«لدينا خطابات متعددة، ولكنها متعلّقة وليست مفتوحة فيما بينها، وهي خطابات تكفير، وإن جاءت بصيغة مختلفة» * نصر حامد أبو زيد (1) هب أنّ الإله كان أنثى وأنّ الملائكة ذكورا... هل تستوي الربّة فوق العرش بعد سبعة أيام؟ أنا قلتُ سبعة أيام، وحال لساني يمخط كلامه في آذان أصحاب النوايا الجالسة قرفصا ... يقول: لا قدرة للجسد /الجسم الأنثويّ على مشاق الخلق أحدهم وبدهاء مفرط في الزندقة، قال : الخلق من صفات الأنثى، كذا الولادة. ألا تقدر الأنثى أن تلد العالم كما تلد طفلها ؟ سؤال /إشكال لا يحتمل الصدق أو الكذب، فهل يوجد رحم يتّسع لكلّ هذا الزخم الماديّ ؟ حين يخطر ببال الواحد منا، أن يُخضع آخر لتجربة الغثيان ( وليس الغثيان الوجوديّ ) أو الخجل حدّ التبوّل... فإنه ينجح أحيانا كثيرة. وهذا ما قصده أحدهم لما لغّ: هذه الأنثى /الإله، يمكنها أن تلد العالم صغيرا بحجم الكائن البشريّ، فترضعه حتى ينمو ويدرك اكتماله الوجوديّ . إنّ معانقتنا لهذه المحاولة الإيديولوجيّة السافرة والمشبوهة، يضعنا أمام حقيقة أنّ هذا الكون المتبلّد /الصلد /الغليظ /الحزيز... سيطلّق صفاته هذه. لأنّ الآلهة الأنثى من جبلّتها الليونة والنعومة والذوبان المميت حدّ التشكّل من جديد. فهل سيوصل «سيزيف» صخرته إلى حيث رنا ؟ وهل يكتب لسدّ «غيلان » اكتمالا ؟ وهل تحوّل « ميدوزا » ضحاياها إلى ورد بعد أن كانوا حجرا ؟ (2) لما يخطر ببال منشقّ عن القبيلة أن يشقى بالسؤال التالي: هل يحتمل الإله تحزبا /انتماء؟ إنّ ما تجيزه الشرائع للخارجين عن الشرائع، هوّ ما تجيزه القبائل للخارجين عن طاعتها. وماذا تجيز الشرائع للخارجين عنها؟ يحتمل الإشكال متّسعا من الوقت... من الذاكرة... من اللامعنى. منْ يرتدي جبّة عثمان، يشرّع لنفسه أنْ ينفّذ فيك شرْعه... وأيّ شرع ؟ وهل لا بدّ للشرعيّة أن لا يرتديها الضّعفاء؟ ما تُجيزه الشرائع للخرجين عنها، ما لا يحتمله الضّعفاء: أنْ تفقد السّلطة ... أنْ لا تمتلكها أصلا... أنْ تكون خارج البوتقة ... أنْ لا يرْضى عنك التنْزيل ... أنْ... الإيمان لا يحتمله الضّعفاء... وهو قوّة . الكفر لا يحتمله الضّعفاء... وهو قوّة . الضعف ما لا يحتمله الضّعفاء ... لكنّه ضعف. (وما الذي تجيزه القبائل للخارجين عنها ؟) حين تدقّ أوتاد خيمتكَ، لا بدّ أن يجتثّ الآخرون أوتادهم كيْ ينصبوا خيامهم أمام بوتقة تنفّسكَ . يحفرون أخدودا كي يصدّوا عنكَ الغزاة/كي يحول الأخدود دون خروجكَ عنهم. وحين تحاول الانتحار، بأنْ تُلقي بجثّتكَ في الأخدود هناك، يمنعونك /يمنعونك من الخروج عنهم. الحبّ خروج عن القبيلة ... وهو قوّة. الجنون خروج عن القبيلة ... وهو قوّة . الأنثى خروج عن القبيلة ... لكنها قوّة أضعف. (3) هل يجوز للأنثى أن تكون إله؟ قال: « فينيس » كانت إله. قلتُ: ليونتها أغمد فيها الخارجون عن الشرائع أظافر كفرهم ففقدتْ«فينيس» شرعيّتها /سلطتها . أنا أقول : لا يجوز /يجوز للأنثى أن تكون... وكفى . وحين يكون الملائكة ذكورا؟ الإله، إله... و الملائكة، ملائكة. و الاختلاف احتمال شرعيّ التشكّل. قلت ما قلت، وكان الوشاة يسترقون السمع لكفري فدسوا بصاق تحزبهم، لأصلب أو أحرق كالآلهة. وهذه مشاهد حرقي كما قرروا: (4) هل يزعجكم أنْ أكون وحيدا؟ وهل يؤرقكم كلما زدتُ اقترابا ... كلما زدتُ ابتعادا... كلما زدتُ انكسارا؟ربما... ها أنني أنْفرد بزندقتي، وفوضى الأشياء في داخلي، وأشرعتي الملقاة قسرا على المواني المورقة في الترْحال ... ها أنني موحش كانهزام جديد، كثقب التورّط في الهزائم، كطير البجع الطينيّ، يشدّ ريشه للسفرْ. كأنّ البحر ما أسْعفه بنسْيان بوصلة الجهات، و جنون الجرح البشريّ: «بوصلة لا تشير إلى الجنوب مشبوهة »(1) ها آنذا ... وما جدواك يا آنذا ؟ وأنتَ ... توقّع أيامكَ بالفراشات المُعدّة للاحتراق . هل يزعجكم أني أحترق؟ شاهدوني ( عفوا ) أدعوكم لعرْض فرجويّ أبطاله «أنا» وشيّ اللحم على مخازيكم . أنا أدرك، أنكم أدركتموني أحترق ... ثمّ ماذا؟ ستذرفون الدمع على فقدان سروال كان يساعدكم على عادة الضحك الدنيء. ستلعنون الأقدار على ذرّ رمادي على عيونكم، وانتصار الاحتراق الصليبيّ على مقاومتي. ثمّ ماذا....؟ أتمدحونني؟ كما اتفق الذين من قبلكم على تخْصيب النُّصب التذكاريّة بالحناء. أترثونني؟ والرثاء جبّة « عثمان » لكلّ الذين يمارسون لعبة «بافلوف» مع الكلب . فهل تستقيم اللعبة مع القرد «الداروينيّ »؟ ثمّ إنني أدرك أن لا أحد سيهجونني. قدْ أنجو من احتراق، كان لا بدّ من جمره... وأنتقم ... نعم أنتقم . أقولها... وليشهد كلّ المجوس، إن كانت النار بردا وسلاما على جسدي. (5) في ضواحي مدينة القديس الأخير، كنتُ محاطا باحتراق الحطب النفْطيّ، وبالدعوات و بالدمع الممرّغ في طين النفاق. ضجّت النار ... بالتراتيل احتميْتُ، فلم أنجُ من اللهب. بالقدّيسين ... وبالقساوسة الكرام، فلم يسْلم جسدي . ناديتُ:« أن أسعفوني »... فلم يسْتجب أحد. وتنافس التجار على عرض أجزائي البشريّة للبيع ... للحوانيت ... للخزي الوطنيّ... كأنّ صديقي، أتْلف جبهته وباع القصائد للصحف المتناسلة من جهلنا بالمداد... وانطوى . أمي، شقّتْ ثوبها الوحيد الذي اشترتْه في ذكرى احتراق المخيّم، وضاع صوتها بيْن عَرق الحشود ودمْع ثكالتها، والخبز المرّ في ليالينا لمحاصَرة . اطمأنوا لحرْقي... ودّعوني بالشهادة، ومضوا غير مأسوف على كبدي. (6) ألف عام ظلّت النار تضطرم ... ربّما ظنوا احترقتُ . تآكل الإسفلت /ولّى... وأوقع الربّ سباتا على العالمين فناموا، قساوسة وكهانا. ربّما ظنوا احترقتُ ... وإذ قالت «ايزولد » لجنْدها : جرّبوه. وقالوا : نجهل أنّ المنايا تفيق . ألف عام ظلّت النار تسْتعر. أفقْتُ من حَرْقي، لا كفن يسترني، ولا حطب ولا عسس. بحثْتُ عنكم خارج خرائط المدن، فلم أعثرْ على أحد . (7) لمّا أدركتُ مقبرة ... كان جسمي موثوقا لقبري، وقد اتهمتُ بالكفر والزنقة وخيانة الحزب وبالوحدة والاغتراب وبالتعب. ....................... .......................... ..... سوسنة أيْنعتْ ...... هوامش: (*) ايزولد: آلهة الشعراء من خيال الكاتب. (1) من معنى لنص مظفر النواب: بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة.