عزيزي الشاعر محمود درويش، 1 »عندما كانَ الطريقُ يمضي إلى قممِ الزبدِ العالِيَةِ حيثُ النجومُ المُتَدَلِّيَةُ من السماءِ تُضِيءُ سَوَادَ البَحْرِ البُرْتُقَالِيّ كانتْ قِطْعَةٌ شِعْرِيَّةٌ للشاعرِ الفرنسيّ »رينيه شار« تَجُولُ في خَاطِرِي: لاَبُدَّ للحَقِيقَةِ مِنْ ضِفَّتَيْنِ واحدَةٌ لِرَحِيلِنا وأُخْرَى لِعَوْدَتِهَا، كُنْتُ أَنْتَظِرُ أَمْرًا ما سَيَحْدُثُ... إلى أنْ جاءَني خَبَرُ مَوْت الشاعرِ، تتناقله وكالات الأنباء دون التأكيد على صحة المعلومة.. شَعُرْتُ بشيءٍ ما يَنْسَلُّ مِنْ قَلْبِي وَأَحْسَسْتُ بِحَرَارَةِ الدموعِ تَنْسَابُ على خَدِّي وَتُغْرِقُ عَيْنَيَّّ حتَّى صَارَت الطريقُ مُتَمَوِّجَةً أَمَامَ مِقْوَدِ السَيَّارَةِ التي كنتُ أَقُودُ. بعدَ هُنَيْهَةٍ أَحْسَسْتُ بِفَضِيلَةٍ مَا تَسْكُنُنِي وَأَمْوَاجٌ خَالِصَةٌ من الطيرانِ تَمْلأُ قَلْبِي وَرُوحًا أَبَدِيَّةً تَسْبَحُ في داخلي.. 2 لَمْ أَلْتَقِ أَحَدًا مِنْ أبناءِ جِيلِي لَيْسَتْ لهُ علاقَةٌ مَا بمحمود درويش.. كَانَ حُبُّنَا لدرويش هُو حُبّنا لِفِلسْطِين إِلَى أَنْ أَصْبَحَ حُبُّنا لِفِلسْطِين هو حُبّنا في الحَقِيقَةِ لمحمود درويش، لأَنَّ الشَاعِرَ الأَمْهَرَ اخْتَزَلهَا فِي نَبَرَاتِهِ وَفِي كَلِمَاتِهِ وَفِي قَصَائِدِهِ.. مُنْذُ بِدَايَاتِي الأُولَى كَانَتْ فِلسْطِين تَلْتَبِسُ عَلَيَّ فِي قَصَائِدِ الشَاعِرِ إلَِى أَنْ أَدْرَكْتُ أَنَّ الشاعِرَ وَوَطَنَهُ صِنْوَانِ، لَمْ تَكُن القُدْسُ -في وَعْيِي الطُفُولِيّ- مَكَانًا في الجَغْرَافِيَا بِقَدْرِ مَا كَانَتْ اعْتِقَادًا أَنَّهَا وَطَنٌ أُسْطُورِيّ ابْتَكَرَهُ الشاعِرُ بِخَيَالِهِ وأَسْكَنَهُ قَصِيدَتهُ!.. فِي الطَّرِيقِ المُضَاءِ بِتَصَوُّفِ النَّسِيمِ فِي لَيْلٍ صَيْفِيٍّ تَأْتِي الذكْرَيَاتُ مَعَ لَحْنِ »أَحنُّ إلى خُبْزِ أُمِّي«، تِلْكَ الأُهْزُوجَة الّتي كَانَتْ تَجُولُ بَيْنَ الأَصْدِقَاءِ فِي المَدرَسةِ الثانوية مُغَنَّاة ومطبوعَة علَى أَشْرِطَةِ مُوسِيقَى تَبْلَى سَرِيعًا لِكَثْرَةِ النَسْخِ..وَكَانَتْ »مَدِيحُ الظلِّ العَالِي« و»قَصِيدَةُ بَيْرُوت« و»أَحْمَدُ العَرَبِيّ« تَلْقَى مِنَّا دَائِمًا نَفْس لَهْفَة التَلقِّي.. حين دخلتُ إلى الجامِعَةِ في نِهَاية الثمَانِينَاتِ لَمْ أَحْمِلْ معي إلى مَبِيتِي الجَامِعِيّ سِوَى بَعْضِ الدواوين المَنْسُوخَةِ للشَاعِرِ، وَكَانَتْ إصابَتُنَا بالحُلْمِ العُضَالِ تَجْعَلُنَا مُتَأَكِّدِينَ أنَّ وطنَ الشاعِرِ سَيَتَحَرَّرُ غَدًا أوْ بَعْدَ غَدٍ..وجاءَ »غَدٌ طائِشٌ« حَيْثُ أَصْبَحْنَا نَحْلُمُ بالتَحَرُّرِ مِنْ حُلْمِنَا!.. 3 في منتصف تسعينات القرن العشرين حضرتُ أُولَى أمسيات الشاعر في المسرح البلدي بتونس عندما كانَ يَهِمُّ بالرحيلِ وَبِالعوْدَةِ إلى وَطَنِهِ نِصْفُ المُحَرَّرِ، وَتتَابَعَ مُنْذُ ذلك الوقت حُضُوري أمسيات درويش كُلَّمَا جَاءَ إلى تونس مُنْشِدًا وَمُحَلِّقًا بِجَنَاحَيْ الرُؤَى والإبداعات.. وآخرُ أُمْسِيَاتِهِ التي حَضَرْتُ كانت في المسرح البلدي على هامش انعقاد أيام قرطاج المسرحية..أيْنَ وَصَلْتُ مُتَأَخِّرًا بِخَمْسِ دَقَائِقَ فَوجَدْتُ الحُرَّاسَ يَمْنَعُونَ المُتَجَمْهِرِينَ أمَامَ المَسْرَحِ مِنَ الدخُول لأنََّ المَقَاعِدَ اخْتَنَقَتْ وَلَمْ يَبْقَ حَيّزٌ حتّى للوقوف!..خُضْتُ أكثر مِن حرْبينِ لأفوزَ بالتَسَلّل إلى داخل القاعةِ.. صعدتُ إلى أعلى طابِقٍ حيثُ الرؤوسُ تَكَادُ تُلامِسُ السقْفَ مِنْ أجْلِ الفَوْزِ بصوت الشاعر وصورته..وَخَطَرَتْ لِي وأنَا أَرْنُو إليه مِنْ بَعِيدٍ صورة الفنان »علي الرياحي« عندما سقط ميّتًا على نفْسِ المَسْرَحِ وَخَشِيتُ من هواجسي ولكِنّني أدْرَكْتُ من قرار دفين بأنّي أرى الشاعر لآخر مرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلى قَمَرٍ أوْ شَجَرٍ أَوْ مَطَرٍ أَوْ طَائِرٍ!.. 4 مُنْذُ أَيّامٍ قليلة رَأَيْتُنِي معهُ عَلى سَاحِلٍ لازورديّ وكانَ يُومِئُ إلى النَسْرِ عَلى جَبَلٍ شَاهِقٍ، قال لي بالإشارة:»أَمْسِكْ بِيَدِي وَتَتَبَّعْ خُطَايَ، وانْتَظِرْنِي فِي حَدِيقَةِ الوَرْدِ المُشَاعِ« ..لمْ أَفْهَم المَعْنَى لِكَيْ أَسْتَطِيعَ الفَكَاكَ مِنَ الليلِ لَكِنَّهُ اليومَ استطاعَ النجاةَ مِنَ المَوْتِ ثَانِيَةً وَرَاوَغَهُ ثَانِيَةً وَظلَّ هُناكَ على الساحل الأطلسيّ يَشُدُّ أَوْتَارَ آلاَتِ الملائكةِ الطيباتِ وَيُحَلِّقُ أَعْلَى مِنَ الأُولَمْب طائرًا مِنْ نُور!.. سيذهب الطينيّ إلى الطينيّ في نشيد الوداع وسيمضي السماوي إلى السماوي في أضواء شموع الجليل في مسيرة حاشدة وفي فوضوية ألوان الزهور ولكن صورته ستظل معلقة في الجدار وسأراه الليلة في الحلم يهتف بالقصيدة: حلمت بأن لي حلما، سيحملني وأحمله إلى أن أكتب السطر الأخير على رخام القبر:«نمت..لكي أطير»!.. مِنَ الساحِلِ الأَطْلَسي مُخَادِعًا موتاً ومُخَاتِلا يُرْسِلُ اليومَ إليْنا جسده ليوارى التراب بعد ظهيرة مسكونة بالرماد سيضحك من خلف السماوات وسيهتف بالموت: »نسيت مثلك أن أموت!..« عزيزي الشاعر هكذا كتبتُ يوم رحيلك وبدوتُ كمنْ يُؤَبّنُ معزوفة أو يكاد، ولكنّني اليوم في السادس عشر من أكتوبر، شهري المفضل، أتمشّى في الشارع الرئيسيّ وأحتفي مع الأصدقاء بميلادك من جديد مكتنفا بضيائي أستكشف فردوس الظهيرة وأحسّ دائما في هلع غامض ومثير أنّنا أسّسنا نقابة الكتّاب لأجل الاحتفاء بك بيننا.. تعوزنا الحيلة والحكمة لكن لا يعوزنا الحبّ أبدا.. سأتمشى هذا الصباح كمثل نبيّ جيئة وذهابا بين نزل الهناء الذي يحتضن عشّاقك وبين المسرح البلدي لأقيس المسافة التي كنت تقطعها وأهندس ساحة افتراضيّة أسمّيها باسمك وأنقش عليها »نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا« مادام الذين كرّموك في حياتك خوفا من كلماتك قد تجاهلوا اليوم مرورك الطويل من هنا خشية عودتك يوما ومادام وزير الاستعارة والبيان يتجاهل في ركنه الكئيب أحلام نقابة الكتّاب ويترك خلفه نسلا من العتمات والعقم وهو يطلق علينا أوصافا ستتوارى في أعماق الزمان عندما يصبح خاليا من الذكرى ومن الأمل.. لا تبتئس سأطالبُ اليوم بساحة في حجم جلد الثور، الثور إيّاه تُسمّى باسمك لتصبح السلّم الأزليّ إلى غدنا مثلما لقّنتنا.. عزيزي محمود، وأنا أقتسم معك الحكمة الشاحبة والخسائر الثمينة والحدس المُذَهّبَ يَتّهمني وزيرُ القدامة بالجنون ويتّهمني حفّارُ تراثٍ متفلسفٍ بمرفئك الأبديّ وهو لا يعلم ما قلت لي حين شكوتك تُهمتي بك وأنت تضحك وتقول لي »هي أجمل تهمة« ومن حسن حظك أنّك راوغت الذئاب واختفيت هناك ومن سوء حظي علّمتني تراتيلها.. سَيَتَدَلّى هذا الصباح كأثداء قطتنا وسَأهاتفُ أُمّي عمّا قليل وأقول لها إنّنا نحتفي بميلادك ،ستقول لي ادعه للغداء معنا لأريه صورته معك معلّقة على الجدار ستعدّل وصفها هذه المرّة لن تقول لكل من يسألها »هذا ابني الشاعر وذاك شاعر إلى جانبه« بل ستقول »هذا شاعر فلسطين محمود درويش وذاك ابني إلى جانبه« لكنّني سأقول لها لن يستطيع المجيء هو يطيل السلام الذي لا يموت »لأنَّ بهِ نَفَس الله والله حظّ النبيّ.«...