تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحب في زمن الثورة، الإبداع من رحم الألم فريدا كحلو نموذجا
كمال الزغباني
نشر في الشعب يوم 06 - 03 - 2010

إذا كانت باريس الخمسينات وما بعدها قد جعلت من جون بول سارتر وسيمون دي بوفوار أشهر زوج إشكالي في القرن المنقضي، فإن مكسيكو العشرينات وما بعدها كانت قد عرفت زوجا آخر لا يقل (إن لم يكن يفوق) الزوج الباريسي فتنة وجاذبية من جهة تركيبته الإشكالية كما من جهة انغراسه في أرضية ثقافية وإبداعية وثورية استثنائية: دييغو ريفيرا وفريدا كحلو.
وبمثل ما كانت باريس الخمسينات وما بعدها قد شكلت عاصمة عالمية لشتى ضروب التعبيرات الإبداعية والسياسية، فإن مكسيكو العشرينات وما بعدها كانت بؤرة على درجة مدهشة من الثراء والتدفق والعنفوان للإبداع والحب والثورة. وكان الثنائي دييغو ريفيرا وفريدا كحلو في قلب هذا الحراك العارم بكل تألقه وبكل تعقيده. وكانت مكسيكو بالتالي القبلة الأولى لكل الثوار وعشاق الحرية والإبداع (رسما وفوتوغرافيا وشعرا وفكرا ورواية) من كل البلدان والقارات. فهي المدينة التي احتضنت منذ العشريات أولى الثورات الكبرى في القرن العشرين: ثورة الفلاحين الهنود بقيادة الزعيمين الأسطوريين إمليانو زاباتا وفرنشسكو فيلا.
الولادة في خضم الثورة الزاباتية
حين خرج فلاحو العمق المكسيكي، فلاحو أراضي الأزتيك المفقرين رغم كل الثروات التي تختزنها أرضهم الهندية الحمراء، إلى شوارع القرى والمدن معلنين أولى ثورات القرن، كانت فريدا طفلة في الرابعة من عمرها. طفلة هي الخامسة من بين البنات الست في عائلة مصور فوتوغرافي من أصل ألماني لم يرزق ذرية من الأولاد.
بعد أن اشتغل سائق عربات ومروض خيول، تولى إيميليانو زاباتا (1879-1919) زعامة قريته في 1910 ليشرع فورا في تشكيل جيش من فلاحي الجنوب الفقراء الذين كان معظمهم أشباه عبيد في أراضيهم الخاصة الثرية بالقصب السكري وفي «هاسيندات» (عزبات) المزارعين الكبار المنحدرين من المعمرين الإسبان المسنودين بسياسات الديكتاتور بورفيريو دياز الذي كان يحكم البلاد بقبضة من حديد محاطا بالأثرياء الجدد الجشعين الذين شكلوا حوله حزاما عائليا مكنهم من الاستفراد بثروات البلاد الاقتصادية والثقافية. كان شعار الثورة الزاباتية التي أخذت شكل حرب العصابات طويلا قبل تشي غيفارا هو:»الأرض والحرية». ومع توحيد حركته مع حركة الثوري الآخرفرنشسكو فيلا ثم التحالف مع فرنشيسكو ماديرو أخذت ثورة الفلاحين في الانتشار حتى عمت كل القرى والمدن المكسيكية لتدرك العاصمة مكسيكو. كان للثورة مطلبان أساسيان: إسقاط دياز وأزلامه وإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين توزيعا عادلا. ولكن ماديرو خان مبادئ الثورة حال اعتلائه سدة الرئاسة في 1911 ليصبح العدو الأول لفيلا ولزاباتا. واصل هذا الأخير حربه الثورية حتى تمكن من الدخول إلى العاصمة مكسيكو في 1914. ولا شك أن الطفلة فريدا ذات السنوات السبع وقتها قد تشبعت بمشاهد أولئك الفلاحين ذوي السحنات السمراء والثياب الضاربة في أعماق التاريخ الأزتيكي العظيم وهم يجوبون الشوارع موزعين حلمهم بالأرض والحرية على فقراء المدن وعلى شبابها المتمرد.
لكن الخيانات وصراعات المواقع والمناصب حالت بين زاباتا وإنجاز برنامجه الثوري الأصيل لينتهي مغتالا على يد أحد عملاء الديكتاتور فونستيانو كرانزا. ومع ذلك فإن زاباتا ظل وسيظل رمزا شبه أسطوري لكل الثوريين والفقراء الحالمين بالعدالة والحرية في المكسيك وفي أمريكا الجنوبية وفي العالم برمته. ولا أدل على ذلك من كون متمردي مقاطعة الشياباز حين خرجوا في 1994 منتفضين على الحكومة المكسيكية الموالية للإمبريالية الأمريكية قد اتخذوا لأنفسهم تسمية تحيل مباشرة إلى زاباتا: الجيش الزاباتي للتحرير الوطني (A.Z.L.N). ومعلوم أن الزاباتيين قد مثلوا من وقتها واحدة من أهم التعبيرات السياسية والفكرية المبدعة عن هذا اليسار الجديد المتحرر من الأرثدوكسية الحزبية والعامل بلا هوادة على ابتكار رؤى وقيم وأشكال فعل جديدة لمقاومة الإمبراطورية العولمية المتوحشة على كافة أصعدة اشتغالها المهيمن.
وسط هذا الخضم الثوري العارم والفريد من نوعه منذ الثورتين الأمريكية والفرنسية نشأت فريدا مقربة أكثر من باقي أخواتها إلى الأب المصور. ولا شك أنها كانت قد واكبته في ستوديو التصوير وهو يخلد وجوه أولئك الفلاحين القادمين من أعماق التاريخ السحيقة. ولكنها كانت أيضا كثيرا ما تتشبه في سلوكها ولباسها بالأطفال الذكور. ربما تعويضا للأب الفنان المحبوب عن فقدان الولد. تشهد بذلك إحدى الصور التي التقطها الأب أثناء حفل زفاف إحدى الأخوات والتي تظهر فيها فريدا مرتدية البزة وربطة العنق الرجاليتين. هذا الفسخ المبكر للحدود الفاصلة بين الذكورة والأنوثة سيكون واحدا من ميزات التجارب العاطفية والإبداعية التي ستعيشها فريدا فيما بعد كما سيشكل عنصر خصوبة وثراء لا يخلوان من معاناة في تلك التجارب ولا سيما في علاقتها بدييغو ريفيرا وفي بعض العلاقات المثلية التي تخللت مسار حياتها.
حادثة الحافلة وبداية رحلة الألم المبدع
من مفارقات حياة فريدا كحلو أنها جاءت إلى فن الرسم على خلفية الألم الجسدي ومن رعب الموت ثم الإعاقة الذي تربص بها مذ بلغت الثامنة عشر وحتى آخر لحظات وجودها. حين كانت تمتطي الحافلة عائدة من المدرسة إلى منزل والديها بضاحية كويوآكان تسبب السائق الغر والمتهور في اصطدام عنيف مع الترامواي. أسفر الحادث عن أضرار جسيمة في جسد المراهقة المندفعة والعابثة: كسور في العمود الفقري وفي الضلوع والساقين وجروح عميقة في البطن والفرج (ستقول بعد ذلك أن المقبض الحديدي الذي اخترقها هو الذي أفقدها عذريتها). ومما زاد الطين بلة أن فريدا كانت منذ السابعة من عمرها قد ابتليت بمرض خلف لها ضمورا بينا في ساقها اليمنى كلفها سخريات أندادها ومحاولات يائسة لإخفاء إعاقتها.
على فراش نقاهتها التي تواصلت أشهرا طويلة من الآلام التي لا توصف بدأت فريدا ترسم أولا على الجبس الذي لبس جسدها بأكمله لجبر كسور عظامها الهشة. وحين لم يبق من بياض الجبس بياض ركب لها أبواها نوعا من المرسم المعلق وزوداه بمرآة تشكل نوعا من السقف لسريرها. وهكذا كان جسدها المسجى هو «موديلها» الأول بمثل ما كان فن البورتريه الذاتي اتجاهها الفني الأصلي وهما السمتان اللتان ستطغيان على تجربتها الإبداعية اللاحقة. على القماشة البيضاء كانت تشق لنفسها طريقا خرافية داخل السماء المرآوية لتمضي باتجاه «فريدا الأخرى» المليئة حرية ورغبة والمسكونة بشتى المشاريع والأحلام.
لكن تجربة الألم والمعاناة بما هي النواة التي تولد منها فنها والتي ستسم كل حياتها وتجاربها العاطفية والفكرية والثورية لم تكن جسدية فحسب. بعد الحادثة ببضعة أسابيع ستتلقى المراهقة المشاكسة أولى صدماتها العاطفية. فقد قرر حبيبها الأول (أليخندرو غوميز الذي كونت معه ومع عدد من التلاميذ والطلبة مجموعة من الشباب الفوضوي ذو الميولات اليسارية الغائمة الذي كان يقرأ هيغل وشبنغلر وشوبتهاور إلى جانب ماركس وأنغلز) السفر إلى ألمانيا لمواصلة دراسته. ربما تحت تأثير عائلته المحافظة التي لم تكن تنظر بعين الرضا إلى تلك الفتاة المتحررة والمندفعة (في 1922 كلنت فريدا من بين الفتيات الخمس والثلاثين اللواتي دخلن الجامعة المكسيكية على مجموع ألفي طالب) والتي تحولت بفعل الحادث إلى عبء ثقيل على أي شريك حياة محتمل.
هذه الثنائية، الألم الجسدي والألم العاطفي، ستكون المعين الرهيب الأول لفن الرسم عند فريدا. ستزداد الآلام فيما بعد: عدم القدرة على الإنجاب، إسقاط حكومة أوبريغون ذي الأصول الشعبية الذي كان أحيا في النفوس بهاء الحلم الثوري الزاباتي والذي ازدهرت في عهده الفنون بكل أجناسها وتعبيراتها، خيانات دييغو التي لا تحصى مع موديلاته وخصوصا مع أختها الصغرى كريستينا التي استقبلتها فريدا مع أطفالها لحمايتها من زوجها التقليدي العنيف، موت الأم ثم الأب، الإعاقة شبه التامة والاضطرار إلى استعمال الكرسي المتحرك، الطلاق من دييغو ثم العودة إليه، خبر اغتيال تروتسكي الذي أقام لديها لاجئا والذي عاشت معه مغامرة عاطفية عميقة وإن كانت عابرة (فالألم هو الذي جمع بين الزعيم الثوري المنفي والمطارد وبين الفنانة والعاشقة المغدورة)، قطع ساقها وإجبارها من قبل الطبيب على عدم مغادرة الفراش مطلقا...كل تلك التجارب المضنية التي يصعب تصور صمود إنسان أمام قسوتها نجدها حاضرة في فظاعتها الخام ضمن لوحات فريدا كحلو سواء من جهة الموضوعات (أجساد ممزقة، دماء، تشوهات من كافة الأنواع) أو من جهة الألوان والخطوط والأضواء. لكن ريشة الرسامة المبدعة تضفي على كل ذلك العالم المرعب والقاتم نوعا من الفتنة الخارقة التي تنأى به عن الإثارة وعن البحث عن تحريك مشاعر الشفقة والتعاطف. بل إن الألم يصير منطلقا لانبجاس عوالم مدهشة من التألق ومن الرقة البالغة: تألق الحركة الدائبة باتجاه الحرية المتأبية ورقة الحب الممتزج بالثورة.
الإبداع والحب والثورة: ثلاثي فريدا المقدس سنة 1928 ستنطلق في حياة الشابة المدمرة واحدة من أعظم ومن أعنف قصص الحب في التاريخ الإنساني لما فيها من زخم عاطفي وإبداعي وثوري. حالما تمكنت الرسامة المبتدئة والشابة المغدورة من مغادرة فراش مرضها، حملت أقرب لوحاتها إلى نفسها واتجهت إلى مبنى وزارة التعليم حيث كان دييغو ريفيرا يشتغل على إحدى الجداريات الكبرى التي خلدت فنه لتطلب منه رأيه في ما كانت ترسمه مؤكدة أنها لم تأت للمزاح أو طلبا لمغامرة ما مع الفنان المشهور، وإنما باعتبارها فتاة تبحث عن وجهة لحياتها وتريد أن تعمل في مجال الرسم لتعول نفسها وتعين عائلتها. ولا شك أنها قالت ذلك وهي تتذكر لقائها الأول بريفيرا قبل أكثر من خمس سنوات حين كانت تتلصص عليه وهو يضاجع إحدى موديلاته في أوديتوريوم المعهد.
كان دييغو قد عاد إلى المكسيك في 1921 بعد إقامتين امتدتا على أكثر من ثلاثة عشر سنة في باريس عاش فيها تجارب إبداعية وعاطفية وإنسانية قصوى وعصيبة إبان الحرب العالمية الأولى. وكان قد انضم إلى مجموعة فناني مونبرناس وعلى رأسهم بيكاسو وموديغلياني والذين حددوا معالم الفن التشكيلي المعاصر. في باريس عاش دييغو ريفيرا حياة بوهيمية مليئة بشتى أصناف الجنون واللذة والألم أيضا (موت ابنه الرضيع بسبب عدم قدرته على توفير فحم التدفئة). ولكنه انطلق منها أيضا إلى إسبانيا وإيطاليا وروسيا ليطلع عن كثب على مختلف التجارب الفنية والسياسية والإنسانية لمختلف الشعوب الأوروبية. وحين عاد إلى أرضه الأم كان مشبعا بكل تلك التجارب وجائعا إلى إطلاق العنان لإبداعيته على جدران العاصمة وغيرها من المدن والأرياف. وكان الفن الذي برع فيه أكثر من غيره هو الجداريات العملاقة التي كان يعلق عليها قيمة ثورية أساسية: ربط الفن بالشعب وبحياته الفعلية بكل زخمها ومعاناتها وجعل الفن (إلى جانب بعده الإبداعي الخالص) سبيلا لتثقيف ذلك الشعب وتشكيل حسه الفني والسياسي.
حين كان عمر فريدا واحدا وعشرين سنة كان ريفيرا قد جاوز الأربعين بسنتين. ورغم هذا الفارق الكبير في السن وفي التجربة (كان قد طلق مرتين وأنجب أربعة أطفال واتخذ له عشيقات كثيرات) فإن الرسام الجداري الكبير إبداعا والعملاق جسدا (كان يوصف بالغول لفرط ضخامته وقبح خلقته وبالثور بسب نهمه الجنسي الذي لا يشبع) وجد نفسه منبهرا بهذه الفتاة المنكوبة والضئيلة (ستقول أمها فيما بعد أن زواجهما هو أشبه بزواج فيل من حمامة) لا فقط لشجاعتها في مقاطعة عمله لتعرض عليه لوحتها وإنما أيضا لان حدس الفنان لديه نبهه إلى أشياء في تلك اللوحة عميقة وعصية على التحديد لأنها فعلا جديدة وبالتالي مبدعة.
كذلك انطلقت قصة الحب العاصف الثري والمدمر في آن واحد بين اثنين من أعظم رسامي القرن. وكذلك أيضا ولد التلازم اللامنفصم بين الألم والحب والإبداع والثورة في حياة فريدا كحلو. قبل الزواج (في 1929) وسط أهازيج النشيد الأممي وبعده سيتلازم اسما دييغو وفريدا في كل المسيرات والمظاهرات والمناشير والمعارض والسهرات الخمرية والفنية التي لا تنتهي إلا فجرا. ستكون فريدا السند الأكبر لزوجها المشاغب حين طرد من الحزب الشيوعي المكسيكي باعتباره «خائنا». وسيسافران معا إلى الولايات المتحدة لتندلع الخصومة الشهيرة بين ريفيرا وجون روكفلر بسبب تهديم الأخير لجدارية دييغو العملاقة التي كلفه بإنجازها على مركز للفنون تابع لمصانعه بسبب صورة للينين أبى الفنان الثوري أن يحورها وأثارت ضجة كبرى في الصحافة الأمريكية...
ومعا سيستقبلان ليون تروتسكي الذي طرده العالم كله ليأويه منزل دييغو وفريدا. ففي 1924 تفجرت الخصومة بين تروتسكي وستالين حين أشار هذا الأخير إلى ضرورة التخلي عن فكرة «الثورة الكونية» لبناء الدولة السوفيتية القوية وشرع في الوقت ذاته في بناء جهاز بيروقراطي رهيب وفي استبعاد الخصوم المحتملين للقائد الأوحد. نفي تروتسكي الذي كان لينين نفسه قد رشحه للزعامة من بعده إلى ألما آتا. وفي 1929 طرد من الإمبراطورية السوفييتية ليتشرد مطاردا بين تركيا وفرنسا والنرويج. وفي 1937 يحط تروتسكي رحاله في المكسيك بعد تدخل شخصي من ريفيرا لدى الرئيس كرديناس. كان الزوجان يعيشان منفصلين بسبب خيانات «الثور» التي فاقت بكثير حدود تسامح «الحمامة». لكن فكرة استقبال الزعيم الثائر والمطارد أنستهما خلافاتهما إلى حين. أقام تروتسكي في منزل والد فريدا الذي كان دييغو قد اشتراه منه. بين باعث «الأممية الرابعة» (في 1938) وبين الرسامة الموجوعة والإستثنائية في «سورياليتها» التي ستبهر أندريه بريتون نشأت تلك العلاقة العابرة والإستثنائية في آن. بين صفحة وأخرى من الثورة المغدورة كانا يتناجيان أو يتبادلان الغرام والشكوى حول آلامها الجسدية المريرة أو حول أبنائه الأربعة الذين طحنتهم مكينة القتل الستالينية. وحين حدث ما كان تروتسكي موقنا من حدوثه، أي حين سال دمه على صفحات الكتاب الذي كان يؤلفه لفضح ميكانيزمات البيروقراطية، وجه الاتهام أولا إلى دييغو ريفيرا نفسه. ورغم أنهما كانا مطلقين حينها فإن فريدا رفضت بحزم وهي في حالة إيقاف أن تدلي بأية معلومات عن مكان تواجد زوجها وحبيبها وملهمها... ألم يقطر رقة، قسوة تفيض حبا وروعة بهذه الكلمات التي تفيض حبا عذوبة وتقديرا وإعجابا يتحدث دييغو ريفيرا عن فريدا المبدعة التي سبقته إلى الموت بسنوات ثلاث: «لوحاتها حامضة ورقيقة. فظة كالفولاذ وهشة كأجنحة فراشة. لذيذة مثل قبلة وقاسية مثل مرارة الحياة... وأنا لا أعتقد أنه قد أمكن لامرأة من قبلها أن ترسم على لوحة كل هذه الشعرية العارمة والمضطربة والمعذبة».
ملاحظة: اعتمدت في صياغة هذا المقال على مرجعين أساسين. 1- كتاب دييغو وفريدا للكاتب الفرنسي الكبير لوكليزيو (فوليو، باريس 1993) وفيلم فريدا للمخرجة جولي تيمور، بطولة سلمى حايك وألفريد منولا وهو مستوحى من كتاب مرتا زامورا فريدا، قصة حياة فريدا كحلو.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.