احتضنتها القرية السياحية بالشفار ... «دورة أوكسيجين» تصنع الحدث    قبلي: «نفزاوة سيتي» في المعهد العالي للدراسات التكنولوجية    بدعم من البنك الألماني للتنمية...تجهيز كلية العلوم بقفصة بالطاقة الشمسية    فرنسا تعزز الإجراءات الأمنية أمام أماكن العبادة المسيحية    «شروق» على الجهات رابطة الهواة 1 (الجولة العاشرة إيابا) ..مقرين ومنزل بورقيبة يتعادلان والقصرين تضرب بقوة    أخبار الملعب التونسي ...استياء من التحكيم وانتقادات لاذعة للجويني    في «الباك سبور» بمعهد أوتيك: أجواء احتفالية بحضور وجوه تربوية وإعلامية    الخليدية .. أيام ثقافية بالمدارس الريفية    توزر...الملتقى الجهوي للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد    محاكمة ممثل فرنسي مشهور بتهمة الاعتداء الجنسي خلال تصوير فيلم    المهدية.. إنتشال 9 جثث لفظها البحر    وزير خارجية نيوزيلندا.. لا سلام في فلسطين دون إنهاء الاحتلال    مبابي يصمد أمام "ابتزاز" ومضايقات إدارة باريس    القصرين.. رعاة وفنانو ومبدعو سمامة يكرمون الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي    أخبار باختصار    الاحتفاظ بالمهاجرة غير النظامية كلارا فووي    صفاقس الإحتفاظ بالكاميرونية "كلارا فووي" واحالتها للتحقيق    تونس تشارك في الدورة الأولى من الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي حول التعاون الشامل والنمو والطاقة بالرياض    وزارة التجارة تنفي توريد البطاطا    عاجل/ سعيّد: الدولة لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام من يحاول المساس بأمنها    دامت 7 ساعات: تفاصيل عملية إخلاء عمارة تأوي قرابة 500 مهاجر غير نظامي    النادي الافريقي: 25 ألف مشجّع في الكلاسيكو ضد النادي الصفاقسي    خالد بن ساسي مدربا جديدا للنجم الساحلي؟    العاصمة: مئات الطلبة يتظاهرون نصرة لفلسطين    درة زروق تهيمن بأناقتها على فندق ''ديزني لاند باريس''    بن عروس : تفكيك وفاق إجرامي مختص في سرقة المواشي    تونس تعتزم تصدير 150 ألف طن من هذه المادة إلى بنغلاديش    الجامعة التونسية المشتركة للسياحة : ضرورة الإهتمام بالسياحة البديلة    نائبة بالبرلمان: ''تمّ تحرير العمارة...شكرا للأمن''    تعرّض سائق تاكسي إلى الاعتداء: معطيات جديدة تفنّد روايته    السنغال تعتمد العربية لغة رسمية بدل الفرنسية    المجر ترفع في المنح الدراسية لطلبة تونس إلى 250 منحة    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    بطولة الرابطة المحترفة الاولة (مرحلة تفادي النزول): برنامج مباريات الجولة التاسعة    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    سليانة: 4 إصابات في اصطدام بين سيارتين    نقطة ساخنة لاستقبال المهاجرين في تونس ؟ : إيطاليا توضح    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    عاجل : بشرى للتونسيين المقيمين بالخارج    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لصحافة العمالية في خضم الصراعات التي أدت إلى أحداث 26 جانفي 1978
بقلم:محمد صالح التومي
نشر في الشعب يوم 31 - 01 - 2009

أوّلا: الشكر كلّ الشكر للمناضلين النقابيين الصادقين بجهة بن عروس الذين أصروا على إحياء هذه الذكرى المجيدة ذكرى أحداث 26/01/1978 .
و ليس غريبا هذا الإصرار فلقد كان للمنطقة الصناعية بجهة بن عروس دورها الأبرز في أحداث ذلك اليوم .
ثانيا : و نحن نجتمع اليوم تكون قد مرتّ عقود بأكملها تقريبا على تلك الصفحة الأليمة من حياة الطبقة العاملة التونسية وقد كان ثمن الانتفاضة كثيرا من القتلى والجرحى من أبناء الشعب ، و امتلأت السجون بالموقوفين و الأقبية بصرخات التعذيب
فمن واجب الحركة النقابية أن تقف في خشوع و إجلال لذكرى هؤلاء الذين قدموا تضحياتهم من أجل إعادة رسم الدّور الذي يليق بالاتحاد العام التونسي للشغل في الحياة الاجتماعية و السياسية بالبلاد .
بل إنه من الواجب أن تتحولّ هذه الذكرى إلى مناسبة سنوية يقع إحياؤها من قبل الاتحاد العام التونسي للشغل على مستوى مركزي ومن قبل الفعاليات الاجتماعية كافة التي يهمها أمر الطبقة الكادحة وتاريخها بهذه البلاد.
ثالثا : الشكر أيضا وبصورة أخص هذه المرة للإخوان الذين فكروا في استضافتي لكي أكون حاضرا بينكم في مثل هذه المناسبة. لقد جاءتني الدعوة ، فلبيتها دون تردد ، ليقيني أن جهودنا جميعا يجب أن تتظافر لإحياء هذه المناسبة كما يجب أن تتجاوز مجرد استحضار الأحداث إلى محاولة استخلاص العبر منها مثلما دعا إلى ذلك مؤرخنا الكبير عبد الرحمان بن خلدون ومنذ قرون .
و لقد كان من دواعي سروري أن أكون ضمن كوكبة من الضيوف (1) كل واحد منهم عاش تلك الأحداث من موقعه، وكانت له مساهمته فيها انتصارا للحرية و للعدالة الاجتماعية .
في باب الإعداد لإحياء هذه الذكرى جمعتني مساء يوم الجمعة 13 جانفي 2006 جلسة عمل بالأخوين عبد اللطيف الحناشي و محمد المسلمي المسؤولين بالاتحاد الجهوي ببن عروس ، و قد بدا مني ومنهما التهيب ذلك أن كل حديث عن التاريخ الراهن مُّفىلجٍٍى مْىَُُّّىو'ج : يخشى منه أن يكون مشوبا بالعاطفة و بعدم البعد الضروري عن الحدث ، كما يخشى من القائمين به أن يعمدوا إلى ملء الفراغ بالحديث عن ذواتهم بما يمكن أن يتناسب مع حقيقة دورهم في المسار التاريخي المتحدث عنه أو بما لا يمكن أن يتناسب مع ذلك إطلاقا .
وهكذا فبعد أن اتفقت مع الأخوين على شكل المداخلة و موضوعها آليت على نفسي أن أبتعد قدر المستطاع عن تلك المز الق .
وأرجو أن أكون وفقت في ذلك ،مع اعترافي لكم مسبقا بصعوبة هذه المهمة .
أما عن شكل المداخلة فقد قررنا أن تكون في قالب شهادة ب مهفَهىٍُجُّ َِّ :، والشهادة كإفادة عن أحداث بعينها في مجراها التاريخي المحدد هي فن قائم بذاته وله شروطه الصارمة ألا و هي الدقة و الصدق.
وهي بعد ذلك لا يمكن اعتمادها بصفة مطلقة إلاّ بعد إخضاعها لنار الجدل بواسطة الشهادة المضادة و العودة إلى الوثيقة المكتوبة أو المصورة ما أمكن ذلك .
أما عن مضمون المداخلة فهو كما جاء بالعنوان محاولة إعطاء صورة واضحة قدر الإمكان عن دور الصحافة العمالية في خضم الصراعات التي أدت إلى اندلاع أحداث جانفي 1978 .
و إذ يكتنفني التهيب هنا أيضا فلأنني أجد نفسي هذه المرة طرفا مباشرا في العملية :
- سواء بصفتي أحد الأقلام التي كتبت آنذاك بجريدة الشعب و هي الصحيفة العمالية العلنية الوحيدة التي كانت موجودة ،
- أو بصفتي مثقفا أراد من خلال الانتماء إلى المنظمة النقابية تجسيم الشعار الذي رفعه الشباب التقدمي آنذاك ألا و هو شعار الالتحام بالطبقة العاملة في جميع مواقع وجودها .
والحقيقة أننا عند الحديث عن دور الصحافة العمالية في الصراعات التي أدت إلى اندلاع أحداث 26 جانفي 1978 لا يمكن إلاّ أن نستحضر في البداية المناخ الإعلامي الذي كان سائدا آنذاك. و هو مناخ تنعدم فيه الحرية انعداما تاما و لا مجال فيه إلاّ للرأي الواحد و للصوت الواحد وكان ذلك الرأي الواحد وذلك الصوت الواحد هو صوت القائد الأكبر والزعيم الأوحد الحاكم للبلاد آنذاك المرحوم الحبيب بورقيبة. فتعليماته وخطبه وحركاته ومقابلاته وتنقلاته هي التي تغذي المحتوى الإعلامي إلى حدّ أن الإذاعة تبدأ عملها صباحا بحصة من المدائح و الأذكار تمجد شخصه و أفعاله ، أما التلفزة فلا تنام يوميا إلاّ على نتف من توجيهاته المأخوذة من مختلف خطبه المصورة . أماّ الصحف التي كانت تصدر آنذاك و هي بالخصوص العمل و َُىُّكف'ج و الصباح و مََّّمِْ فج فإن صفحاتها الأولى تتحلى جميعها وجوبا بصورة للرئيس المفدى.
لم يكن ذلك قانونا و لكنه كان تقليدا راسخا لا يمكن التفكير في تجاوزه أو خرقه.
وكانت الحكومة تعمل على الإحاطة بالصحفيين و هم قلة ولكي أرسم لكم صورة عن تلك الإحاطة اللصيقة دعوني أحادثكم عن ذلك من خلال مثال التغطية الصحفية لاجتماع مجلس الوزراء الذي كان ينعقد بصورة دورية وأسبوعيا آنذاك نظرا الأهمية النسبية التي كان يحتلها رئيس الوزراء في الحياة السياسية بالبلاد في تلك الظروف.
لقد كان اجتماع مجلس الوزراء حدثا من الأحداث البارزة و لا بد لأي جريدة تحترم نفسها من تغطيته لفائدة قرائها، ولقد كنت منتدبا من قبل جريدة الشعب للقيام بتلك المهمة في غضون سنة 1976 مثلا.
وفي هذا النطاق كانت تتم دعوة الصحفيين في البداية إلى مقر كتابة الدولة للإعلام الكائن مقرها بنهج الجزائر العاصمة و كان عضو الحكومة المكلف بالإعلام يدعى السيد مصطفى المصمودي وهو إعلامي معروف من حيث اهتماماته ، و مثقف على درجة من الكياسة ،و قد كان أثناء اجتماعه بالصحفيين زيادة على مدهم بالمعطيات السياسية و بالأخبار لا يتخلف و إن كان ذلك بلهجة مهذبة و الحق يقال ، عن لفت نظرهم إلى ضرورة التركيز على بعض الموضوعات بعينها و تخصيص تعليقاتهم و تحليلاتهم لأحداث بذاتها .
لكن بعد ذلك فقد فكر مدير الحزب الحاكم و هو آنذاك السيد محمد الصياح في مزيد الإحاطة بالصحفيين و لذلك أصبحت تقع دعوتهم بمناسبة انعقاد مجلس الوزراء إلى دار الحزب الحاكم الواقعة على نهج 2 مارس 1934 وعلى شارع 9 أفريل 1938 ، و هناك تقدم لهم في كل مرّة و أظن ذلك أيام الخميس على ما أتذكر مأدبة فاخرة عليها جميع صنوف الطعام و أنت بإمكانك أن تأكل أو أن لا تأكل و يحضرها الوزراء المعنيون بالأمر إلى جانب الصحفيين المكلفين من قبل جرائدهم .
و أذكر من بين الحضور : عن جريدة الصباح السيد عبد اللطيف الفراتي، و عن الصحافة الحزبية السيد عمر صحابو ، و تخونني الذاكرة للأسف في خصوص أسماء البقية ، و لا أظن أننا كنا نتجاوز الخمسة أو الستة في أقصى تقدير على ما أذكر الآن أما الوزراء الذي كانوا يتوافدون على تلك المأدبة الصحفية فهم بالخصوص هؤلاء الذين تناول مجلس الوزراء نشاط وزاراتهم وتتمثل مهمتهم في إنارة الإعلاميين حول المستجدات المتعلقة بذلك النشاط،و من الأسماء التي بقيت راسخة في ذهني اسم السيد محمد مزالي وزير التربية الذي أصبح وزيرا أول بعد ذلك ، و اسم السيد محمد الفيتوري وزير المالية ، و لا استحضر أسماء الآخرين مع كامل الأسف مرة أخرى.و بعد كلمة مدير الحزب الترحيبية كان كل وزير يقدم للصحفيين ما تم استعراضه في مجلس الوزراء في خصوص نشاط وزارته، و كان الصحفيون يحصلون أثناء هذه الدردشة الدسمة على الأخبار التي جاؤوا من أجل الحصول عليها.
لقد كان بإمكان السيد محمد الفيتوري وزير المالية مثلا أن يتوجه إليهم في مثل هذه الجلسات بخطاب هذا مضمونه تقريبا حسبما وجدته مسجلا ببعض أوراقي: انرجو أن تحث الصحافة المواطنين على ضرورة التقشف وأن تنقل إليهم المجهودات التي تبذلها الدولة لفائدتهم والإنجازات االتي تحققها الحكومة لكافة أبناء الشعب .
يجب حث المواطنين على عدم التبذير و الابتعاد عن الإفراط في الاستهلاك. ثم يواصل السيد محمد الفيتوري : أتعرفون أن السيد الهادي نويرة الوزير الأول قد حدثنا اليوم عن المواطن الأوروبي و كيف أنه من باب التقشف لا يشتري الإجاص مثلا بالكيلو غرام وإنما بالوحدة أي إجاصة واحدة لكل فرد من أفراد العائلة . هذا ما قاله الوزير آنذاك ولكن الحال لم يكن للأسف كذلك على مائدة الاجتماع ؟
أما السيد محمد الصياح فهو يسدي من الآراء ما يتوافق مع منصبه في إدارة الحزب الواحد و لا يتخلف عن توجيه ما يشبه اللوم في بعض الأحيان ففي مناخ الإضراب الذي شنه عمال ديوان الأراضي الدولية، فإن مدير الحزب قال مثلا في سياق الكلام أثناء المأدبة الصحفية الموالية ما يلي تقريبا :
بودنا أن يقع التخلي عن العناوين الهمجية، وقد أسماها بالدرجة التونسية هكذا بالضبط. وبدا معنيا في مداخلته بالمصداقية الصحفية و لم يخص أي طرف بالحديث ، و لم يشر إلى جريدة بعينها أو إلى عنوان بعينه ،لكن تدخله كان يتأطر آنذاك في المناخ القاتم القائم بين اتحاد الشغل و بين الحكومة والذي يشكل ملف الإضراب أحد سماته الحادة حتى إن جريدة الشعب كانت صدرت آنذاك بعنوان كبير وبالصفحة الأولى جاء فيه حرفيا مايلي:
ارفعوا أيديكم عن ديوان الأراضي الدولية.
وكان الخطاب موجها بطبيعة الحال إلى أولي الأمر.
هذه هي الأجواء التي يجدر بالمستمعين معرفتها و التي حاولت جريدة الشعب المعاد بناؤها أن تلعب فيها دورها، منزلة نفسها في الصراعات التي أدت إلى اندلاع أحداث 26 جانفي 1978 المنزلة التي يتطلبها تعبيرها بأمانة عن طموحات الطبقة العاملة إلى حدّ تجاوز فيه العمل الصحفي حدوده المتعارف عليها ليصبح التزاما تاما بتلك الطموحات وانخراطا في محاولات تحقيقها ، وهو ما أدى بعد ذلك و عند اندلاع أحداث جانفي 1978 واستيلاء قيادة منصبة على المنظمة و على جريدتها إلى تضحية أغلب عناصر أسرة التحرير بمورد رزقهم وتعريض أنفسهم للبطالة و انخراطهم بشكل أو بآخر في الدفاع عن الشرعية النقابية ضد الذين وقع تنصيبهم آنذاك على رأس الاتحاد اي التيجاني عبيد ومن معه اذ وقع الاتفاق في اجتماع عقد للغرض بإحدى المقاهي على عدم التعامل مع المنصبين بأي شكل من الأشكال.
ومن المعلوم هنا أن جريدة الشعب كانت قبل 1975 جريدة متقطعة الصدور ، أما مع بداية 1975 فقد كانت تصدر في شكل وريقات من الحجم الصغير ، و تتم طباعتها في حدود ألفي 2000 نسخة تقريبا و يتم توزيعها بصورة مجانية في أغلب الأحيان على مختلف الهياكل النقابية و لكنها بداية من ديسمبر 1975 ستعرف انطلاقة أخرى في الشكل و في المحتوى و ستتطور شيئا فشيئا إلى أن يبلغ توزيعها في بعض الأحيان مائة وعشرون ألف نسخة ( 120.000) و خاصة مع اقتراب الحدث الذي نحن بصدد الحديث عن علاقتها به ألا و هو انتفاضة 26 جانفي 1978 .
فكيف وقع ذلك على وجه التحديد ؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه . لكنه لا بدّ هنا من إنارة تاريخية صغيرة فأنتم تعرفون أن الحياة الاجتماعية و السياسية بالبلاد التونسية تميزت دائما بالتداخل و الصراع بين الحركة النقابية العمالية تحت مختلف مسمياتها و بين حزب الدستور تحت مختلف الأشكال التي اتخذها عبر التاريخ فحين تصدى محمد علي الحامي و رفاقه في العشرينيات من القرن العشرين لتأسيس جامعة عموم العملة التونسيين وجد في شخص من طراز احمد توفيق المدني وهو دستوري من أنصار الثعالبي ناصحا ومحرضا هو كذلك دستوري مستنير آنذاك مناضلا متحمسا إلى جانبه ، و قلما مخلدا و مؤرخا للحركة بعد ذلك ، لكنه لم يجد من القيادة الدستورية ذاتها إلاّ النبذ و التنديد و ذلك لاعتقاد القيادة الدستورية أنه لا يمكن مساندة نقابة ينتمي إليها أشخاص من طراز فينودوري و مختار العياري لأنهما يساريان معروفان وذلك رغم القيمة العالية التي يملكها هذان المناضلان .
أمّا مع التجربة النقابية الثانية ألاّ و هي التجربة التي قادها بلقاسم القناوي في الثلاثينيات بعد عودة محمد علي القروي من المنفى فإنه سرعان ما وقع الهجوم عليها من قبل جماعة الحزب الحرّ الدستوري الجديد الذي كان يقوده الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ووقع تنصيب الهادي نويرة المحامي أمينا عاما لتلك المنظمة لا لكي يقوم بتنشيطها بل ليقوم بوأدها و دفع جميع فعالياتها إلى مغادرتها والانضمام للحزب الدستوري لأن الحزب الدستوري لم يكن و منذ ذلك الوقت و هو لم يرتق بعد إلى سدة الحكم يقبل بنقابة عمالية مستقلة .
و كان لا بد من انتظار ظروف أخرى لم تسنح إلاّ سنة 1946 أي بعيد الحرب العالمية الثانية لكي يتمكن فرحات حشاد و الحبيب عاشور و محمود المسعدي والفاضل بن عاشور و من معهم من النجاح في إنشاء الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تميز وجوده منذ ذلك الحين و إلى الآن بالصراع و التداخل مع الحزب الدستوري و لكنه تمكن من الصمود . وها نحن نجتمع اليوم في رحابه بفضل ذلك
ولكن دعنا الآن نتجاوز أغلب الملابسات لأنها لا تعنينا في سياقنا لنقف على المراحل التي تهمنا فقط . فبعد محاكمة الحبيب عاشور في 1965 و إزاحته و تنصيب البشير بلاغة على رأس المنظمة الشغيلة ليسلك بها نهجا مواليا للحبيب بورقيبة و لأحمد بن صالح وزير التخطيط و التعاضد آنذاك ، و بعد سقوط تجربة التعاضد الإجباري و القسري كونها لم تشمل غير الفلاحين الفقراء وبعد صعود الليبرالي الهادي نويرة إلى كرسي الوزارة الأولى وجد هذا الأخير نفسه مجبرا على معاودة الاتصال بالحبيب عاشور ليطلب منه إعادة تنشيط المنظمة النقابية . و قد أصبح الحبيب عاشور بالمناسبة عضوا بالمكتب السياسي للحزب الحاكم ، لكنه كزعيم تاريخي للاتحاد لم يكن في نيته إخضاع المنظمة النقابية لتعليمات مباشرة من المكتب السياسي لذلك الحزب.
و هذه الاستقلالية النسبية التي كان يطالب بها الاتحاد و يسعى إليها سرعان ما جعلت إدارة الحزب تفكر في تمكين أشخاص آخرين من نوع فرحات الدشراوي و عامر بن عائشة من لعب الأدوار الأولى بالمنظمة على حساب زعامة الحبيب عاشور و الخط النقابي الذي يقترحه .
و هذا الصراع يمكن اعتباره من أبرز الخلفيات لكل التطورات اللاحقة ، و لقد كان بإمكان الحاضر في بورصة الشغل في 21 جانفي 1976 مثلا و هي ذكرى تأسيس الاتحاد أن يقف بيسر و سهولة على وجود ذلك الخلاف وعلى طبيعته و مداه .
فالقاعة كانت ملآنة و تعج بمئات العمال و النقابيين ، و قد حضر تلك المناسبة أرفينغ برا ون عن النقابات الأمريكية ( F L C IO ) و الهاشمي البناني عن نقابات المغرب الأقصى و أوتوكيرستن عن السيزل و أثناء إلقاء الكلمات كان هناك 12 شخصا تقريبا يصرون على الهتاف بحياة رئيس الدولة الحبيب بورقيبة ، و قرابة السبعة أشخاص تقريبا يهتفون من مرة إلى أخرى بحياة الهادي نويرة رئيس الحكومة . و شخص واحد هتف مرة واحدة بحياة محمد الصياح مدير الحزب الحاكم .
فيما كانت أغلبية الحاضرين تتناوب كرد للفعل على الهتاف بحماس منقطع النظر مرة بحياة الاتحاد و مرة بحياة الحبيب عاشور .
و كان ذلك يعني أن القيادة النقابية أحرزت في تلك اللحظة تقدما ملحوظا ضد خصومها و مناوئيها و تكللت مساعيها في الدفاع عن وجودها و عن وجود الاتحاد بنسبة مهمة النجاح لكنه قبل تلك اللحظة كان الاتحاد قد توجه و شيئا فشيئا نحو إعادة تأسيس النقابات أو تأسيسها من عدم استكماله لهيكلة المنظمة الشغلية .
و هكذا ازدهرت قاعات الاتحاد بالنقابيين الشبان المتحمسين كما ازدهرت بالمثقفين من رجال التعليم الثانوي و العالي و مفقدي التعليم الابتدائي و مهندسي الأراضي الزراعية ، و كنت تشاهد أثناء الاجتماعات وجوها من أمثال صالح القرمادي و الطيب البكوش و صالح الزغيدي و سالم رجب و منير كشوخ و مهدي المسعودي ومحمد الصالح الخريجي و الميداني بن صالح و الجنيدي عبد الجواد و محمد الشايب و محمد الطاهر الشايبي وأحمد الكحلاوي ومحمد الصالح بالحراث و غيرهم يحضرون مختلف النشاطات التي يقوم بها الاتحاد إلى جانب ثلة من الذين عاصروا فرحات حشاد رجب العزوني الزرقة - و النوري البودالي و غيرهما مثلا وإلى جانب ثلة من كوادر الاتحاد مثل سعيد قاقي ومحمود المبروك وبلقاسم بالطيور وعمار الحرباوي والتاجي الشعري ونورالدين البحري ومحمد الصالح الراجحي ومحمد بن سعد وعلي رمضان وغيرهم أو حتى إلى جانب محمد علي القروي و هو أحد رفاق محمد علي الحامي و الذي كان يصر و هو في سن متقدمة جدا على الظهور في بعض المناسبات وقد صعد في ذكرى تأسيس الاتحاد في 21 جانفي 1976 مثلا إلى المنصة لتحية الحاضرين .
و نحن نذكر هذا مع الاعتذار لمن لم يقع ذكرهم لإعطاء صورة فقط عن ثراء اللحظة التاريخية التي نتحدث عنها و عن ظروف التداخل و الصراع التي كانت تمثل علاقة النقابة بالحزب الدستوري .
و كان من الضروري بالنسبة للقيادة النقابية أن تفكر في ذلك المناخ في تطوير الجهاز الإعلامي للمنظمة ومن هنا كان التفكير في إعطاء جريدة الشعب شكلا جديدا ومضمونا آخر .
و قد تظافرت أسباب عديدة لكي تكون أسرة التحرير متكونة من بعض خريجي الجامعة الذين كان لهم إسهامهم في حركة فيفري 1972 و حتى في الهياكل السرية للاتحاد العام لطلبة تونس بعد الأزمة التي عرفها منذ مؤتمر قربة 1971 الانقلابي ، و هكذا وقع تنظيم النضال الصحفي لفائدة العمال في ظل هذه الملابسات.
كان الهدف هو تمكين المنظمة العمالية من إبراز صوتها بعيدا عن كل وصاية ، و توصل المحررون منذ البداية إلى فرض تقليد ديمقراطي وقع احترامه في أغلب الأحيان: ألا و هو تقليد اجتماع أسرة التحرير لتحديد سياسة الجديدة.
ووقع تقاسم العمل على أساس محاولة إبراز صوت القاعدة العمالية العريضة بل إن التعبير عن صوت العمال هو الذي قاد أسرة المحررين فلم يكن في نيتهم أن يكونوا أقلاما تعبر عن رأي القيادة بقدر ما كانت تحدوهم العزيمة على إعطاء الكلمة للقاعدة النقابية و تمكينها من التعبير عن مشاغلها .
و هكذا تعززت الرغبة في التغطية المناضلة و الملتزمة للإجتماعات العمالية كافة وفي إجراء التحقيقات مع العمال حول ظروف عملهم في جميع مواقعهم الميدانية كالمناجم و غيرها زيادة على استضافة أحدهم أو بعضهم من مرة إلى أخرى و تمكينه من حق الكلمة للتعبير عن المشاغل المباشرة مع تعزيز ذلك كله بمادة تثقيفية حول الحقوق القانونية للشغالين و إفراد صفحات بأكملها في كل عدد لزيادة وعيهم بالمستجدات التي تجد على مدار الساعة على المستويين القومي و الأممي .
و قد اصطدمت أسرة التحرير منذ البداية بذلك التقليد المتمثل في ضرورة إبراز صورة رئيس الدولة على الصفحة الأولى من كل عدد من أعداد كل جريدة و سرعان ما تقرر الاستغناء عن تلك الصورة و كان ذلك امتحانا وقع خوضه بتوجس مشوب بالجرأة.
و كان لا بد بعد ذلك من محاولة اكتساح مجالات جديدة على درب حرية الصحافة و في هذا الاتجاه يمكن القول إن الجرأة لم تكن تقف عند حدود معينة .
و لكن الأطراف المقابلة لم تلتزم الصمت كذلك .
فإذ نددت الجريدة بغلاء المعيشة و بتدني الأجور وبسوء التصرف و بالاستيلاء على المال العام و طالبت في بعض الأحيان حتى بالتأميم كحل للمشاكل في بعض المؤسسات ووقفت ضد قانون أفريل 1972 الذي فتح الباب للاستثمار الأجنبي بالبلاد ، و نادت بتمكين الشغالين من حقهم النقابي كاملا ودون نقصان وبجعلهم يحتلون المرتبة الإنسانية اللائقة التي يستحقونها باعتبارهم منتجين للخيرات الوطنية ووقفت بتماسك تام مع قضايا التحرر الوطني ضد الإمبريالية والصهيونية والعنصرية و ضد الرجعية ،فإن ذلك لم يمر دون استثارة بقية الأطراف .
و هكذا وردت على الجريدة رسائل غاضبة باسم حق الردّ ، بل إن الحملة قد انتظمت على أشدها ضد الاتحاد و ضد جريدة الشعب و ضد محرريها فيما كان التناقض موجودا حتى داخل فعاليات المنظمة الشغلية و داخل الأسرة الصحفية كانعكاس لذلك .
وقد روى لي أحد النقابيين في ماي 1976 أنه كان حاضرا في اجتماع صاخب أشرف عليه والي المنستير آنذاك السيد الهادي عطية، وقد ضم الاجتماع عناصر الشعب المهنية المنتمين إلى الحزب الحاكم بجهة الساحل و الذين كانوا ينافسون النقابيين في دورهم في مختلف المؤسسات . و قد نقل لي ذلك الراوي أن والي المنستير قد قال في ذلك الاجتماع ما يلي تقريبا : إن جريدة الشعب ورقة متهورة و قذرة يعشش فيها المعارضون و نحن سنوقفها حتما و إذا أحوجت الضرورة فإننا سنحل الاتحاد في حدّ ذاته.
و من الضروري لفت الانتباه إلى أن هذا التهديد الصادر في ماي 1976 قد وجد طريقه إلى التنفيذ، ففي جانفي 1978 لم يكن تهديدا مجانيا ..
و الحقيقة أنه في تلك الظروف بدأت المنظمة العمالية تنتقل من التعايش مع ظاهرة الشعب المهنية إلى التحاكك معها و مصادمتها ، بل إن القاعدة العمالية قد بدأت تصعد لهجتها شيئا فشيئا ضد تلك الهياكل الموازية في محاولة لرسم الحدود الفاصلة بين برنامج الحركة النقابية و بين برنامج الحزب الحاكم الوحيد .
و قد أدى هذا التصعيد النقابي إلى تعمّق الهوة بين الطرفين إلى حد أن المرحوم الحبيب عاشور قد استقال في النهاية و قبل أحداث 26 جانفي 1978 من المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري. و لكن التيجاني عبيد و أمثاله سيبقون داخل ذلك الحزب و سنجدهم بعد ذلك الحدث يلعبون أسوأ الأدوار داخل المنظمة عبر تاريخها لفائدة خصمها المتمثل في الحزب الدستوري وضد طموحات قواعدها.
أمام مثل هذه الملابسات فإن المسؤولين الأولين عن الجريدة ألا و هما المرحوم حسن حمودية عضو المكتب التنفيذي المكلف بالإعلام و المختار الغريسي رئيس تحريرها قد انتابتهما الحيرة أمام الردود الغاضبة التي كانت تأتي من الأعراف احتجاجا على ما يقع تداوله في الاجتماعات العمالية كيفما يقع نشرها على أعمدة الجريدة خاصة وقد طال غضب هؤلاء الأعراف حتى محرري الجريدة
و لم تخل الردود في بعض الأحيان من التحامل عليهم ،و كان من المشروع إزاء ذلك أن يقع تمكين الأطراف المقابلة من حق الردّ طبقا للقانون ،و لكن لا بد لنا هنا من ذكر بعض الأمثلة المحسوسة للوقوف على أوجه الحقيقة كافة.
و يتعلق المثال الأول بصدور مقال عن الأوضاع بشركة الرفاهة و هي شركة يرأسها آنذاك رجل مقرب من رئيس الدولة الراحل ألا و هو المحجوب بن علي صاحب الدور المعروف في قمع الحركة اليوسفية . كان عنوان ذلك المقال «خبز وماء أمّا الظلم فلا» و قد صدر بتاريخ 10 جوان 1977 فرأت فيه شركة الرفاهة مثلما ورد في ردها بعدد الجريدة المؤرخ في 17 جوان 1977
أقاويل باطلة تبعث على الاستغراب وتأسفت بالمناسبة للشعارات الروتينية و المؤثرات الخلابة الواردة بالمقال، فما كان من الاتحاد الجهوي بجهة تونس ويرأسه آنذاك عبد الرزاق أيوب إلاّ أن عقب على ذلك الرّدّ بنفس العدد من الجريدة موضحا دون لبس:
أن ما جاء بالجريدة في 10 جوان 1977 هو ملخص لما جاء على ألسنة العمال.
أما المثال الثاني و هو في الاتجاه نفسه فيتعلق بصدور مقال عن الأوضاع بشركة التأمين المغربية وقد صدر بعدد جريدة الشعب المؤرخة في 29 أفريل 1977 و قد رأت الشركة المذكورة أن المقال لا غاية له إلاّ تزوير الحقائق ومغالطة القراء وذكرت اسم محرر المقال في ردها ، فما كان من الجامعة الوطنية للبنوك و المؤسسات المالية و التأمين التي كان كاتبها العام آنذاك هو مؤسسها محمود القرامي إلاّ أن تصدت بأعمدة الجريدة لذلك التهجم مشيرة في ردها المنشور بنفس العدد إلى: أن الدور الذي تقوم به جريدة الشعب دور أساسي في حياة الاتحاد ، وفي العمل النقابي في جميع المؤسسات ملاحظة في المناسبة نفسها أن الجريدة فرضت نفسها لا فقط لأنها لسان الاتحاد العام التونسي للشغل أي لسان منظمة أصبح لها وزن كبير في البلاد ، و لكن أيضا للمستوى المرتفع الذي تحتوي عليه الجريدة و الذي تحقق بفضل التفاني الذي يبديه أعضاء أسرة الجريدة في عملهم الصحفي و بفضل الموضوعية التي يتحلون بها في مقالاتهم .
و لكن المثال الثالث سيكون على عكس هذا الاتجاه تماما . إذ استضافت الجريدة عاملين من شركة الأثير و فتحت لهما أعمدتها فتحدثا عن وضع لا يطاق بتلك الشركة و عن مناورات تطال العمل النقابي و تعرقله نتيجة وجود اتصالات و إغراءات تنتهي دائما بتكسير كل نقابة يقع انتخابها وقد أثار هذا المقال زوبعة عند صدوره بعدد الجريدة المؤرخ في 15 أفريل 1977 وتمكنت شركة الأثير بقوتها المالية وباتصالاتها المباشرة بالهادي نويرة الذي تنسب له المشاركة في رأس المال و بعلاقاتها حتى داخل الاتحاد من أن تنشر على صفحة كاملة مقالا جوابيا تبنته رئاسة التحرير بالجريدة جاء على النقيض تماما لما ذكره العاملان المتحدثان واحتوى على إشادة بالمناخ الاجتماعي الطيب بالمؤسسة وبعلاقة التعاون و التفاهم بين النقابة و الإدارة هكذا الضبط بل لقد وقع إرفاق ذلك المقال بأربعة صور مما أعطاه شكل المقال الدعائي
و كان نشر ذلك المقال بتلك الصورة و تبنيه من طرف رئاسة تحرير الجريدة بدفع من بعض الجهات داخل الاتحاد و خارجه بمثابة التنكر الواضح للجهد الذي يبذله المحررون لمعانقة المشاغل العمالية و التكذيب المباشر لمحرر المقال و التحريض عليه . و كان لتلك الواقعة تطورات مؤسفة أخرى ليس هذا المجال للتبسط و التوسع فيها .
كما كانت هناك ملابسات أخرى كثيرة يمكن ذكرها في هذا السياق غير أننا نكتفي بهذا القدر لأنه يوضح بما فيه الكفاية جانبا من التناقضات الموجودة آنذاك التي تحف بمسيرة الحركة النقابية و بمسيرة لسانها و جريدتها في تلك الظروف التاريخية.
و هذه التناقضات التي رافقت مسيرة الحركة النقابية في مثل ذلك المناخ السياسي هي التي ستؤدي إلى إبرام ما سمي بالسلم الاجتماعية بين قيادة الاتحاد و بين الحكومة و قد كان من نتائج ذلك الاتفاق لجم الحركة الاحتجاجية بالمؤسسات و تسليط درجة من الرقابة على محرري الجريدة بل لقد وقع إبعاد بعض الأقلام عن تغطية الاجتماعات العمالية و تكليفها بمهام أخرى فكانت تلك فرصة مناسبة للدفاع عن العمال من زوايا أخرى، ولكنها كانت فترة قاسية رغم ذلك بالنسبة للتوجه الصحفي الذي تم إقراره في البداية .
ولم تدم السلم الاجتماعية لأن جهاز الدولة و إدارة الحزب لم يكونا ليقبلا باتحاد عمالي مستقل و لو استقلالا نسبيا لذلك سرعان ما عادت الصراعات على أشدها بين الطرفين ليقع التنكيل بالنقابيين و بالعمال بل لقد وصل الأمر آنذاك و عند النهاية إلى حدّ محاولة اغتيال الزعيم النقابي الحبيب عاشور إلى جانب محاولة عرقلة صدور الجريدة التي كانت تطبع بمطبعة ساجاب ذاءس بدار الحزب الحاكم و تقوم بتوزيعها جزئيا شبكة من الموزعين المتعهدين الذين يخضعون لتعليمات السلطة في أغلب الأحيان . ولكن الإقبال على الجريدة بقي على أشده خاصة وقد اغتنت بانتداب أحد رواد الصحافة الهزلية الساخرة الذي كان يكتب ركنا قارا بعنوان حربوشة وفي ذلك المناخ الصاخب بالنقد الصحفي الجاد أو الساخر و بالمسيرات وبالإضرابات التي تقع دفاعا عن الحق النقابي و عن المصالح العمالية وضد الاعتداءات كافة ومن ضمنها المحاولة الخسيسة لاغتيال الزعيم الحبيب عاشور ،التأم المجلس الوطني للاتحاد أيام 8و9و10 جانفي 1978 بنزل أميلكار ليقرر الإضراب العام ليوم 26 جانفي 1978 ، و ميزت أشغاله الكلمة المبدئية التي ألقاها عبد الرزاق غربال الكاتب العام للاتحاد الجهوي بصفاقس.
وقد سبقت الإضراب العام مسيرات واعتصامات واجتماعات عديدة بأنحاء البلاد كافة كان أهمها الاجتماع بسبعة آلاف من عمال الفلاحة الذين تجمعوا بساحة محمد علي يوم 24 جانفي 1978 ، و قد ألقى خلاله المرحوم الحبيب عاشور خطابا على غاية من الحماسة محرضا على التضحية مناديا بالخصوص بأن: الحرية ثمنها الدّماء والشعب التونسي يستحق أن يكون حرّا ..لأنه لا يبخل أبدا بهذا الثمن.
هذا ما سمعته منه شخصيا آنذاك . و قد عبر ذلك الخطاب عن مدى الحدة التي وصل إليها الصراع الاجتماعي في شقه الرئيسي كما في شقه الثانوي.
و حوصرت القيادة النقابية مع بعض محرري الجريدة مباشرة بعد ذلك الاجتماع بمقرات الاتحاد،
و كان محدثكم من ضمن من وقع عليهم الحصار ، و دام ذلك الحصار ساعات طويلة تداول فيها الزعيم الحبيب عاشور هو و الموجودون معه حول عدم الاستسلام لتلك الهجمة الواضحة ثم وبصورة مفاجئة أطلق سراح الجميع في ساعة متقدمة من الليل ، فيما كانت الشوارع المجاورة مسرحا لمعارك عنيفة بين العمال و بين أعوان الأمن و هي معارك دامت إلى حدود منتصف الليل .
ثم كان يوم 26 جانفي 1978 فكان يوما داميا بحق نتيجة الاستفزاز الذي قامت به عناصر الميليشيا التابعة للحزب الحاكم تمهيدا لإعلان حالة الطوارئ وتسليم مهام الأمن إلى الجيش ،. ومات كثير من الناس 470 حسب بعض الروايات فيما اعترف الكتاب الأبيض بقرابة الخمسين فقط - و حمل عشرات النقابيين إلى السجن بمن فيهم القيادة المنتخبة و مات تحت التعذيب المرحوم حسين الكوكي من نقابيي البنوك بجهة سوسة و مات على إثر التعذيب المادي و المعنوي المرحوم سعيد قاقي من جامعة المعاش و كان حكم الإعدام على وشك الصدور في حق الزعيم الحبيب عاشور بالخصوص
أي أن التضحيات كانت جسيمة أمّا المكاسب فإن لم تكن بحجم تلك التضحيات فهي لم تكن منعدمة .
و يمكننا من باب استخلاص العبرة كما قلنا في البداية أن نقف على الأقل على ما يلي :
أولاّ : لقد افتكت الحركة النقابية و صحافتها مساحة من الحرية أدت :
- على المستوى الإعلامي : إلى بروز جريدتي الرأي والديمقراطية (مىُّفْكٍُج) ثم شيئا فشيئا إلى صدور جملة من النشريات الحرة ومن ضمنها -مْفوِ مٌ المنار - الموقف ، الفجر ، البديل ، أطروحات المجتمع، 21/,15 المستقبل ،الشهرية ، الباحث ، الوحدة الطريق الجديد.
- على المستوى التنظيمي : إلى بروز جملة من التنظيمات الجمعياتية و الحزبية بدأت بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان و تدعمت برفع الحظر عن نشاط الحزب الشيوعي التونسي وببروز جملة من الأسماء التنظيمية الأخرى التي تنشط اليوم بصعوبة بعد حصولها على تأشيرتها أو هي تنشط في ظروف صعبة كذلك في انتظار حصولها على هذه التأشيرة . وقائمة هذه الأسماء أصبحت طويلة نسبيا و لا يكفي المجال هنا لحصرها كلها ،لكن المتابعين للحياة السياسية والجمعياتية لا شك أنهم سيهتدون إليها دون صعوبة .
مع الإشارة هنا إلى أن هامش الحرية الذي اكتسحته الحركة العمالية في الظروف المشار إليها أعلاه قد مكن من ناحية أخرى من ترسيخ ما كانت منظمات من قبيل الهيئة الوطنية للمحامين و جمعية الصحفيين و جمعية القضاة الشبان وجمعية المحامين الشبان تحاول ترسيخه بمجهوداتها الذاتية قبل ذلك لفائدتها و لم تتمكن منه إلاّ بفضل المناخ الذي أتاحته محاولة الاتحاد الاستقلال عن الحزب الحاكم (3).
يبقى من المهم بعد هذا أن ندرك أن مساحة الحرية المفتكة على المستويين سابقي الذكر لا زالت خاضعة إلى مدّ التاريخ و جزره ، فهي بصدد التمدد و التقلص حسب الظروف و الأحوال .
و ذلك ما يمكن قوله حتى عن استقلالية المنظمة العمالية ذاتها التي لئن تأكدت اليوم فهي لا زالت أيضا تحت مفعول عاملي التمدد و التقلص المذكورين من حيث نسبتها و مساحتها .
ثانيا : أما عن عدم استقرار موجة الحرية التي أحدثتها الحركة العمالية في نهاية السبعينيات فيمكن تفسيره حسب اعتقادنا بعاملين أثنين :
- أما العامل الأول : فيعود إلى أن الحركة العمالية التي كانت تملك رصيدا بشريا لا بأس به في الميدان الفلاحي و خاصة في الأراضي الدولية عجزت رغم ذلك عن الالتحام مع طموحات صغار المزارعين الذين بقوا منضوين تحت لواء الاتحاد القومي للفلاحة ، و قد كان من شأن ذلك الالتحام لو تحقق أن يوجد َفٌَّّفِ َُّمٍمًٍُِّّ مٌقفُّىْجًّ َِّ أي حركة فلاحية جديرة بهذا الاسم و واعية بذاتها ،فتكون سندا جبارا في الأرياف لحركة العمال في المدن والحواضر، ولكن ذلك كان يقتضي شيئا من التريث لم تتوفر أسبابه في تلك الظروف .
- أما العامل الثاني : فيتمثل كذلك في عجز آخر ، و هو العجز المتوارث للحركة العمالية التونسية منذ محمد علي الحامي والمتمثل في عدم إيجاد تنظيمها السياسي المعبر عن ذاتها والرابط لحلقات نضالها و هو ما كان تفطن له المرحوم الحبيب عاشور الذي طرح بحدة قضية الحزب العمالي، وما حاول تجسيده بعد ذلك المرحوم خليفة عبيد ، وما تصدى له و إلى الآن كثير من الفاعلين السياسيين اليساريين سواء قبل 26 جانفي 1978 أو بعده ، دون أن تصل أية محاولة إلى عملية الاختراق الحاسمة التي تحقق بلوغ نقطة اللاعودة إلى الوراء على حدّ العبارة البليغة للمفكر الاقتصادي المصري سمير أمين ، ما يجعل اتحاد الشغل تقع على عاتقه وحده تقريبا مهمة القيام بدور الثقل السياسي المضاد وهي مهمة متشابكة الأبعاد وعسيرة في مثل هذه الظروف.
ختاما
أرجو أن أكون بلغت للحضور حقيقة الدور الذي قامت به الصحافة العمالية في مسار الأحداث التي أفضت إلى 26 جانفي ,1978 وأن نكون وفقنا جميعا إلى استخلاص العبرة المناسبة من تلك الأحداث الأليمة التي حاولنا اليوم إحياءها و استحضارها .
وعاش الاتحاد العام التونسي للشغل مستقلا و مناضلا ، وعاشت الطبقة الكادحة على درب تحررها الوطني والاجتماعي والديمقراطي ، والمجد لشهدائها وأبطالها من احمد بن ميلاد و محمد علي الحامي و مختار العياري وفينودوري والطاهر الحداد وفرحات حشاد و الحبيب عاشور إلى آخر جندي مجهول من جنود حركتها المتواصلة ، والسلام


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.