أكاد لا أعرف هؤلاء الشعراء التونسيين. فهمّهم الأول ليس كتابة »القصيدة« بل همّهم نيل المناصب في رئاسة الجمعيات والوداديات، همّهم في السفر داخل البلاد وخارجها لإلقاء كلمات جوفاء وإطلاق رياح نتنة، همّهم إيهام الناس بالشعر والشمس والمطر في حين أن كلماتهم صفراء فاقع لونها وقولهم لا حياة فيه. لم أجد قصيدة جميلة من الشعر العمودي تضاهي قصيدة بدر شاكر السياب »الوردة المنثورة« في عمق رؤياها الشعرية وفي طرافتها وإيقاع مائها وفي صورها المبتكرة وفي عاطفتها الصادقة. لم أجد شاعرا تونسيا يكتب قصيدة جميلة من شعر التفعيلة مثل »أنشودة المطر« للسيّاب أو »السروة انكسرت« لمحمود درويش... ربما عثرتم على خمس أو ستّ قصائد جميلة (في العمودي) لأبي القاسم الشابي، وهذه القصائد القليلة تكفي ليكون الشابي شاعر دون تقديس أو تهويل. وقيمة الشابي من أشياء أخرى مثل »الخيال الشعري عند العرب« أو »الرسائل« و »المذكّرات« اضافة إلى ظرف حركة التحرير ضد الاستعمار. ربما عثرتم على قصائد قليلة للشاعر »منوّر صمادح« أبرزها قصيدته المشهورة »كلمات« أو حكمته المشهورة: شيئان في بلدي قد خيّبا أملي الصّدق في القول والإخلاصُ في العمل ربما عثرتم على قصائد قليلة للشاعر جعفر ماجد وقصائد أخرى للشاعر جمال الصليعي. ... كل هذا لا يكفي لالتقاط مدوّنة شعريّة لكن مع إطلالة الشعر التونسي الحديث في المجموعة الشعرية »الليالي ذات الأجراس الثقيلة لفضيلة الشابي و »مجيء المياه« و »أخبار البئر المعطّلة« لعلي اللواتي، مع إطلالة هذين الشاعرين يمكن لنا ان نتحدث عن بداية الشعر الحديث... والحركة الشعرية في بلادنا شهدت فترات انقطاع رهيبة لم أجد لها تفسيرا. واصلت فضيلة الشابي المسيرة لأصالة موهبتها ولامتلاكها لرؤيا شعرية عميقة تؤسّس لعلاقة جديدة بين الأشياء والكلمات، وماتت تجربة علي اللواتي الى الأبد... تشكّل بداية مسيرة الشاعرين عزّوز الجملي في مجموعته »ألعاب المجروح« وخالد النجار في »قصائد للملاك الضائع« تحوّلا مهمّا في الشعر التونسي، لكن لماذا توقّف هذان الشاعران عن الكتابة وهل هما شاعران يملكان مشروعا شعريا؟ وهذا ما يؤكد رأي الناقد محمد بنيس في أن تاريخ الشعر في المغرب العربي هو تاريخ انقطاعات، ومنه أخذ الناقد لطفي اليوسفي هذا الرأي فاتجه الى دراسة النصوص المشرقيّة وترك تاريخ الشعر في المغرب العربي يعيش يتم الانقطاع. قلت منذ قليل إنّ الشعر التونسي قد بدأ مسيرة التحديث الحقيقة مع الشعراء الذين وفّقوا بين عمق الرؤيا الشعرية والمشروع الشعري المبنيّ على إحداث التراكم الكمّي انطلاقا من الإيمان بالتجريب والتنويع ومثال ذلك : فضيلة الشابي ومنصف الوهايبي ومحمد الخالدي وباسط بن حسن ونصر سامي ويوسف رزوقة ومحمد الغزّي وحافظ محفوظ وآمال موسى ومجدي بن عيسى وعادل المعيزي وعبد الله مالك القاسمي ومحجوب العياري ومحمد البقلوطي وفتحي النصري وعبد الوهاب الملوّح وأولاد أحمد ومنذر العيني وعادل جراد والطيب شلبي والهادي الدبابي ووليد الزريبي والشاذلي القرواشي ورحيم جماعي وعبد الفتاح بن حمودة... وغيرهم ممّن زاوج بين عمق الرؤيا الشعرية وحداثة الأسلوب والوعي بمشروع الكتابة الشعرية والتراكم الكمّي. وبناءً على ذلك لن نجد في تاريخ الشعر التونسي سوى عشرين شاعرا يحملون فكرة المشروع الشعري المبنيّ على التراكم من جهة وعلى عمق الرؤيا الشعرية وحداثة الاساليب والتنويع في المضامين، ويمكن الاستئناس حقا برؤية الشاعر والناقد منصف الوهايبي في مقدمته النقدية الاحتفالية بالشعر التونسي في كتابه »أبناء قوس قزح : متخير من الشعر التونسي المعاصر« المنشور في اليمن منشورات وزارة الثقافة اليمنية صنعاء 2004. رغم اعتراضي الشديد على ان اسماء كثيرة اختار لها الوهايبي لا تمثل الشعر التونسي من جهة ما أشرت اليه في مقالتي وما رأيته من وجوب إعادة مساءل المدوّنة الشعرية التونسية على ضوء المنجزات النقدية الحديثة شرقا وغربا وذلك بإيجاد وخلق وحدات بحث في الجامعة التونسية تهتم بالشعرية. (1 ❊) استعرت هذا العنوان من مقالة لصديقي الأستاذ طارق الناصري.