قرّرتُ الهرُوب من الحرّ برفقة بعض أصدقاء الصّبى ممن لم يتنكروا للعشْرة فقصدنا إحدى المدن الساحلية الساحرة التي تجمع بين جمال الشاطئ ونظافته وأصالة التاريخ وعبقهِ الذي يفوح في جنباتها، فكان صباحنا سباحةً وابْترادًا في مياه البحر ومساؤنا تجْوالا في أرجاء المدينة وتمتّعا بمعالمها. في أحد الأيام بينما نحن في المدينة العتيقة المعروفة عندنا اصطلاحا ب »البلاد العربي« إذ حلّ وفْد سياحي كبير يبدو من ملامح أفراده ولون بشرتهم أنهم أوروبيون وكان يقودهم دليل تونسي يتكلم لغاتهم بطلاقة لافتة للإنتباه، وما أن استقروا بالمكان حتى شرع بإلقاء محاضرته التاريخية: »سيداتي سادتي، إن هذا المبنى الصغير كان في الماضي البعيد حمّاما مُهمّا إذ اغتسلت فيه عليسة يوم زفافها من حنبعل القائد القرطاجي العظيم!! وهذه الدار المجاورة له هي منزل الزوجية حيث عاشا في هناء وسعادة وأنجبا العديد من البنين والبنات...!« أصبْتُ بالذهول مما سمعت فتقدمت منه وسألته بلطف: »ما الذي تقوله يا سيدي؟! ألا ترى النقوش وتقرأ الزخارف ذات التأثيرات الشرقيّة؟« ثم أردفت: »إنّ هذه المدينة تعود الى العهد الفاطمي ويفصلها عن القرطاجيين قرون طوالٌ من الزمن، وحتى لو افترضنا صحة كلامك فإن عليسة وحنبعل لم يقابلْ أحدهما الآخر البتّة...« فقاطعني: »أرجوك يا أخي دعني وشأني فأنا الآنْ أسْترزق ويجب أن تعلم أنّ ما يجود به هؤلاء من »أوروات« و»فرنكات سويسرية« و»إسترلينيات« أكبر من راتبي بأضعاف مضاعفة!« فقلت: »لكن »البقشيش« لا يبيح تشويه صورة البلاد وتزييف تاريخيها«، فأعْرض عني وهو يقول في حزْم: لا شأن لك بهذه المسائل، ثم من أين لك المعرفة بتاريخ تونس؟! إبتلعْت ريقي ومعه الإهانة مفضّلا متابعة هذه المسرحية للآخر لأشهد ما تؤول إليه. واصل الحشد التجوال وأنا والأصدقاء في أعقابه وصاحبنا يمعن في ترهاته فخمّنْت أنّ من بين هؤلاء الاجانب أساتذة وخبراء في التاريخ وأن الكثيرين منهم قبل حُلولهم بين ظهْرانينا قد طالعوا كتبا ومراجعا تُعرّفُ ببلادنا تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا، لا شك في أنهم يتهامسون ويهزؤون بنا في هذه اللحظة بالذات، فقلت في نفسي: إنّ هذا وأمثاله هم سبب تراجع القطاع السياحي في بلادنا! لكنني سريعا ما طردت هذه الفكرة من رأسي فمشاكلُ هذا القطاع الحسّاس أعْقدُ من أن يتسبب فيها مثل هذا التافه، أخيرا بلغْنا نهاية الرحلة المهزلة بعد ساعة ونصف الساعة من المعاناة أصْبحْتُ أتخيّل فيها ذلك الشخص وقد انقلب الى تنين ينفث النار أو خنزير أو كلب! ما إن أشرفْنا على إحدى الباحات التي تنتهي الى قصر منيف، اقتربْت منه ببطئ وهدّدْته بأنّني سأخبر المسؤولين عن القطاع بكل ما حدث في هذا اليوم، فابتسم ابتسامة ساخرة وقال بكل دم بارد: إشتكيني للسماء نفسها فإنني لم أحصل على هذا الشغل إلا بسند قوي، إنّ لي »أكْتافا« غليظة!!، ثمّ التفت الى الجماعة وهو يخاطبهم: لا شك أنكم تعرفون هارون الرشيد الخليفة العباسي الشهير الذي كتب عنه المستشرقون من أبناء جلدتكم وذكروا بأنّه يُضاجع مئة جارية كلّ ليلة! في هذا القصر إلْتقى بطارق ابن زياد البربري فاتح إسبانيا وسهرا حتى الصباح وهما يحْتسيان ما لذّ من الخمور!!! عندها اسودت الدنيا أمام عيْنيّ ونفذت طاقتي على الصبر فانقضضْتُ عليْه أُمْسكُ بتلابيبه أمام دهشة وهلع الجميع فساد الهرجُ والمرجُ، وماهي إلا لحظاتٌ حتى أتت سيارة الشرطة...