على مدى ثلاث سهرات متتالية نهاية الاسبوع الماضي قدّم المسرحي فاضل الجعايبي مسرحيته الجديدة «يحيى يعيش» التي كتبتها جليلة بكار ويشارك في تقديمها عدد من الوجوه المسرحية التي أصبحت مألوفة في مسرح «فاميليا» مع وجوه جديدة منها من يعود لمسرح الجعايبي ومنها من يشارك للمرة الاولى وقد اختار الجعايبي رمزي عزيز ليكون محورا لهذا العمل المسرحي في دور يحيى يعيش الذي يطاح به في حركة مفاجئة ويجد نفسه ممنوعا من السفر ومحل تتبّع أمني. المسرحية تبدأ من حكاية تكررت في أكثر من مكان من العالم إذ يفقد يحيى يعيش سلطته فجأة ويحاول السفر مع عائلته إلا أنه يعلم في المطار بأنه ممنوع من السفر ويحتفظ به في إقامة جبرية وفي إقامته المحاصرة يندلع حريق يأتي على كل الوثائق وكل ما تحتويه المكتبة مما يطرح السؤال حول حقيقة ما حدث وما إذا كان الحادث فعلا مدبّرا لإتلاف الوثائق التي قد تدينه أو محاولة انتحار فاشلة وينقل يحيى الى مستشفى لمعالجة الحروق وهناك يخضع لتحقيقات دقيقة يتداخل فيها ما هو طبي بما هو أمني. لنكتشف الوجه الآخر لرجال السلطة وهو الوجه الدرامي والخفي لمتاعب الذين يتحمّلون مسؤوليات كبيرة تجاه شعوبهم وهو مبحث تناولته عديد الاعمال السينمائية والروائية بكل اللغات لكن فاضل الجعايبي قدم مقاربة لم تختلف كثيرا عن السياق المسرحي الذي عرفناه في أعماله السابقة وهو الحفر في الباطن الانساني لكشف العميق والانساني في الذات البشرية. فمسرحية الجعايبي الجديدة هي حفر في المخيال العربي العام في تصوّره للسلطة ومباهجها ومتاعبها أيضا. الفراغ يخرج الممثلون من بين الجمهور... احدى عشر ممثلا يلبسون السواد... صمت مطبق... نظرات متوجّسة خائفة... تتأمّل وجوه الجمهور في حذر. يستمر المشهد الاول حوالي عشرين دقيقة ليتغيّر الايقاع بأصوات تفجيرات وتبدأ الحكاية. اعتمد الجعايبي على ركح خال إلا من كراس بيضاء في إشارة واضحة لمفهوم السلطة وعلى مدى ساعتين نعيش إيقاعا مسرحيا مغلّفا بالخوف والشك والسؤال. فقد اعتمد فاضل الجعايبي على تقنية «الفراغ» في الركح وفي الحوار عن طريق «التقطيع» وفي بناء الشخصيات التي بدت شخصيات مرتبكة ومترددة. وبهذه المسرحية الجديدة التي ستتواصل عروضها الى موفى شهر جوان يكون الجعايبي قد تقدم خطوة أخرى في صياغة مسار مسرحي أصبح له صيته العالمي بكثير من القسوة والألم والاصرار والحرفية. شكرا للوزارة لأول مرة طيلة مسيرته المسرحية الطويلة التي بدأت أواخر الستينات من الكاف سيقدم فاضل الجعايبي عددا استثنائيا من العروض في قاعة المونديال التي تسوّغها بدعم من وزارة الثقافة والمحافظة على التراث فلولا مبادرة الوزارة التي سعت الى إيجاد صيغة تفاهم بين الشركة المالكة للقاعة وشركة فاميليا لما تمكن الجعايبي ربما ليس من تقديم هذه السلسلة الطويلة من العروض فقط بل ربما من تقديم المسرحية أصلا لغياب فضاء للتمارين. وبهذا الفضاء الجديد سيتمكن الجعايبي ومجموعة فاميليا التي تضم جليلة بكار والحبيب بلهادي من أن يكون لهم مواعيد قارة مع الجمهور بمعدل ثلاثة عروض في الاسبوع. وهذا مكسب كبير ليس لمجموعة فاميليا فقط بل للمسرح التونسي وللثقافة التونسية في دفاعها عن التنوير والحداثة.