تناقلت وسائل الإعلام في الأيّام الأولى من شهر رمضان خبر رسالة توجّه فيها عدد من المحامين التونسيين الى مفتي الجمهورية يطالبونه فيها بالتدخل لمنع بث مسلسلات على قناتي »حنبعل« و»نسمة« التونسيتين الخاصّتين، يتمّ فيهما تجسيم الأنبياء والرسل. وتزامن نشر الرسالة مع خبر آخر من لبنان، تمثّل في اصدار قناتي »المنار« و»أن بي أن« بيانا مشتركا أعلنتا فيه وقف عرض مسلسل »السيّد المسيح« الذي بدأ بثّه مع أول أيّام شهر رمضان »مراعاة منهما لبعض الحساسيات، وللحؤول دون أيّة محاولة للتوظيف السلبي« كما جاء في البيان الذي تناقلته بعض الوكالات. الجديد في هذا الملف الذي ظنّ أنّه طوي نهائيا منذ اعلان الفتوى الأزهريّة الشهيرة بتحريم تجسيم الرسل والصحابة والعشرة المبشّرين بالجنّة، أنّ الأعمال الدرامية »المدبلجة« (موضوع الخلاف) تحمل امضاء جمهورية ايران الإسلامية، والمثير في القضية أنّها تستند إلى فتوى ايرانية تبيح تجسيم الأنبياء والصحابة. سبق أن عرض مسلسلا »النبي يوسف« و»مريم« على شاشة اOTVب التابعة ل »ميشال عون« زعيم التيار الوطني الحرّ، ولم تسجّل ردود فعل سلبية. ويمكن القول دون توسّع لا يسمح به المقام أن المنع الذي تمّ هذه السنة يؤكّد في تقديرنا فضلا عن حالة اللاّإستقرار السياسية في لبنان صعوبة تحقيق حوار بين الأديان لأنّها عقائد وإيديولوجيات لا تقبل بغير مروياتها، بدليل أنّ سبب المنع هذه السنة يعود إلى أنّ مسلسل »السيد المسيح« (كما أعلن رئيس اللجنة الأسقفية الكاثوليكية لوسائل الإعلام »المطران بشارة الراعي«) فيه تحريف للمعتقد المسيحي.إذ ينكر صلب المسيح ويضع مكانه يهوذا«. هذا الموقف يعبّر عن الحالة اللبنانية طبعا لأنّ حرية التعبير في الفنّ باتت مكسبا ثابتا في الغرب المسيحي منذ زمن طويل. ورغم ردود الفعل المناهضة من قبل الفاتيكان وبعض الكنائس لعدد من الأفلام التي تناولت سيرة »السيد المسيح« بجرأة فكرية وفنّية عالية، إلاّ أنّها لم تمنع عروضها ورواجها. ويعود الأمر بطبيعة الحال إلى ترسخ مبدأ العلمنة الذي يعتبر أحد القواعد الأساسية الضامنة لحرية التعبير. ما يثير اهتمامنا في هذا السياق بالأساس هو رسالة المحامين التونسيين وتصريحاتهم لعدد من الوكالات والمواقع والصحف، فقد استجمعت شرحا جامعا مانعا بلغة الفقهاء، لأبرز مستندات ومبرّرات التحريم السائدة في العالم العربي منذ إطلاق الفتوى الأزهريّة الشهيرة. فقد أكّد »سيف الدين مخلوف« في تصريح خاص ل »العربية. نت« وهو أحد المحامين الذين قدموا الدعوى أنّه صدم بعد مشاهدته الحلقات الأولى من هذه المسلسلات عبر القنوات التونسية، واعتبرها تمسّ من مقام الأنبياء وتعرضهم للسخرية والإستهزاء وتجعلهم حديث الناس شأنهم شأن نجوم الكرة والفن. ويضيف: الأنبياء فكرة راقية نظل نحملها في أذهاننا. ولا يمكن السماح لممثّل سبق أنّ مثل دور فاجر أو عربيد أن يتقمّص دور سادة الخلق. كما أعرب عن خشيته من أن ترتبط شخصية سيدنا يوسف أو مريم العذراء أو سيدنا يعقوب بممثّل بعينه على غرار سيد الشهداء حمزة الذي ظلّ مرتبطا لسنوات في ذهن المشاهد العربي بالممثل المصري عبد اللّه غيث، والحال أنّ هذا الممثل لا يمكن له أن يصل الى مرتبة هذا الصحابي. ويؤكّد المحامي أنّ قضية تجسيد الأنبياء وقع الحسم فيها منذ سنوات سواء من علماء الأزهر أو دار الإفتاء المصرية أو هيئة كبار العلماء بالسعودية. قلنا أنّ رسالة ومواقف المحامين التونسيين تتضمّن تلخيصا لأبرز مستندات التحريم والمنع، لأنّ أول فتوى صدرت بالمنع كانت عند الإعلان في خمسينات القرن الماضي عن مشروع فيلم حول سيرة النبي محمد. وكان من المتوقّع أن يقوم الفنان الكبير »يوسف وهبي« بتجسيد شخصية النبي »محمد« في مشروع ذلك الفيلم. ومن سوء الحظّ ربّما أن »يوسف وهبي« جسّد في تلك الفترة بالذات التي تمّ الإعلان فيه عن مشروع الفيلم شخصية الرّاهب الرّوسي الماجن »راسبوتين«. ويشار الى أنّ فتوى الأزهر صدرت لمّا وضعت الصحف المصرية صورة »يوسف وهبي« بالشخصيتين »راسبوتين« و»محمّد«، ممّا أدّى إلى الهجوم الشرس عليه، وإيقاف العمل وقبر فكرته نهائيا. وفي فيلم الرسالة الذي يعدّ الى حدّ الآن أفضل عمل سينمائي عالمي حول سيرة النبي محمّد وظّف المخرج الرّاحل »مصطفى العقاد« خبرته بتقنيات التصوير الهوليودية ليقوم بحيل فنّية عديدة (استجابة للفتوى) بحيث لا يظهر النبي محمّد ولا صحابته المبشّرين بالجنّة باستثناء »حمزة ابن عبد المطلب عمّ الرسول«. وهو ما ضخّم في دور شخصية حمزة المعروف بشدّته، فصار بطل الفيلم والحال أنّ البطل الحقيقي ومحور الأحداث هو النبي محمّد الذي ظلّ محجوبا عن الأنظار. ومع ذلك فإنّ شيوخ الأزهر لا يزالون يرفضون التصريح بعرض الفيلم في مصر، لأنّ الشريط أظهر حمزة عمّ النبي وهو من الصحابة المبشّرين بالجنّة بحسب الفتوى الشهيرة. من السهل الإقناع أنّه من الناحية الدّينية الصرفة فإنّ إظهار شخصيات الأنبياء في الدراما ليس من المحرمات المذكورة في القرآن. وهي مباحة بالضرورة، لأنّ هذه الفنون من مستجدّات العصر. بل يؤكّد عديد المتدخلين من الباحثين والعلماء والنقاد في هذا الموضوع أنّ العالم الإسلامي خسر الكثير بسبب فتوى التحريم الذي منعت المخرجين والفنّانين العرب عموما من تقديم سير الأنبياء والرسل والصحابة بصورة ترفع عنهم حجاب التأليه، وتعيد لهم حقيقتهم البشرية التي طالما أكّد عليها القرآن وتسحب البساط من تحت التيار السلفي المتطرّف الذي يعتبر تقديس الرسل والصحابة وحجبهم عن الأنظار إعلاء من شأن الإسلام الأوّل النقيّ والطاهر والذي تشكّل العودة إليه الحلّ الأول والأخير لكلّ مشاكل الأمّة بحسب رؤيتهم. روى القرآن في قصص الأنبياء والرسل ما تعرضوا له من معاناة، بل نقل خطابات التشكيك والسخرية التي قوبلت بها دعوتهم ممّا يشكّل نموذجا للتوظيف الفنّي الذكي للقصص في الدعوة الى القيم الدينية النبيلة ومستندا قويا لتشجيع الفنّانين على تقديم أعمال تتغذّى من المادّة الدراميّة الغنيّة في حياة هذه الشخصيات. وتقديري أنّ المتشبّثين اليوم بفتوى تحريم التجسيم من السلفيين، هي نفس الأوساط التي تعارض بشدّة (ودون اي استعداد للحوار) كلّ عمل فكري أو فنّي يشتمّ منه محاولة لتكريس قراءة تاريخية نقدية تحرّر الناس من رعب تقديس الأصل. وأظنّ أنّهم جعلوا من خطاب الدفاع عن سير الأنبياء والصحابة تعلّة أخرى من تعلاّتهم لتكريس رؤية »تأليهيّة« سلفيّة، لاشكّ أنّها جزء من آليّة تفكيرهم الأصولية التي ترسّخ ما أسماه المفكّر التونسي »العفيف الأخضر« ب »إسلام عبادة الأسلاف« الذين يُقدّمهم للجمهور كأنصاف آلهة »كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم«، كما يقول حديث لا شكّ موضوع (جاء ذاك في حوار منشور على الأوان بتاريخ 10 جويلية 2010 أجراه كلّ من »ناصر بن رجب« و»ووريغ لحسن«). شريط »الرسالة« الشهير مهّد مع أعمال أخرى يقول »العفيف لخضر« (في ذات الحوار) لتدشين هجمة الإسلام التقليدي والسياسي المتواصلة«. وثمّة مصادفة تاريخية مثيرة في هذا السياق لابد أن نشير إليها، وهي موت مخرج الشريط »مصطفى العقاد« الذي خضع بنسبة كبيرة لشروط تحريم التجسيم على يد انتحاريين إسلاميين في عمل إرهابي بالأردن لم يكن مستهدفا فيه. فهل دفع الراحل ثمن حيله الفنية لإرضاء شيوخ الفتاوى؟ نطرح هذا السؤال حتّى يتحمّل كلّ فنان مسؤوليته فيما يقدمه من تنازلات لفائدة التيار السلفي وممثّليه بشكل عام. طبعا ستبقى مقاربتنا للموضوع منقوصة ما لم نضع في اعتبارنا مجموعة من المعطيات التاريخية والحضارية التي تميّز مجتمعاتنا العربية الاسلامية. فهي مجتمعات حديثة العهد بالفنون المعاصرة. لم تستوعب بعد السياق الفلسفي لهذه الفنون. فالمسلسل أو الفيلم أو الرّواية ضرب من الإبداع و»التخييل« ينهض جوهريا على مبدأ نسبية الفكر بشكل عام وعلى احترام العقد الذي يربط منشئ العمل الفنّي بالجمهور. ومن ثمّة فهو ليس مطابقة للتاريخ والوقاع وان استلهم معطياتهما أحيانا. وبالتالي فإنّ من يجسّم شخصية النبي »الفلاني« مثلا هو ممثّل محترف، يمكنه ان يجسّد شخصيات أخرى. كما ان تجسيم شخصية نبي أو صحابي لا تقلّل من مكانته وما يحظى به من تقدير بين الناس، بل يمكن ان تعزّز الإعجاب بمحتواه الإنساني المميّز دون تقديس يرفعه فوق مستوى البشر، كما يريد السلفيون لأجل ان يستمرّ سلوك التقديس لشيوخهم المعاصرين باعتبارهم ورثة الأنبياء والصحابة الشرعيين والمالكين الحصريين لحقوق تمثيلهم والتحدّث باسمهم. إنّ وجود فتوى إيرانية تجيز تجسيم الأنبياء والرسل، وحديث وسائل الإعلام عن مشاريع لتصوير مسلسلات وأفلام عن سير الأنبياء والصحابة في تركيا حزب العدالة والتنمية المتشبّثة بعلمانيتها، فضلا عن الفيلم الهوليودي الضخم الذي سينجز عن سيرة النبي محمّد بتكلفة ضخمة، يضاف الى ذلك ثورة تكنولوجيا الاتصال التي جعلت أبواب السماء مفتوحة لكلّ الناس، كلّ هذه المعطيات لاشكّ ستعجّل بسقوط فتوى التحريم الأزهرية، وستمكّن العالم العربي الإسلامي من مشاهدة من يجسّم الأنبياء والصحابة في إطار رؤية فنّية عميقة تعيد الى هذه الشخصيات هويتها البشرية التي يسعى السلفيون الى حرماننا منها. رؤية تكشف بجرأة عن لحظات ضعفهم ونبلهم، لحظات تردّدهم وترفّعهم، لحظات تجهمهم ومزاحهم، أي كلّ ما يجعل منهم بكلّ بساطة بشرا بإمكان المشاهد ان يكون مثلهم اذا ما تمثّل جوهر شخصياتهم التي تقدّم دروسا في الإصرار على تحقيق الحلم والرؤيا والذهاب بعيدا في الحكاية التي نحملها عن أنفسنا.