كان أجل اصدار هذه الجريدة في دوريّة يومية، قد حلّ ذلك اليوم من شهر جويلية 1985 وجهاز »التلكس« الذي نحتاجه كغيرنا من الصحف لاستقبال الاخبار المحلية والعالمية لم يأت بما فيه من جهاز بث والتقاط وخاصة من خط هاتفي خاص، وذلك رغم إصدارنا طلبا في الغرض قبل أسابيع وربما أشهر. ولا شك ان الجزء الاكبر من تنفيذ الطلب انما كان يقع على عاتق وزارة البريد والبرق والهاتف، كما كانت تسمى انذاك. فلم ينقصنا يوم انطلقنا كجريدة يومية الا ذلك المرفق كوسيلة عمل أساسية. لمّا سألني المرحوم الحبيب عاشور يومها وكنت رئيس تحرير اليومية عن جاهزية الفريق البشري والامكانيات المادية، شكوت له التأخير الحاصل في تركيب جهاز »التلكس«. اتصل بالوزير في ذلك الوقت، المهندس ابراهيم خواجة وابلغه الامر بنبرة فيها عتاب مفاده ان التأخير يدخل ربما في اطار العراقيل الكثيرة التي كانت وضعت هنا وهناك للحيلولة دون صدور »الشعب« في دوريّة يومية (قصة أخرى قد نتناولها في إبانها). بعد نصف ساعة عاد اليه الوزير وأخبره ان الامر بسيط جدا ولا مكان فيه للعراقيل باعتبار انه يتمثل في عدم توفر فريق كامل ذلك اليوم في منطقة مقرّ الجريدة لتنفيذ المطلب. سأل عاشور: كم من شخص في هذا الفريق؟ ردّ الوزير: اثنين على الاقل. وما اختصاصهما؟ فنّي (أو مهندس) وكهربائي. وهنا، ابتسم الأخ الحبيب عاشور وقال للوزير: »عندي حل«، وهو ان نتولى أنا وأنت تركيب الجهاز، فأنت مهندس وأنا عامل كهرباء. لم أسمع بماذا رد الوزير، ولا ما قاله من قبل، فقد كنت أفهمه من السياق، ولكن يبدو انه علق بطرافة اضحكت الأخ الحبيب عاشور حتى قهقه. المهم، أنه بعد ساعة أو أقل، فوجئنا بفريق من 7 أو 8 أشخاص جاؤوا إلى مقرنا وفي وقت قياسي أنجزوا المهمّة وربطوا جريدتنا بوكالات الانباء التونسية والفرنسية والامريكية. ومن الصدف العجيبة أن أول خبر استقبلناه على وكالة (وات) التونسية تعلق بتغطية نشاط ميداني لوزير البريد والبرق والهاتف المهندس ابراهيم خواجة. أردت من خلال هذه الحادثة وواحدة أخرى أو اثنتين أن أحيّي الرجل في ذكرى وفاته، وان أترحم على روحه وأن أذكره بخير، حريصا كما أنا على تفادي الخوض في مواقفه أو آرائه فتلك مسألة تهم النقابيين، أو تحالفاته المتناقضة وخاصة ما نسب اليه من حبّ في السلطة وعمل على الوصول اليها وتلك مسألة تهم السياسيين. لكنني رغم هذا وذاك، أعتقد ان مسيرة الحبيب عاشور لوحدها تستدعي تنظيم ملتقى كبير يتطرق الى هذه المسائل ويجيب على كل الاسئلة التي مازالت عالقة، ولِمَ لا توسيعه الى شخصيات عربية ودولية لبحث الدور الذي لعبه الرجل في علاقة تونس مع عدة دول وخاصة دوره في شأن القضية الفلسطينية (طبعا، هذا رأي لا يلزم الا شخصي). لنبقى في علاقة معه ومع الجريدة. لم تمر الا ايام قليلة حتى نزل معصار العراقيل على تلك الجريدة اليومية الناشئة، فقرر المعصار ايقافها عن الصدور وأجهض مشروعا اقتصاديا لو تواصل لكان وفّر الشغل ل 200 عائلة على الاقل واسهاما فكريا لو تواصل لكان ارتقى بحرية الصحافة والاعلام في بلادنا أشواطا أكبر. الغريب في الامر ان احد قتلة المشروع، عاد بعد الهرب بسنوات، يتحدث عن الفكر والحرية، محاولا في نرجسيّة مقرفة، تنقية ماضيه من كل الافعال وإلقاء مسؤوليتها على غيره. أوقفت »الشعب« اليومية وأحيل مسؤولوها، (الحبيب عاشور وكمال سعد وعبدكم) على المحكمة لمقاضاتهم والجريدة من اجل خبر قيل وقتها انه زائف، وتعلق بنقلة عدد من الولاة كما هي عادة الدولة والادارة كل صيف، وعقاب احدهم من اجل تجاوزات معينة. الخبر صحيح ونُفذ محتواه بعد شهرين أو ثلاثة، لكن لعل المثير فيه ان المحرر ختمه بتعليق قال فيه أن: »رؤوسا أخرى ستسقط« وكان القصد هو الايحاء من المحرر ان مسؤولين اخرين سيقع عزلهم بناء على معلومات أكيدة توفرت عنده. تذكّروا ان الامر يتعلق بصيف سنة 1985، والاشهر الاولى من سنة 1986 وتذكّروا كمّ القرارات التي اتخذت خلاله بتسمية البعض وإبعاد البعض الآخر لكن ضيق صدور البعض وخاصة ممّن كان كرسيّ الحكم على مرمى قدم منهم، جعلهم يغرقون في البحث عن الرؤوس التي قال محررنا أنها ستسقط وذهب بهم الخيال الى تصور أن عاشور من خلال علاقات ومعلومات متوفرة عنده هو الذي أملى الخبر على المحرّر واقترح عليه ذلك التعليق. وان الرؤوس التي يقصدها هي ربّما رؤوسهم ولكنني أشهد اليوم أن الرجل بريء »براءة الذئب من دم يوسف«. يمكن القول اليوم بعد 25 سنة على الحادثة انها كانت فراسة من المحرر (وهو المرحوم نبيل عمامي حمدي) حيث ان الهجمة على الاتحاد بعد ايقاف الجريدة وابعاد عاشور وكامل القيادة الشرعية أسقطت من بعد عدّة رؤوس بان ضعفها وهوانها في إدارة البلاد بعد ان اختل التوازن الذي كان يضمنه الاتحاد وكذلك في ميزان السباق الى كرسيّ الحكم، فلم يصله احد ممن كانوا مرشحين له سواء بالخلافة الآلية أو الانتخابية أو بالشرعية التاريخية. أثناء المحاكمة، سأل القاضي الاخ الحبيب عاشور: »ماذا تقصدون بعبارة رؤوس ستسقط، هل أصبحتم مثل الحجاج بن يوسف؟ (أحد أشهر الولاة الذين حكموا العراق خلال الخلافة الأمويّة وقد عُرف بالشدّة وعدم التسامح مع خصومه وهو صاحب القولة الشهيرة »إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها)«. فردّ الأخ الحبيب عاشور: »صالح بن يوسف، نعم أعرفه جيدا وقد تعاملت معه كثيرا، وبحثت معه مسائل مصيرية، لكنني أختلفت معه ووقفت ضده في صف رجل اخر أعرفه أيضا، خدمته كثيرا ولكنه اليوم بعث بي امام المحكمة للمرّة الثالثة بعد الاستقلال وأمر بسجني وهددني بالقتل«. قاطعه القاضي بقوله: هذا حديث خارج عن موضوعنا«. ❊ ❊ ❊ ❊ ❊ دعونا نواصل في نفس الوقت، اتهم عاشور في قضية اخرى بسوء التصرف ومصدر الاتهام انه »استلف« أموالا من شركة التأمين التابعة للاتحاد وضخّها في حساب الجريدة لتمويل مشروعها اليومي. وفي ردّه على هذا الاتهام، قال: »أنا فعلت مثلما يفعل أي ربّ أسرة عادل ، أخذت أموالا من ابني الغنيّ وأعطيتها لإبني الفقير حتى تتحسن أحواله ويكبر مثل أخيه. فإذا كان هذا سوء تصرف يعاقب عليه القانون، حاكموني«. »طلع« البحّاثون والخبراء في الارقام طولا وعرضا تفتيشا عن اي خلل، فلم يجدوه، ودقق حاكم التحقيق تدقيقا دقيقا وانتهى في تقرير ختم البحث الى خلاصة مفادها: »ان المتهم لم يأخذ ولو مليما واحدا لخاصة نفسه«. كانت هذه الخلاصة كافية لصرف النظر عن القضية جملة وتفصيلا، خاصة وان بعض الذين نادوا بإثارتها رفضوا أي مواجهة محتملة مع القضاء والشعب، واختاروا بكل بساطة الهروب الى خارج البلاد، فيما واجه عاشور مصيره بكل شجاعة ورباطة جأش وايمان قوي بصحة مواقفه ملتصقا بتونس أيّما التصاق، قريبا كما يكون القرب من الشغالين وعموم الشعب التونسي، الى ان أدركه التكريم والتبجيل واعادة الاعتبار بحلول العهد الجديد. إنها دون شكّ مسيرة زاخرة في حياة رجل يحلو لنا جميعا ان نسمّيه »أبا الشّغالين«. ❊ ❊ ❊ ❊ ❊ في غرة اكتوبر 1985، كنت والزميل فوزي العذاري من وكالة الانباء التونسية قريبين من مكتب عاشور في نهج اليونان لما بلغنا صدى الانفجارات التي أحدثتها الطائرات الاسرائيلية التي أغارت على مقرّات منظمة التحرير الفلسطينيّة في حمّام الشط. حاولنا جميعا استطلاع الامر فلم نعرف الى حدود 10 أو 15 دقيقة كنه ما جرى، ولما علم عاشور بوجودنا قريبا منه، دعانا ليسألنا ظنّا منه أنّنا ربما كنا نعلم. ونحن كذلك، إذ بجرس الهاتف يرنّ، فإذا بالصديق »إنزو فريزو« أمين عام الجامعة العالمية للنقابات الحرة (سيزل) على الطرف الآخر من الخطّ يسأله عمّا إذا كان هناك ضحايا كثيرين وخسائر، بهت عاشور ولم يدر ماذا يفعل وبماذا يجيب فواصل »فريزو« الحديث ونقل له ان أخبارا عاجلة وصلته عن غارة اسرائيليّة على مدينة تونسيّة. قطع عاشور المكالمة مع »انزو فريزو« واتصل للتوّ بوزير الدفاع فلم يجبه في مرّة أولى، لذلك عاود الاتصال ب »فريزو« وعرف منه التفاصيل، ثم وضع السماعة بهدوء وأخذ منديلا مسح به دموعا انهمرت من عينيه، وسكت عن أيّ كلام أو تعليق. لمّا خاطبه وزير الدفاع بعد نصف ساعة وأبلغه ردّا عن سؤاله (اشنوّ إليّ صار؟) بأن »طائرات مجهولة الهويّة اخترقت مجالنا الجوي...« صرخ عاشور في وجهه وقدم له ما عنده من معلومات مفصّلة وفرتها له »السيزل«. بعدها بأيام، دعينا للمثول أمام المحكمة من أجل »نشر أخبار زائفة«. لا طاقة لجدّي بالتعليق على مثل هذه الاحداث، وفي الحالتين، فما المرء إلا حديث من بعده.