مثّل اعلان القيروان عاصمة للثقافة الاسلامية مناسبة لتسليط الأضواء على هذه المدينة التي لم تأخذ حظها كما ينبغي رغم مكانتها التاريخ مغربا ومشرقا باعتبارها مدينة الاسلام الاولى بإفريقية والمغرب والبوّابة التي وصلت الشرق بالغرب، ووضعت أساسا متينا لعلاقة مثاقفة حضارية نقلت كنوز الشرق المتألق معرفيا حينها الى أوروبا التي كانت تتلمس الطريق لتنير عتمة قرونها الوسطى. انتهت احتفالية »القيروان عاصمة للثقافة الاسلامية« مع نهاية سنة 2009، ولكن جملة الأسئلة والرهانات التي حفّت بهذه الاحتفالية بعد في منطلقها وبدايتها، فعملية النبش في كنوز القيروان الثقافية والحضارية واعادة اكتشاف اعلامها الذين أسهموا في اثراء الثقافة العربية الاسلامية تستحق مجهودا علميا وبحثيا جدّيا يتجاوز حدود الواجب والمناسبتية والإكتفاء بارتجال دراسات مبتسرة وصفية لتاريخ القيروان مثل جملة الاصدارات التي تولت بعض الهيئات الرسمية او الخاصة نشرها والتي تستحق ان تخضع للنقد والتقويم. ولعلّ الدكتور المنجي الكعبي الأكاديمي والباحث في مجال اللغة والانسانيات وهو المشهود له بالكفاءة العلمية والدقة والرؤية الموضوعية، لم يكن في حاجة الى تحفيزه للبحث في تاريخ القيروان، فبالاضافة الى كونه أحد ابنائها الذين تربّو بين أسوارها وربوعها وهامو بها عشقا، فهو أقرب ما يكون الى نعته بالمختص في دراسة تاريخ القيروان وهو الذي آل على نفسه الغوص في أغوار تاريخها لاستخراج درره ومرجانه وياقوته، ونفض الغبار عن الكنوز الدفينة في أفنائها وأكنافها والتي تضمنتها كتب أعلامها الذين أسهموا في شتى المعارف والعلوم من علوم القرآن الى التفسير والفقه وعلوم اللغة والنحو والعروض والبيان والفلسفة والتاريخ والطب والرياضيات والفلك والهندسة. هديّة الدكتور الكعبي للقيروان في عرسها الثقافي كانت عبارة عن كتاب جامع مانع وسمه ب »موسوعة القيروان« وهو عبارة عن مجلّد ضخم احتوى مجموعة من التراجم للأعلام والقبائل والأقوام والأمم والمذاهب والوقائع والأحداث وفنون الحضارة، وصل هذا الكتاب الى (1040) ترجمة. ان هذه الموسوعة تعدّ بحق جهدا علميا أصيلا يشكل سندا لكل الباحثين ومعوّلا أساسيا لا غنا عنه لكل طالب أو باحث أراد البحث في تاريخ القيروان أو قارئ دفعه شغفه وحبّ اطلاعه أن يعرف الدور الذي لعبته هذه المدينة بعلمائها وفقهائها وشعرائها في اثراء الثقافة العربية الاسلامية والعالمية. لم يكتف الدكتور المنجي الكعبي بهذه الهديّة العلمية القيّمة التي تمكن من إعدادها في وقت قياسي، وانما بادر الى إصدار طبعات جديدة لمجموعة مؤلفاته السابقة (6 كتب) التي نفذت طبعاتها الاولى بعد ان قام بمراجعتها وتنقيحها. والتي تناول في ثلاثة منها التعريف بأبرز اعلام القيروان وهم على التوالي المؤرخ الرقيق القيرواني والشاعر الناقد عبد الكريم النهشلي القيرواني واللغوي النحوي القزّاز القيرواني، أما الكتب الثلاثة الباقية فهي مؤلفات للأعلام السابق ذكرهم كانت في حكم المفقودة، تولّى الكعبي تحقيقها ونشرها فتداركها من التلف والضياع. واذا ما أضفنا الى هذه الكتب الطبعة الرائعة لكتابه »القيروان مدينة الاسلام الأولى بإفريقية والمغرب« الذي أدخل عليه الكاتب جملة من التنقيحات شملت ما يقرب من ثلثه، يكون مجموع ما أسهم به الدكتور المنجي الكعبي قياسيا في هذه الاحتفالية وهو لعمري مجهود يستحق عليه كل الاحترام والتقدير. ونحن اذ ننوّه بهذا المجهود البحثي والعلمي الذي أتاه الكعبي وغيره من الباحثين فإننا لا نتردد في الدعوة الى اتخاذه منطلقا وقاعدة للتأسيس لمركز أكاديمي جاد لدراسة التراث الاسلامي بتونس ينطلق من القيروان ليفيض على مدن تونسية أخرى كان لها دور وإسهامات كبيرة في دعم الموروث الثقافي العربي والاسلامي.