان يوجهوا البلاد وجهة جديدة شيوعية وبعثية«. وكان بلاغ ادارة الحزب »أن هناك ارادة واضحة لدى النقابة لتحل محل الحزب وتفرض دكتاتورية الطبقات الكادحة البروليتارية«.
ولقد بلغ توتر الوضع الاجتماعي وقتنئذ ذروته. اذ اندلعت حوادث في توزر ثم في القصرين، وامتدت الى عدة أماكن في البلاد. ودعا اتحاد الشغل بمحضر الامين العام لمنظمة »السيزل« (الكنفدرالية الدولية للنقابات الحرة) الى اضراب عام انذاري ليوم 26 جانفي وكان في الحسبان ان يكون اضرابا سلميا دون مظاهرات في الشوارع، وتناسوا ان اهل تونس يجهلون تنظيم التظاهرات المرتبة بهدوء كما هو الحال في البلدان الراقية. ولم يأخذ في الحساب حرمان الشغالين ويأس المنبوذين وغضب العاطلين والمهمشين. فانتهزوا الفرصة لاسماع صوتهم عن طريق العنف. وكانت ارادة المواجهة تحدو بعض المسؤولين في الحزب المستعجلين للتخلص من ذلك المعقل الذي يمثله الاتحاد، وكان بعض النقابيين يميلون الى نفس الاتجاه في المواجهة.
ففضلت عندئذ التحول الى منزلي بالحمامات لاجتناب الاستفزازات المحتملة. وبفضل كاتبي الذي بقي في وزارة الداخلية، تمكنت من متابعة الأحداث ساعة بساعة. وبالفعل فقد حصل المحظور.
تمت منذ يوم 25 جانفي، تعبئة جميع قوات البلاد لتكون تحت إمرة الولاة منذ الفجر.
وصباح يوم 26 جانفي وفي حدود الساعة الثامنة صباحا، قام بعضهم في سيارات عادية بعدد من الأعمال الاستفزازية الخطرة، وقد تجمع آلاف المتظاهرين الوافدين من الأحياء المحيطة بالعاصمة وأغلبهم من الشباب، واتجهوا نحو وسط المدينة والشوارع التجارية الغنية وأمام الوزارات وفي الاحياء البرجوازية »بالبلفيدير« و »ميتوالفيل«. فحطموا الواجهات وأشعلوا النار في المباني الادارية. فتجاوزت الأحداث الشرطة. وفي منتصف النهار، أمضى رئيس الدولة الاذن الى الجيش بالتدخل. وعندئذ شرعت جميع الوقات في القيام بعمليات في المدينة.
وسقط عشرات او ربما مئات القتلى حسب المصادر الاعلامية وقال الكاتب محسن التومي: »إن تقديراتنا الخاصة التي قمنا بها عندئذ، ثم قابلناها مع تقديرات محققين اخرين، تفضي الى 200 قتيل على اقل تقدير و 100 جريح«. وبعد ذلك اعلن الرئيس حالة الطوارئ وقرر حظر التجوّل الذي دام حوالي ثلاثة أشهر.
وعرف ذلك اليوم الدامي »بالخميس الأسود«، وهو أقتم خميس شهدته تونس المستقلة، أي خميس المواجهة العقيمة الجدوى بين القوى الحية في البلاد. وقال أحد الصحافيين الفرنسيين: »كان ذلك تعبيرا عن غضب وضيق المواطنين، وضيق أنفسهم وانهم لن ينسوا ان البورقيبية بدأت في الغروب«.
أما عبد الوهاب المؤدب، وهو كاتب تونسي آخر، فقد ختم فصله بقوله:
»الغريب أن مجزرة 26 جانفي 1978 بمشاهدها القمعية تشبه الى حد كبير أحداث يوم 9 افريل 1938، فالحدث الذي أدخل الحزب الدستوري الجديد في التاريخ يوم 9 أفريل ينعكس على الحدث الذي مهد لخروجه من التاريخ يوم 26 جانفي 1978. في كلتا الحالتين أفلتت العملية السياسية من أيدي السلطة القائمة، فاقتصرت على كبت اي طموح تحرري وتطلع حضري«...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.