عيد الجلاء : قيس سعيد يلتقي بأهالي بنزرت    صندوق الضمان الاجتماعي: تمديد أجل إيداع التصاريح بالأجور وخلاص الإشتراكات    قابس: مسيرة تطالب بتفكيك الوحدات الصناعية للمجمع الكيميائي التونسي... فيديو    القصرين تستقبل 27,500 دعسوقة    السعودية تطلق مشروع ''بوابة الملك سلمان'' لتحويل مكة إلى وجهة عالمية...شنوا الحكاية ؟    "لا معنى لوضع المعاهدات والصكوك الدولية في غياب الردع والمحاسبة"    عاجل: هطول أمطار متفاوتة خلال 24 ساعة الماضية...و أعلاها في سيدي ثابت    النادي الافريقي يفوز وديا على موج منزل عبد الرحمان    انتبه: رياح قوية تصل سرعتها إلى 60 كم/س مع السحب الرعدية    الليلة ستشهد انخفاضا في درجات الحرارة    الوسلاتية: سرقة 39 رأس غنم على ملك شقيقين    المهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع" يفتتح دورته الثالثة من ولاية توزر    مستشفى الحبيب بورقيبة بصفاقس: إنقاذ طفل ال 12 سنة بعد تعرّضه لتوقف قلبي مفاجئ    باحث تونسي يتصدر قراءات العالم الأكاديمية ويحصد جائزة «Cairn / الفكر 2025»    في بالك : 15 أكتوبر هو اليوم العالمي لغسل اليدين ...شوف الحكاية كاملة    في ذكرى الجلاء .. مجلس نواب الشعب يحث على "الاقتداء بنضالات وتضحيات شهداء تونس"..    لأول مرة في التاريخ.. 7 منتخبات عربية في نهائيات كأس العالم    البرتغالي كريستيانو رونالدو يصبح الهداف التاريخي لتصفيات كأس العالم    بإشراف وزير الفلاحة ووالي جندوبة: خبراء يبحثون آفاق زراعة اللفت السكري    تنبيه/ هذا آخر أجل لإيداع التصريح الشهري و التصريح الثلاثي..    الإعلان عن مبادرة سياسية جديدة تحت عنوان "التزام وطني"    عاجل/ نشرة متابعة للوضع الجوي لبقية اليوم..أمطار رعدية بهذه المناطق..    عاجل/ الجيش اكد انها ليست لرهائنه: ما قصة الجثة التي حيرت إسرائيل..؟    روسيا رداً على ترامب: إمدادات البنزين في السوق المحلية مستقرة    تركيا ترسل فريق "بحث تحت الأنقاض" إلى غزة    عاجل/ يهم التصاريح الجبائية: وزارة المالية تعتمد هذا الاجراء الجديد بداية من نوفمبر..    مستشفى الرابطة: يوم مفتوح لتقصي هشاشة العظام في هذا الموعد    نسور قرطاج في مواجهة قوية قبل كأس العرب: البرازيل والأردن في الطريق!    عاجل ولأوّل مرة في تونس: مشروع وطني لإنتاج أمهات الدواجن    مرصد الطقس والمناخ يُحذّر: المنخفض الجوي يقترب من الأجواء التونسية!    شنوّا صار في تونس نهار 15 أكتوبر 1963؟    رياض دغفوس: تسجيل حالات كوفيد-19 محدودة ولا تهدد النظام الصحي    الزهروني : الاطاحة بعصابة السطو على المنازل    بين الأسطورة والذكاء الاصطناعي: قصة جواز سفر من دولة لا وجود لها تهزّ الإنترنت    بداية من اليوم..انطلاق حملة التلقيح ضد "القريب"..    عاجل : أمريكا تلغي تأشيرات دخول ل6 أجانب من هذه الجنسيات    خلف القضبان.. ماذا ينتظر الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي؟    تصفيات إفريقيا لمونديال 2026: السنغال وكوت ديفوار وجنوب إفريقيا تكمل عقد المنتخبات المتأهلة إلى النهائيات    ترامب: تحدثت إلى حركة حماس وطالبتها بالتخلي عن سلاحها ووافقوا وإذا لم يلتزموا سنتكفل بذلك    صندوق النقد الدولي يتوقع ان تبلغ نسبة النمو في تونس 2،5 بالمائة سنة 2025    منتجو التفاح بفوسانة يعبّرون عن استيائهم من مداهمات المراقبة الاقتصادية المتكرّرة لمخازن التبريد وحجز محاصيلهم    الفنان الملتزم سمير ادريس ل«الشروق» فلسطين هي محور الكون والقضايا    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يجدد فوزه على نظيره العراقي وديا 3-0    لقاء إعلامي للتعريف ببرنامج "أوروبا المبدعة"    تكريم الدكتور عبد الجليل التميمي في نوفمبر المقبل خلال حفل تسليم جائزة العويس للثقافة    غيابات عديدة في صفوف الترجي قبل مواجهة رحيمو البوركيني في رابطة ابطال افريقيا    باجة: رئيس اتحاد الفلاحة يدعو الى توفير الاسمدة مع تقدم عمليات تحضير الارض بنسبة 85 بالمائة    الكاف: يوم تنشيطي بدار الثقافة بالقصور بمناسبة الاحتفال بالذكرى 62 لعيد الجلاء    غرفة التجارة والصناعة لصفاقس تستعد لإطلاق المنصّة الرقمية لإصدار شهادات المنشأ    عاجل/ بشرى سارة بخصوص صابة زيت الزيتون لهذا العام..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    وزارة التربية تصدر روزنامة المراقبة المستمرة للسنة الدراسية 2025-2026    بنزرت.. في الذكرى 62 لعيد الجلاء .. خفايا معركة الجلاء محور لقاءات فكرية    أولا وأخيرا .. البحث عن مزرعة للحياة    الزواج بلاش ولي أمر.. باطل أو صحيح؟ فتوى من الأزهر تكشف السّر    وقت سورة الكهف المثالي يوم الجمعة.. تعرف عليه وتضاعف الأجر!    يوم الجمعة وبركة الدعاء: أفضل الأوقات للاستجابة    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة مفتوحة إلى الشاعر محمود درويش
بقلم : عادل معيزي (عضو نقابة كتّاب تونس)
نشر في الشعب يوم 16 - 10 - 2010


عزيزي الشاعر محمود درويش،
1
»عندما كانَ الطريقُ يمضي إلى قممِ الزبدِ العالِيَةِ حيثُ النجومُ المُتَدَلِّيَةُ من السماءِ تُضِيءُ سَوَادَ البَحْرِ البُرْتُقَالِيّ كانتْ قِطْعَةٌ شِعْرِيَّةٌ للشاعرِ الفرنسيّ »رينيه شار« تَجُولُ في خَاطِرِي: لاَبُدَّ للحَقِيقَةِ مِنْ ضِفَّتَيْنِ واحدَةٌ لِرَحِيلِنا وأُخْرَى لِعَوْدَتِهَا، كُنْتُ أَنْتَظِرُ أَمْرًا ما سَيَحْدُثُ... إلى أنْ جاءَني خَبَرُ مَوْت الشاعرِ، تتناقله وكالات الأنباء دون التأكيد على صحة المعلومة.. شَعُرْتُ بشيءٍ ما يَنْسَلُّ مِنْ قَلْبِي وَأَحْسَسْتُ بِحَرَارَةِ الدموعِ تَنْسَابُ على خَدِّي وَتُغْرِقُ عَيْنَيَّّ حتَّى صَارَت الطريقُ مُتَمَوِّجَةً أَمَامَ مِقْوَدِ السَيَّارَةِ التي كنتُ أَقُودُ. بعدَ هُنَيْهَةٍ أَحْسَسْتُ بِفَضِيلَةٍ مَا تَسْكُنُنِي وَأَمْوَاجٌ خَالِصَةٌ من الطيرانِ تَمْلأُ قَلْبِي وَرُوحًا أَبَدِيَّةً تَسْبَحُ في داخلي..
2
لَمْ أَلْتَقِ أَحَدًا مِنْ أبناءِ جِيلِي لَيْسَتْ لهُ علاقَةٌ مَا بمحمود درويش..
كَانَ حُبُّنَا لدرويش هُو حُبّنا لِفِلسْطِين إِلَى أَنْ أَصْبَحَ حُبُّنا لِفِلسْطِين هو حُبّنا في الحَقِيقَةِ لمحمود درويش، لأَنَّ الشَاعِرَ الأَمْهَرَ اخْتَزَلهَا فِي نَبَرَاتِهِ وَفِي كَلِمَاتِهِ وَفِي قَصَائِدِهِ..
مُنْذُ بِدَايَاتِي الأُولَى كَانَتْ فِلسْطِين تَلْتَبِسُ عَلَيَّ فِي قَصَائِدِ الشَاعِرِ إلَِى أَنْ أَدْرَكْتُ أَنَّ الشاعِرَ وَوَطَنَهُ صِنْوَانِ، لَمْ تَكُن القُدْسُ -في وَعْيِي الطُفُولِيّ- مَكَانًا في الجَغْرَافِيَا بِقَدْرِ مَا كَانَتْ اعْتِقَادًا أَنَّهَا وَطَنٌ أُسْطُورِيّ ابْتَكَرَهُ الشاعِرُ بِخَيَالِهِ وأَسْكَنَهُ قَصِيدَتهُ!..
فِي الطَّرِيقِ المُضَاءِ بِتَصَوُّفِ النَّسِيمِ فِي لَيْلٍ صَيْفِيٍّ تَأْتِي الذكْرَيَاتُ مَعَ لَحْنِ »أَحنُّ إلى خُبْزِ أُمِّي«، تِلْكَ الأُهْزُوجَة الّتي كَانَتْ تَجُولُ بَيْنَ الأَصْدِقَاءِ فِي المَدرَسةِ الثانوية مُغَنَّاة ومطبوعَة علَى أَشْرِطَةِ مُوسِيقَى تَبْلَى سَرِيعًا لِكَثْرَةِ النَسْخِ..وَكَانَتْ »مَدِيحُ الظلِّ العَالِي« و»قَصِيدَةُ بَيْرُوت« و»أَحْمَدُ العَرَبِيّ« تَلْقَى مِنَّا دَائِمًا نَفْس لَهْفَة التَلقِّي..
حين دخلتُ إلى الجامِعَةِ في نِهَاية الثمَانِينَاتِ لَمْ أَحْمِلْ معي إلى مَبِيتِي الجَامِعِيّ سِوَى بَعْضِ الدواوين المَنْسُوخَةِ للشَاعِرِ، وَكَانَتْ إصابَتُنَا بالحُلْمِ العُضَالِ تَجْعَلُنَا مُتَأَكِّدِينَ أنَّ وطنَ الشاعِرِ سَيَتَحَرَّرُ غَدًا أوْ بَعْدَ غَدٍ..وجاءَ »غَدٌ طائِشٌ« حَيْثُ أَصْبَحْنَا نَحْلُمُ بالتَحَرُّرِ مِنْ حُلْمِنَا!..
3
في منتصف تسعينات القرن العشرين حضرتُ أُولَى أمسيات الشاعر في المسرح البلدي بتونس عندما كانَ يَهِمُّ بالرحيلِ وَبِالعوْدَةِ إلى وَطَنِهِ نِصْفُ المُحَرَّرِ، وَتتَابَعَ مُنْذُ ذلك الوقت حُضُوري أمسيات درويش كُلَّمَا جَاءَ إلى تونس مُنْشِدًا وَمُحَلِّقًا بِجَنَاحَيْ الرُؤَى والإبداعات.. وآخرُ أُمْسِيَاتِهِ التي حَضَرْتُ كانت في المسرح البلدي على هامش انعقاد أيام قرطاج المسرحية..أيْنَ وَصَلْتُ مُتَأَخِّرًا بِخَمْسِ دَقَائِقَ فَوجَدْتُ الحُرَّاسَ يَمْنَعُونَ المُتَجَمْهِرِينَ أمَامَ المَسْرَحِ مِنَ الدخُول لأنََّ المَقَاعِدَ اخْتَنَقَتْ وَلَمْ يَبْقَ حَيّزٌ حتّى للوقوف!..خُضْتُ أكثر مِن حرْبينِ لأفوزَ بالتَسَلّل إلى داخل القاعةِ.. صعدتُ إلى أعلى طابِقٍ حيثُ الرؤوسُ تَكَادُ تُلامِسُ السقْفَ مِنْ أجْلِ الفَوْزِ بصوت الشاعر وصورته..وَخَطَرَتْ لِي وأنَا أَرْنُو إليه مِنْ بَعِيدٍ صورة الفنان »علي الرياحي« عندما سقط ميّتًا على نفْسِ المَسْرَحِ وَخَشِيتُ من هواجسي ولكِنّني أدْرَكْتُ من قرار دفين بأنّي أرى الشاعر لآخر مرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلى قَمَرٍ أوْ شَجَرٍ أَوْ مَطَرٍ أَوْ طَائِرٍ!..
4
مُنْذُ أَيّامٍ قليلة رَأَيْتُنِي معهُ عَلى سَاحِلٍ لازورديّ وكانَ يُومِئُ إلى النَسْرِ عَلى جَبَلٍ شَاهِقٍ، قال لي بالإشارة:»أَمْسِكْ بِيَدِي وَتَتَبَّعْ خُطَايَ، وانْتَظِرْنِي فِي حَدِيقَةِ الوَرْدِ المُشَاعِ« ..لمْ أَفْهَم المَعْنَى لِكَيْ أَسْتَطِيعَ الفَكَاكَ مِنَ الليلِ لَكِنَّهُ اليومَ استطاعَ النجاةَ مِنَ المَوْتِ ثَانِيَةً وَرَاوَغَهُ ثَانِيَةً وَظلَّ هُناكَ على الساحل الأطلسيّ يَشُدُّ أَوْتَارَ آلاَتِ الملائكةِ الطيباتِ وَيُحَلِّقُ أَعْلَى مِنَ الأُولَمْب طائرًا مِنْ نُور!..
سيذهب الطينيّ إلى الطينيّ في نشيد الوداع وسيمضي السماوي إلى السماوي في أضواء شموع الجليل في مسيرة حاشدة وفي فوضوية ألوان الزهور ولكن صورته ستظل معلقة في الجدار وسأراه الليلة في الحلم يهتف بالقصيدة:
حلمت بأن لي حلما، سيحملني وأحمله إلى أن أكتب السطر الأخير على رخام القبر:«نمت..لكي أطير»!..
مِنَ الساحِلِ الأَطْلَسي مُخَادِعًا موتاً ومُخَاتِلا يُرْسِلُ اليومَ إليْنا جسده ليوارى التراب بعد ظهيرة مسكونة بالرماد سيضحك من خلف السماوات وسيهتف بالموت:
»نسيت مثلك أن أموت!..«
عزيزي الشاعر
هكذا كتبتُ يوم رحيلك وبدوتُ كمنْ يُؤَبّنُ معزوفة أو يكاد، ولكنّني اليوم في السادس عشر من أكتوبر، شهري المفضل، أتمشّى في الشارع الرئيسيّ وأحتفي مع الأصدقاء بميلادك من جديد مكتنفا بضيائي أستكشف فردوس الظهيرة وأحسّ دائما في هلع غامض ومثير أنّنا أسّسنا نقابة الكتّاب لأجل الاحتفاء بك بيننا.. تعوزنا الحيلة والحكمة لكن لا يعوزنا الحبّ أبدا..
سأتمشى هذا الصباح كمثل نبيّ جيئة وذهابا بين نزل الهناء الذي يحتضن عشّاقك وبين المسرح البلدي لأقيس المسافة التي كنت تقطعها وأهندس ساحة افتراضيّة أسمّيها باسمك وأنقش عليها »نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا« مادام الذين كرّموك في حياتك خوفا من كلماتك قد تجاهلوا اليوم مرورك الطويل من هنا خشية عودتك يوما ومادام وزير الاستعارة والبيان يتجاهل في ركنه الكئيب أحلام نقابة الكتّاب ويترك خلفه نسلا من العتمات والعقم وهو يطلق علينا أوصافا ستتوارى في أعماق الزمان عندما يصبح خاليا من الذكرى ومن الأمل..
لا تبتئس سأطالبُ اليوم بساحة في حجم جلد الثور، الثور إيّاه تُسمّى باسمك لتصبح السلّم الأزليّ إلى غدنا مثلما لقّنتنا..
عزيزي محمود،
وأنا أقتسم معك الحكمة الشاحبة والخسائر الثمينة والحدس المُذَهّبَ يَتّهمني وزيرُ القدامة بالجنون ويتّهمني حفّارُ تراثٍ متفلسفٍ بمرفئك الأبديّ وهو لا يعلم ما قلت لي حين شكوتك تُهمتي بك وأنت تضحك وتقول لي »هي أجمل تهمة« ومن حسن حظك أنّك راوغت الذئاب واختفيت هناك ومن سوء حظي علّمتني تراتيلها..
سَيَتَدَلّى هذا الصباح كأثداء قطتنا وسَأهاتفُ أُمّي عمّا قليل وأقول لها إنّنا نحتفي بميلادك ،ستقول لي ادعه للغداء معنا لأريه صورته معك معلّقة على الجدار ستعدّل وصفها هذه المرّة لن تقول لكل من يسألها »هذا ابني الشاعر وذاك شاعر إلى جانبه« بل ستقول »هذا شاعر فلسطين محمود درويش وذاك ابني إلى جانبه« لكنّني سأقول لها لن يستطيع المجيء هو يطيل السلام الذي لا يموت »لأنَّ بهِ نَفَس الله والله حظّ النبيّ.«...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.