على غير عادة ما يحصل في تقديم الكتب في نادي جدل فإنّ كاتب هذا الكتاب: الأستاذ محمد الصّالح التّومي المحامي الذي عرف بنصرة قضايا الرّأي وحقوق الإنسان هو من تولّى تقديم كتابه. لكن على غير العادة أيضا اختار أن يقدّم لكتابه باستعراض قصّة الأديب جمال الغيطاني مع فقهاء الأزهر أظهر فيها كيف يساهم رجال الدّين في بلداننا العربيّة في تأبيد الوصاية على الفكر العربي ومنعه من الاطّلاع بحريّة على ما يكتب الكلمة الحرّة ومن يحاولون استنهاض وتجديد الفكر والتّراث، في الوقت الذي يسكت فيه رجال الدّين في مصر وفي مختلف بلدان العالم العربي على التّطبيع مع الكيان الصهيوني بل ويباركونه. وقد وصل بهم ذلك إلى حدّ إصدار فتاوي تمنع التّظاهر ضدّ العدوان على غزّة ويروّجون لسطوة الفكر الجبري إضفاءً للشرعيّة على الاستبداد ومنعا للمطالبة بالحقوق التي أصبحنا نسميّها اليوم حقوق المواطنة أو حقوق الإنسان. ويُرجع الكاتب للفكر الجبري المسؤوليّة في انكسار الحضارة العربيّة الإسلاميّة ماضيا وفشل مرحلة كاملة من مراحل نهضتنا. من هنا تأتي ضرورة عودة العقل إلى مقامه العالي في حياتنا والعثور بالتّالي على المفتاح الذي أوصدوا به باب الاجتهاد وأخفوه بهدف تضليلنا ويعتبر الأستاذ محمد الصالح التومي كتابه: أمّة لن تموت دعوة صريحة إلى العثور على هذا المفتاح الضّائع وهذا هدف ربطه الكاتب بما يصيب الفرد العربي من رهبة تجاه القراءة وتجاه المغامرة الفكرية الخلاقة. إذ تكشف الأرقام أنّنا نقرأ 16 مرّة أقلّ من غيرنا فالكتاب محاولة لتحرير العقل وإطلاقه قيوده لأنّه المارد الوحيد الّذي علينا تسخيره خدمة لقضايا تحرّرنا وتقدّمنا. لقد رجع الكتاب إلى جذور المأساة منذ تأسيس قريش وحاول استقراء التّطور التّاريخي الحاصل منذ ذلك الوقت كما حاول فهم الميكانيزمات التي جعلت نهضتنا تنشأ كسيحة من خلال تحليل الآليّات الّتي جعلتنا نعيش هذا السّبات المتواصل إلى اليوم كما حاول الوقوف على المعالم المغيّبة من هويتنا وهي تحتاج اليوم إلى الإبراز تماما مثلما حاول فهم حدود العلاقة بين العروبة والإسلام حتّى يتمكّن العرب من نحت كيانهم القومي الذي أضاعوه من مسالك التاريخ. وقد بين الكتاب خيوط المؤامرة التي تستهدف أمّتنا وهي تحتاج إلى الردّ عليها استراتيجيّا وتكتيكيا في نفس الوقت وهو ما يتطلّب تشريك أوسع الجماهير في بناء هذه المرحلة الجديدة من خلال إشاعة ثقافة ديمقراطية حقيقية تقرّ باحترام الرأي الآخر والتخلّص من المعارك الزّائفة »إنّّ ما يجب أن نفهمه أن المشاريع التاريخية تظلّ تدقّ على أبواب التّاريخ حتى تأتي لحظة مناسبة تسمح لها بالمرور والاختراق فهذه اللحظة هي التي يجب أن نساندها والتي علينا أن نرسي أسسها«. الكتاب على صغر حجمه قد أثار جدلا مكثّفا بل متشعّب الخلفيّات والثّنايا حتّى قبل شروع كاتبه في تقديمه ربّما لأنّ قضيّته المركزيّة هي قضيّة تتغذّى في طرحها الإشكالي ممّا تثيره باستمرار من مواقف وردود فعل متباينة لا يمكن أن نتصوّر طرحها خارجها. لكن الجدل حول الكتاب وان انصبّ في جانب كبير منه حول القضيّة المركزيّة في الكتاب مفهوم الأمّة؟ همومها؟ مستقبلها؟ إلاّ أنّه كان في ارتباط بالأساس بالأطروحات الّتي دافع عنها وتبنّاها صاحبه. كان الجدل حول الكتاب ممتدّا إلى تحديد طبيعته، أهو دراسة نقديّة تحتاج إلى ما غاب منها من دقّة علميّة في تجديد مراجع الكتاب وضبط منهجه. أم هو جاء في صغر حجمه وبساطة أسلوبه خطابا سياسيّا يبغي التأثير وتحريك السّواكن وشحن الهمم خصوصا في صفوف الشّباب وبالتّالي فهو ليس في حاجة للاستجابة لصرامة العمل الأكاديمي. لكن التباين حول أهميّة الكتاب قد أخذ منحى مختلفا عندما تعلّق الجدل بالقضايا التي دافع عنها الكاتب فقد ثمّنت تدخّلات كثيرة أطروحات الكتاب وأكدت على الحاجة الملحة إليها في العصر الراهن بما يفرضها على العالم العربي من تحديات داخلية وخارجية خاصة في عصر العولمة. ومزية الكتاب تكمن فيما اشتغل عليه من محاولة معرفة العقبات وطرح مشروع للإصلاح. فهو كتاب يحمل رسالة اجتماعية ووطنية وقومية يدافع عنها أجاب عن سؤال: كيف لا انسلخ من ذاتي وأستعيد للعقل مكانته؟ والكتاب جاء في شكل خطاب سياسي تحريضي وثورة ضدّ الجمود الفكري والسياسي حسبه انه لم يجدّف مع السّائد.لذلك اعتبر في قائمة الكتب النضالية. ولعل أهمّ قضية أخذت حيزا كبيرا من النقاش هو مفهوم الأمة الذي طرحه الكاتب باعتباره مسألة محسومة لا خلاف حولها نظرا لتوفّر شروط ما يجعلنا أمّة ولا يعني عدم تحققها السياسي والاقتصادي نفي وجودها لكن النّقاش كشف أنّها مسألة لم تكن محسومة ولا إجماع حولها: أكّد الكثيرون على ما يحمله عنوان »أمة لن موت« وفي »لن الزمخشرية« من شحنة مثالية ونفس ديني وقومي مثالي يعبر عن أمة قائمة الوجود وما علينا إلا الدّفاع عنها وهو ما يعني أنّنا لم نغادر بعد الزمن السحري الحالم لحظة القوة والنضارة وهو ما أسّس عليه الكتاب مفهوم الأمّة حين لم يعتبر بتاريخيته فجعله ذاتا مخترقة للزمان وفوقه وتعامل معها على أنّها كائن وذات جاهزة اكتفى بمدحها وتمجيدها في حين انه مفهوم خضع للتوظيف الإيديولوجي عند اندلاع تشكل الوعي بذات عربية وقع معها انتقاء اللحظات المضيئة وكتابة التاريخ لخدمة المفهوم لا العكس. وكان ذلك محل مواضعة وصراع بدا من لحظة النهضة لذلك لم يكن على الكتاب الرجوع إلى الماضي البعيد للتأريخ لمفهوم الأمّة. ولعلّ الطبيعة الإشكاليّة لهذا المفهوم استدعت سؤالا محوريا آخر، ساءل به بعض المتدخلين أطروحات الكتاب: من الموكول له حماية الأمّة من الفناء والموت وتحقيق الاختراق التاريخي؟ إلى أيّ حد يمكن أن نعد التنظيمات الدينية التي تقود المقاومة جزءا من الأمّة؟ كيف سيتمّ هذا الاختراق وما هي المهام المطروحة على الأمّة اليوم؟ اختلف المتدخّلون حول دور المؤامرة الّتي حاكها الغرب في الكيد للأمّة وجعل نهضتها كسيحة إذ ساهمت الامبريالية في تفتيت هذه الأمّة وإصابتها بالضعف والانكسار واستطاع الاستعمار بكل أشكاله تنفيذ مشاريعه بالمؤامرة لكن مع ذلك لا يمكن في رأي الكثيرين أن يكون الواقع العربي الرديء قد أنتجته المؤامرة بل المسألة هي مسألة صعوبة ولادة قوى اجتماعية قادرة على بناء هذه الأمة ووجود عوائق مادية وموضوعية أهمها العجز عن التحكم في الموارد والتبعية الاقتصادية والاستبداد السياسي تماما مثل وجود تفقير منهجي يستهدف العقل في شروط الإنسانية الكونية لا خصوصيته العربية. لذلك يعتبر التحديث بما يفترضه من تصفية الحساب مع الماضي واخذ مسافة عنه شرط أساسي لإقامة واقع عربي مغاير أساسه أوّلا محاربه كل أشكال السلفية والماضويّة بما فيها ما اسماه البعض بسلفية اليسار الذي اخفق في الالتصاق بهموم الشعب وترك بحضور الاستلاب الفكري فرصة أمام السلفية الدينية للعمل على تعطيل الفكر وتجميده. وفي اتجاه الحديث عن ضرورة بناء مفهوم الوحدة بشروط جديدة كان يمكن وسط تباين للآراء من الكتاب والقضايا المطروحة معا أن نتلمس ملامح رؤية تنادي بالحديث عن الاندماج الاقتصادي ووحدة السوق وتأسيس كيانات كبيرة وفقا للمصالح المشتركة والهموم المشتركة في المنطقة العربية. عندها فقط يمكن أن نتحدث عن خطوات أخرى على درب كيان سياسي موحد إذ لايمكن الحديث عن معنِيّ بالوحدة إلاّ مع المتضرر من غيابها. ربّما يكون أكثر ما وجّه من نقد للكتاب هو صبغته التعميمية والاطلاقية أو مغالاته في التفاؤل منذ العنوان أو انه أراد في مساحة ضيقة أن يقول كل شيء فحلّق بعيدا عن الواقع إلى حد الوقوع في إسقاطات ومغالطات تاريخية تحتاج إلى المراجعة خصوصا في استعمال المصطلحات وتبيئتها تاريخيا في غير تربتها البورجوازية والديمقراطية وهو ما لم يخرج به عن مسار كامل الهفوات مشاريع تحديث الفكر العربي وسبب فشله في صنع نهضة حقيقية اكتفت بالوقوف عند اجترار سؤال: لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟ لكن يبقى الكتاب عند البعض تجديفا ضد السائد ورسالة رجل غير محايد ومتحيز للفكر العقلاني والتطوير والتنوير ينادي بجرأة من اجل المعرفة والعمل. جاء ردّ الأستاذ محمد الصالح التومي على اقتضابه "لضيق الوقت" مكتنزا لعمق قناعة بكل ما عبر عنه الكتاب من مواقف وأهمها أن الكتاب كتاب فكري ذو هدف سياسي مغلف بغطاء فكري قدر الإمكان دلج على الدعوة إلى ضرورة توظيف التراث ونظر إلى مسالة المؤامرة في اتصال بالأسباب الداخلية الأخرى لاستنهاض الأمّة وتحقيق وحدتها التي منعت منها لعدة أسباب منها أن تاريخنا عُلب لوعينا تعليبا خاطئا وأعطى الأستاذ لذلك أمثلة منها ما ساد في فكرنا حول العرب ما قبل الإسلام من نعتهم بالجهل والأمية الخ.. وأنهى ردوده بالتأكيد على ضرورة التمسّك باستنهاض الفكر العقلاني الحرّ تماما مثل الوعي بالمصالح القومية والاقتصادية من أجل جبر لانكسارات هذه الأمة وتحقيق وحدتها كاملة. كانت حلقة متفردة ليس فقط فيما عبّرت عنه من تباين وتشعب مواقف ولا في هذا الهم الذي أظهر الجدل عمق ثقله فينا ولكن أيضا في هذا الصبر والجلد للبقاء في طقس ممطر حتى ساعة متأخرة في فضاء نحتاجه على ضيقه المكاني واتساعه الخلافي في آن تماما مثلما تحتاج ثقافتنا العربية للتقاطع والاختلاف من اجل تجاوز انكساراتها.