يوم السبت 29 ماي 2010 كان جمهور نادي »جدل« بالإتحاد الجهوي ببن عروس على موعد مع الفكر، حيث احتضن النادي مولودا فكريا جديدا ، تمثل في كتاب الأستاذ محمد صالح التومي »أمّة لن تموت«، والذي كنّا ألمحنا له عرضا ونقدا في مقال لنا سابق نشر بجريدتنا» الشعب«. مثّل الكتاب مقدمة لحديث وجدل قديم مستجد يبحث في الماضي بكلّ ملابساته، ويشخص الحاضر بكل آلامه وآماله، ويبحث في السبل الكفيلة باستكشاف الطريق إلى المستقبل وأسلوب استنهاض كل ممكناته. ولم يكن نادي »جدل« سوى الفضاء الذي تداعى إليه نخبة من النقابيين والسياسيين والحقوقيين ليديروا الحوار في »جدل حول الهويّة« رغبة منهم في تلمّس أقوم المسالك لإنعاش كلّ رموز العقلانيّة والتقدّم في روح هذه الأمّة علّها تهبّ لتستأنف رسالتها الحضاريّة مساهمة في الولوج بالإنسانيّة إلى آت أقلّ بؤس وأكثر عدالة ومساواة. أفتتح الحوار بكلمة ترحيبيّة ألقاها عن نادي »جدل« الأخ اللّوزي، الذي أحال الكلمة إلى الكاتب محمد صالح التومي ليتولّى تقديم فلم يكن تقليديا مكتفيا باستعراض ما جاء عليه الكتاب، وإنّما كان مجددا يطرح المفارقات العجيبة والمستفزّة التي تقدح عقل المستمع وتحرضه على التفكير فيما خاله من المسلمات وتجعله يتجرأ على طرح السؤال وعدم الإكتفاء بالإجابات الحاضرة التي تلبست بذهنه عبر الأجيال وجعلته يستقيل من واجب التفكير والتدبّر... كان المؤلف في تقديمه كافرا بالمسلمات التاريخيّة التي أملاها العقل الجبري القدري الوهابي على الذهنيّة العامة وعدّها من قبيل الحقائق الثابتة التي لا يرقى إليها الشكّ، مؤمنا بالعقل العربي يتتبع تغريبته بين متاهات الفقه والسياسة ويمضي في رحلة بحثه الإستقصائيّة جيئة وذهابا، صعودا ونزولا في مدارج التاريخ القديم منه والحديث. ينطلق الكاتب من حادثة علماء الأزهر مع كتاب ألف ليلة وليلة وسيادة منطق الحجب والمنع والمصادرة باسم الدين وتكفير المبدعين ورجمهم بالهرطقة وإفساد عقول العامة كما هو الحال مع المبدع جمال الغيطاني الذي جرّم وحبرت فيه الشكاوى والدعاوى لا لشيء إلا لأنّه انتصر للتخييل والإبداع والخلق بارتكابه »فضيحة« إعادة نشر مؤلف ألف ليلة وليلة : وعاد بنا المؤلف إلى بلاط معاوية ابن أبي سفيان وهو يرسم في مجلسه معالم الطريق إلى نفق القدريّة وتغييب الإرادة الإنسانيّة وهو يشهر فقهه الجديد »أنا خازن من خزّان اللّه تعالى، أعطي من أعطاه اللّه تعالى، وأمنع من منعه« ويعلّق المؤلف مستنتجا خلاصة الانحراف الخطير »هذا هو جوهر الفكر الرجعي من خلال هذه الواقعة التي وقعت في بلاط معاوية بن أبي سفيان والتي سنجدها تتكرّر منذ ذلك الزمان وإلى الآن ..لأنّ الفكر الجبري تمكّن من إيجاد الآليات التي تمكّنه من إعادة إنتاج ذاته في جميع تفاصيل الحياة اليوميّة كما وقعت الإشارة إلى ذلك بالصفحة 71 من الكتيب موضوع هذا التقديم«. إنّ ترك القضايا الكبرى التي تستهدف وجود الأمّة والالتفات إلى القضايا الفرعيّة والجانبيّة، هو ما يجعلنا في حالة »غيبوبة« عن الواقع نهتم بالقشور ونترك اللباب. هذا ما أراد الكاتب محمد صالح التومي أن يؤشر إليه بالخطّ العريض حين أكدّ في تقديمه: »قصّة مصر بين الجهاد الزائف ضدّ ألف ليلة وليلة وبين التقاعس عن سرقة نهر النيل، هذه ليست قصّة مصريّة لأنها في الحقيقة قصّتنا جميعا... قصّه كلّ المجتمعات العربيّة وإن كان ذلك بعناوين مختلفة ... إنّ نهر الحاضر يجرفنا بقوّة بأمواجه العاتية والفناء يتهدّدنا ونحن لا نزال نتمسّك بأدوات الماضي، بل ونرى أنفسنا أصحاب مجد... في حين أنّنا فقدنا أسباب المجد منذ زمان« بل إنّني أضيف على ما قاله الأستاذ بمرارة أشدّ وبصراحة أكبر قد تبدو جريئة بعض الشيء، بأن الحديث عن أمجاد الماضي يعدّ علامة هروب واستقالة من الفعل الحضاري، وحجّة نفسيّة على حالة من الهذيان الثقافي والفصام الحضاري الذي يتجسّد في جملة التداعيات المرضيّة التي تنمّ عن تصعيد لعقد التفوّق الوهمي المستمد من قاع الذاكرة التاريخيّة إزاء صدمة الهوان والغلبة التي تستشعرها المجموعة في ظلّ واقعها المرير وشعورها بعقدة نقص حضاريّة حادة.. غير أن الكاتب، لا يتأخر في استنهاض روح التفاؤل المقرون بالتموضع في الإتجاه الثاني الحضاري الذي هُمّش واستهدف من قبل الاتجاه السائد الذي كتبت له الغلبة والانتشار والسيطرة على أذهان جماهير الأمّة، والمقصود بالاتجاه المعوّل عليه من قبل المؤلف، هو الاتجاه العقلاني الاجتهادي الإرادوي الذي مثلته علامات مضيئة في تاريخ أمّتنا العربيّة والذي دافع عن معانيه كلّ من »عمر بن الخطّاب، أبو ذر الغفاري، علي بن أبي طالب، إبراهيم النظّام، الجاحظ، المعري، المتنبي، ابن المقفّع، ابن طفيل ، ابن باجة، الرازي، ابن رشد وابن خلدون....الخ«. إنّ المؤلف وبكلّ بساطة يستصرخ قوى العقل الكامنة في تاريخ الأمة والتي »لاحقتها رياح الفكر الرجعي دائما، واضطهدتها وأجهضتها ودفنتها تحت ركام الفتاوى التي يصدرها الفقهاء الآكلون من موائد السلاطين المستبدّين«. يخلص الكاتب إلى إبراز أهمّ الأفكار التي جاء عليها في الكتاب، ولعلّه بذلك أراد أن يعيد الحضور إلى متن الكتاب موضوع النقاش بعد أن تعمّق بهم في هذه المقدمة القيّمة - التي تستحق أن تكون مشروع فصل سادس بالكتاب في طبعات لاحقة، نظرا لعمقها وبراعة تحليلها وقدرتها الترميزيّة المكثفة في قضايا فكريّة وحضاريّة مؤرقة للعقل العربي لا تختلف في جديتها وأصالتها عن الإشكاليات التي طرحها روّاد النهضة الكسيحة وخاصة ذلك السؤال المؤرق »لماذا تقدّم الغرب وتأخرنا؟«. وقد كان الجزء الأخير من التقديم مخصصا للقضايا العربيّة الملحّة فلسطين والعراق والهجمة الإمبرياليّة الصهيونيّة على الأمّة ودخول لاعبين جدد فرس وأتراك في مسرح السياسة العربيّة وقدرتهم على طرح أنفسهم مشاريع بديلة أمام غياب بديل حضاري عربي . وينهي المؤلف تقديمه بمقولة على غاية من الأهمية : »ما يجب أن نفهمه في النهاية هو أنّ المشاريع التاريخيّة تظلّ تدقّ على أبواب التاريخ حتّى تأتي لحظة مناسبة تسمح لها بالمرور وبالاختراق...هذه اللحظة هي التي ننشدها والتي علينا أن نرسي أسسها«. إنّ هذه المقدمة كانت كفيلة باستثارة قرابة العشرين مداخلة توزّعت على محاور تفرعت ولامست عديد القضايا التي جاءت في متن الكتاب والتي تناولها المؤلف بالدرس المفصّل أو اكتفى بمجرد الاشارة إليها في تقديمه الذي شكّل مادة خصبة للنقاش ومطارحة الافكار والآراء، ولعلّه من المفيد الإشارة الى أهمّ المحاور التي أتى عليها الحوار واتسع لها صدر ضيوف نادي »جدل« وهي على التوالي : »في نقد الشموليّة كظاهرة في الفكر العربي، في ضرورة النضال الثقافي، في تفسير أسباب الانتكاسة وارتباطها بالعهد العثماني، في ضرورة التكتل العربي في عصر العولمة وأن القطريّة لن تؤدي إلى حلّ، في التساؤل عن معنى النهضة الكسيحة، في احتضان الحركة النقابيّة العماليّة لكتاب فكري، في نقد الجبريّة، في كيفيّة التعامل مع التراث، وفي كيفيّة تجاوز الأزمة«. إلى هنا يمكن أن يكون كتاب الأستاذ والكاتب محمد صالح التومي قد أنهى دورته الثقافيّة كاملة (أو لعلّه بدأها) بدء بالكتابة والتأليف ومرورا بالنشر والمكتبات ونهاية بين يدي القرّاء في نادي »جدل« الذين أداروا حوله الحوار ما طاب لهم ولم يسعف تأخر الوقت بعضهم بالإدلاء بدلوه وإبداء رأيه ومطارحة أفكاره، كما أنّ ذات الزمن لم يسعف المؤلف بالردّ على استفساراتهم والإجابة عن أسئلتهم.. لكن يبقى الكتاب والنقاش الذي دار حوله حدثا فكريا وثقافيا بارزا كان للإتحاد الجهوي ببن عروس الفضل الكبير في إنجاحه، في بادرة أثبت فيها الإتحاد مرة أخرى أنّه الحاضنة الأصيلة للعاملين بالفكر والساعد.