سليمان بن يوسف الأمين، قرر على غير عادة الصحفيين أن يستبد بالقلم ويعانق الورق لا للحديث عن الاخرين ونقل اخبارهم واحوالهم واحلامهم وآمالهم، وانما ليكتب نفسه ذاته قصة في الحياة بكل تفاصيلها. هل تراه القلم استبد به والورق حاصره ليرغمه على كتابة اعترافاته؟ أم هي تداعياته الصحفية وهواجسه الابداعية التي لم تستطع صرامة العمل الصحفي الميداني واليومي ان تخمدها في داخله. اعمال روائية عدة استغرقتها هذه التداعيات، التي لطالما تخمرت في ذاته المبدعة وشخصيته القلقة. الكتاب الذي بين أيدينا لسليمان بن يوسف، عبارة عن مجموعة من الروايات جمعها الكاتب والصحفي في مجلد واحد، وهي على التوالي «عبير الدفلى»، «اهواك حلق الواد»، «أيام الكركدن» و «نرجس أو خيوط الشمس»، ولعل خصّ الكاتب هذه الروايات الأربع بكتاب يعود الى رؤية قد يشترك فيها معه كل من قرأ هذه الروايات وهي كونها أقرب ما يكون الى أدب «السيرة الذاتية» الذي يميل الى التداعيات الحرّة والخواطر التي تحاول استعادة الصور التي ترسبت في ذاكرة الكاتب، وهو في نقله للأحداث لم يكن يكتفي بمجرد التوثيق وانما اعتمد ثنائية «المرجعي والمتخيل». الواقعي بشخوصه وأحداثه وزمانه ومكانه والمتخيل الذي اتخذه الكاتب جسرا لترميم ما ضاع من تفاصيل في الذاكرة، ومدخلا لتسجيل هواجسه وانطباعاته وأحاسيسه ومشاعره وأفكاره ومواقفه في علاقة بالزمن التونسي الممتدّ منذ طفولته في حلق الوادي الى الحاضر بكل مشاغله وتعرجاته وصولا الى آفاق المستقبل الواعدة والمخيبة، المبشرة والمترددة الحائرة. يقول الكاتب في تمهيده لرواية «عبير الدفلى» : «انها جولات مدّ وجزر.. كرّ وفرّ... فيها جهد الحياة وشوق الشباب وذكريات الطفولة.. وشقاوة الواقع وآلام الحقيقة وصدماتها المريرة.. وكان فيها مبدأ الهم وأصل المأساة واستقبال المصير». أما روايته الثانية «أهواك حلق الوادي» فيقول في توطئتها : «الى كل ابناء حلق الوادي، ومن أحبوها ومن مروا بها يوما، ويحاولون استعادة الذكرى». أما ثالث الروايات «أيام الكركدن» فيصدرها الكاتب بقولة للمنفلوطي اقتطفت من العبرات يقول فيها «الى الاشقياء ربما المقصود المبتلون مثلي بداء / حب الصحافة والتمسوا دواءهم فيها... علهم يجدون في بكائي عليهم تعزية وسلوى»، وتبقى رواية «نرجس أو خيوط الشمس» متفردة عن باقي الروايات الثلاثة بشكلها ومضمونها وبتمهيدها الذي اختاره الكاتب منفتحا على الشعر: قصيد الأول غنائي لطالما تردد على أفواه جيل الثمانينات «خيوط الشمس» اما القصيد الثاني فلماجد عيطان يتغنى فيه بالنرجس: «يا زهرة النرجس لا تخرجاني ودعاني أعيش بين وريقات زهرة النرجس» محاولات روائية تستحق النظر لا شك، احتوى عليها هذا الكتاب. حاول من خلالها الصحفي والكاتب والشاعر سليمان بن يونس، في جرأة غير مسبوقة على الكتابة الروائية بإسهاب في ساحتنا الثقافية ان يدخل غمار أدب «السيرة الذاتية» لا بوصفها منطوية على ذاتها تحاول الولوج الى عوالم ومتاهات ذات الكاتب الباطنية وحل شفرتها النفسية واستنطاق افكارها واحلامها بقدر ما كانت «سيرة ذاتية» منفتحة على محيطها الاجتماعي حريصة على نقل الهواجس الجماعية لأفراد عايشوا الكاتب وأثروا فيه وكان لهم الفضل في نحت شخصيته وتأثيث ذاكرته وبلورة رؤاه فأحبهم وأحبوه وأخلص لهم في كتاباته. ولعل لغة الروايات الاربعة التي نزعت نحو البساطة وجمعت في توليفة عجيبة بين اللغة الفصحى والعامية ممزوجة بالفرنسية أرادت أن تحاكي لغة المجتمع التونسي، كما انها لغة بعيدة عن التكلف والتصنع مسكونة برغبة لا تقاوم في القبض على «رأس الخيط» الذي يصلها بالحقيقة الموضوعية كما هي من دون تزيّد أو «ريتوشات». كان الصحفي في سليمان بن يوسف، يسير جنبا الى جنب مع المبدع والكاتب على إمتداد الروايات الأربعة يحد من ميوله الجامح نحو الخيال، ويعيده الى الواقع اليومي المعيش والعامر بالحياة، لذلك فمن الطبيعي ان تسحرنا هذه التجارب الروائية وتأسرنا لمعايشة عوالمها الداخلية التي تشبهنا في أدق تفاصيل حياتنا اليومية.