إذا كان الموت قد غيب عنا ودون استئذان الزميل العزيز المولدي الحريزي جسدا فإنّ تلك هي إرادة اللّه وإن تلك هي الحقيقة المطلقة في الحياة، لكن ما لا يمكن للموت أن يغيبه عنا ولن يستطيع إلى ذلك سبيلا هي روح المولدي وعقله وسيرته... في عدد سابق من الجريدة كتب عثمان اليحياوي وكتب العيفة نصر وكتب غسان القصيبي على صفحته الالكترونيّة وقد يكون زملاء آخرون كتبوا أو ربما يكتبون... ويوم كنا نودعه الوداع الاخير ونواريه التراب بمقبرة الزلاج كان البعض منا في حلقة نتجاذب أطراف سيرته وشخصيته وعشرته، وكنت صحبة الزملاء الناجي الرمادي والحبيب الشابي ولطفي السلامي وفتحي العياري وعثمان اليحياوي والشاعر بوجمعة السويلمي والبعض الآخر ممن لم تسعفني الذاكرة باستحضارهم يحاول كل منا أن يستيعد له ذكرى مع المولدي أو محطة جمعته به أو... أو... وما لاح بيننا اختلاف حول طيب عشرته وأخلاقه وشخصيته »المشاكسة« الميالة دوما للنقد والصراحة والنابذة للتعالي والتفرقة والمسحوبية والمحاباة والغيورة على القيم النبيلة والعدل والمساواة حيث كان دائم الحلم بالأفضل والاحسن والأجمل في مقاربات تجمع بين النكتة والجد حتى أنّه كان لا يتوانى أثناء اجتماعات اسرة التحرير في إيجاد تقاطعات للفذلكة والتنكيت يلج عبرها الى طرح بعض المطالب المهنية وكم كان شديد التمسك بحق كل زميل في ظروف لائقة وفي مرتب محترم وبتقدير كاف سواء من الادارة أو النقابيين وكان لا يقبل بالحطّ من شأن اي زميل او المسّ من كرامته... سيرة المولدي ستظل تضرب في كل المواقع التي تواجد بها في مكاتب الجريدة... في أروقة دار الاتحاد.. في دار الكاتب... في نادي الصحافيين في المقاهي التي كانت محبذة إليه... بين زملائه وأصدقائه حيثما كانوا... بيني وبين المولدي أكثر من ذكرى وأكثر ن محطة... بيننا مودة ومحبة تجاوزت حدود الزمالة لتلامس مشاكلنا العائلية وخاصة أوضاع أبنائنا... كان يجمعنا مكتب واحد رفقة الزميل الكبير الناجي الرّمادي... نتخاصم ولا نفترق على غيظ... نختلف ولا نفترق على خلاف... نتلاسن ولا نفترق على جروح... مكتبنا وأثاثه والكثير من الحبرالسائل مازالوا شاهدين على مجادلاتنا واختلافاتنا وتناقضاتنا التي لا تمكث أن تختفي أمام حبنا لبعضنا وأمام واقعنا المشترك الذي جذّر فينا منذ تلاقينا في ساحة محمد علي في آواخر السبعينات روح التضامن والمحبة والتآزر والتكاتف وكانت آخر مظاهر هذه الروح تلك التي لمسها عدد كبير من زملائنا بالجريدة وجرائد اخرى وعرفها فينا عدد كبير من النقابيين عندما وقفنا صامدين طيلة سنتين (1999 2000) نجابه القرارات التعسفية للأمين العام السابق للإتحاد الذي جردنا من صفتنا الصحفية وأمر بالحاقنا بوظائف إدارية لا صلة لها بالعمل الصحفي وقد كان المولدي رحمه اللّه »الدينامو« الذي تحرك على حساب صحته وعائلته وحشد لنا المساندة والتضامن من أعداد كبيرة من الزملاء بكل المؤسسات الصحفية وجمعية الصحافيين، وكوادر وإطارات نقابية من القيادة والهيئة الادارية الوطنية وفي المقدمة الاخ عبد السلام جراد الذي كان وقتئذ يتحمل مسؤولية النظام الداخلي بالاتحاد ويخوض هو نفسه على الجبهة الداخلية حركة تصحيح المسار النقابي مما أجبر الامين العام السابق على التراجع في قراراته وإعطائه تعليماته لادارته باعادتنا الى الجريدة وتمكيننا من حقوقنا... وبعدها بعام أو عامين قرّر المرحوم المولدي والزميل الناجي المغادرة من الباب الكبير وبشرف المهنة فطالبا بالاحالة على التقاعد المبكر، وظلّ المولدي رحمه اللّه يزورنا من حين لآخر ويحاول المحافظة على التواصل معنا إلى أن أدركه المرض الخبيث وقَلّت زياراته الى مكاتب الجريدة ليغيب عنا الى الابد تاركا بيننا كومة من الذكريات بعضها بالألوان والآخر بالاسود.