كثيرون يحصرون العمل النقابي في المهني والاجتماعي أو في الاحتجاج والمواجهة مع أعداء النقابة أو في تحالفات الانتخابات والمواقع والصراعات....هذا كلّه موجود في العمل النقابي، ونعيشه أحيانا بشكل يومي، حتّى لكأنّ المرأة النقابية أو الرجل النقابي أضحيا تتحكّم فيهما ميكانيزمات أزرار »الماكينة« النقابية... لكن يوم 16 أكتوبر 2010، لم يكن يوما عاديا تتلخّص فيه كل تلك الأشياء المعروفة في النقابة، بل مثّل هذا اليوم قطيعة مع كل ذلك، قطيعة تأسست على الحبّ والعشق والشعر والأدب التي تتراقص احتفالا بذكرى رحيل محمود درويش، نعم احتفالا وليس حزنا، احتفالا، ب »كلماته العابرة« أحلى الكلمات على الوطن والمرأة والإنسان...
يوم 16 أكتوبر 2010 لم ترد نقابة كتّاب تونس له أن يمرّ هكذا، دون معنى، بل أقسمت النقابة أن يكون يوما جميلا ينسى فيه النقابي والسياسي أوجاعه وآلامه، الجلسات والنقاشات والصراعات و»التكمبينات« والانتخابات واللوائح و برقيات الإضراب الكلّ أراد أن ينسى ولو قليلا همّ اهتراء المقدرة الشرائية وارتفاع الأسعار و أزمة الصناديق الاجتماعية، ليتذكروا درويش ويحتفلوا بذكرى رحيله الثانية ، فكان لهم ذلك وكان يوم 16 أكتوبر 2010 مهربهم نحو الشعر.
وهكذا، نظّمت نقابة كتّاب تونس بالتنسيق مع قسم التكوين النقابي وبإشراف من الاتحاد الجهوي للشغل بتونس تظاهرة الاحتفال بالذكرى الثانية لرحيل محمود درويش، فانطلقت بمعرض وثائقي بدار الاتحاد بتونس العاصمة عن حياة الراحل ثمّ دارت الفعاليات بأحد النزل بالعاصمة.
الاحتفال حضره عدد كبير من الضيوف فكان النقابيون من عديد القطاعات في الموعد والأدباء والشعراء الشبّان منهم والكهول وعدد من الطلبة الذين استمعوا الى شهادات الشعراء التونسيين الذين عايشوا درويش وإلى نغمات الزين الصافي بحضور آمال الحمروني التي لم تغنّ ولكنّها كانت تصرخ في صمت وتقول »ليّام فرّاڤة«
كما كان من بين الضيوف سفير فلسطينبتونس، الذي ألقى له بالمناسبة كلمة أعرب فيها عن سعادته لحضور هذه الاحتفالات واستعرض قليلا مما تعيشه الساحة السياسية الفلسطينية و أحوال المقاومة والمفاوضات.
افتتح اللقاء الأخ نور الدين الطبوبي الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بتونس، الذي ابرز أن إحياء ذكرى رحيل الشاعر محمود درويش متلازم مع النضال اليومي باعتبار أن الفعل الثقافي والفعل الاجتماعي والنقابي وجوه لمقاومة واحدة هدفها تحرير الأرض وتخليص الانسان من ربقة القهر والاستغلال واستعرض ما مثّله درويش في الخضمّ النضالي للوطن العربي وفي العالم على خطى كبار الشعراء العالميين مثل »أراغون« و»لوركا« و»نيرودا«
أما الأخ لسعد بن حسين الكاتب العام لنقابة كتّاب تونس فقد قدّم برنامج التظاهرة و أكّد أنها تمثّل انطلاقة قويّة نحو تنظيم تظاهرات أخرى تكرّم أدباء تونس و تتذكّرهم و بأعمالهم وإبداعاتهم، كما وعد بأن النقابة ستكمل مشوارها النضالي نحو تطوير آليات عملها بالتنسيق مع الهياكل النقابية القطاعية والجهوية من أجل تحقيق المكاسب وتدعيم مكانة الكاتب في تونس .
من جهة ثانية تلت الشاعرة فاطمة الشريف عضوة النقابة بيان النقابة بمناسبة ذكرى رحيل درويش والذي جاء فيه
يا سيد التاج المرصع بالوفاء والقوافي،
سلام عليك حيثما كنت وحيثما تكون
هل نجرؤ على تأبينك عامين بعد رحيلك؟وهل نجرؤ على ملامسة جزء من مشروعك الشعري الإنساني والوطني ؟
هل نجرؤ على كتابة نثر يرتقي الى مستوى نثرك »الكرملي«؟ وهل يمكن اختزال تجربتك في بعض الأسطر الافتتاحية شئناها احتفاء بك؟
عذرا سيدي، لن نسقط في فخاخ الحزن مجددا ولن نبحث عن بكائيات مجّها العرب إنا هنا كي نفرح معك وبك، فهل تقبل دعوتنا للفرح ؟
ياسيد الكمنجات، ستبقى في الذاكرة طفلا بذكرياته الغامضة عن بيت وحصان، يسأل والده ببراءة طفولية لماذا تركت الحصان وحيدا؟ طفلا يخشى الثلج في »جزين«
سنذكرك شابا يافعا بدأ بنظم القوافي وبالتردد على سجون الاحتلال ،وسنذكر صيحاتك المباشرة في وجهه سجل أنا عربي أو »يعلمني حديد سلاسلي عنف النسور ورقة المتفائل«
وصيحات مجازية استعمارية لو يذكر الزيتون غارسه، لصار الزيت دمعا
سنذكر دخولك للمنفى وتطوافك في بلدان شتى من موسكو الى عمان مرورا بمصر ولبنان وباريس
سنذكر اعترافك الحامض القمح مرّ في حقول الآخرين والماء مالح سنذكر عشقك لنرجسة الرخام بيروت، غزلك المطول بها
رفضك الخروج منها حين غادرت المقاومة نومك في المطاعم والمقاهي أيام »صبرا وشاتيلا« وسنذكر بفخر أنك حين غادرتها فعلت ذلك بجواز سفر تونسي سنذكر حزنك أمام نزل سلوى ، سنذكر شعرك في قرطاج وسنذكر دموعك في المسرح البلدي لتونس العاصمة ذات أمسية خالدة
سنذكر نضالك السياسي رديف إبداعك الشعري سنذكر جمع شمل كتاب فلسطين، تأسيسك مجلة الكرمل صياغتك وثيقة استقلال فلسطين، سنذكر اختيارك الشعر ورفضك الوزارة
سنذكر أشياء كثيرة ليس أقلها هوسك بالقهوة، إجادتك الطبخ وطقوس عزلة الكتابة عندك سنذكر كل شيء، سنذكر حورية أشعارك، حنينك الى قهوتها قهوتنا تغنيك بترانيمها ترانيمنا
وسنذكر وفاءك لأصدقائك ،رفاق دربك من غسان كنعاني الى مفلح عدوان، الى توفيق زياد، معين بسيسو، ادوارد سعيد ونصف البرتقالة الآخر سميح القاسم وآخرين كثر أثثوا العرس الفلسطيني في شعرك لا يصل الحبيب الى الحبيب إلا شريدا أو شهيدا
سنذكر عشقك للتراب وسنذكر وفاءك لمن يمشون على ذلك التراب
يا سيد التاج المرصّع بالقوافي، لم نستغرب لم نستغرب تصابة قلبك انتفاخ شريانه الأبهر
ولم نستغرب رائعتك »جدارية« لم نستغرب معركتك الأخيرة مع الموت تسع سنوات قضيتها في سباق محموم مع الزمن، كرستها للشعر كتابة وقراءة وحفلات إمضاء
لم نستغرب موتك في ولاية » الكاوبوي«، ولم نستغرب أن يكون طبيبك الأخير عراقيا وأفضل جرّاح في العالم، وأنه سيعجز مع ترسانة الأجهزة الطبية الأمريكية عن إعادتك الى طاولة المقهى لتلعب »أطراح نرد« إضافيّة
سيدي محمود، سنذكر كل شيء
رغبتنا فقط في برقية أخيرة يا محمود ،
كتاب تونس اجتمعوا أخيرا وأسسوا نقابة لهم الآولى من نوعها عربيا و»عالم ثالثيا«، نقابة لردّ الاعتبار للكاتب ومفهوم الكتابة
نقابة سيعلو بنيانها بقيم الوفاء والحرية
فهل تقبل من هناك أن تكون أول الموسمين من كتاب تونس؟
وسنواصل الحلم، كأن نحتفل بك مرة أخرى في ساحة كبرى باسمك في تونس على أن تتلوها ساحات وشوارع أخرى بأسماء أدباء كبار رحلوا جسدا ومكثوا شعرا مثل محمد البقلوطي ، محمد رضا الجلالي، بلقاسم اليعقوبي ، هشام المحمدي، محمد فوزي الغزي، كاظم الثليجاني، عامر بوترعة، محجوب العياري
شاعرنا الخالد، السلام عليك حيثما كنت وحيثما ستكون
نحن لا نرثيك، نحن نحتفل
نقابة كتاب تونس الآسعد بن حسين، سامي السنوسي ، عادل معيزي، فاطمة الشريف، جمال الجلاصي، عبد الوهاب الملوح، عبد الفتاح بن حمودة
٭ شهادات
ضمن هذه الاحتفالات، تمت برمجة شريط وثائقي روى مسار حياة الراحل الدراسية والسياسية، والتفاصيل التي وسمت منعرجات حياته إلى آخرها، وجاءت على لسان من عاشروه وعرفوه
ومن أهمّ الفقرات التي بُرمجت، شهادات شعراء ومبدعين عايشوا درويش، وكانت لهم معه لقاءات أو مسامرات، منهم سليم دولة، الصغير أولاد أحمد وعبد الحفيظ المختومي الذي تلا ابنه شهادته بالنيابة عنه ننشر المداخلات في اعداد لاحقة
٭ شعر وموسيقى
وبالطبع حضر الشعر وانطلقت الالقاءات بالشاعر الشاب سامي الذيبي ثم الصغيّر أولاد أحمد الذي تحدث عن الحرية في الشعر وفاطمة بن فضيلة التي تساءلت وأجابت عن »ما الشعر؟« وعلالة الحواشي وأخيرا عبد الجبار العش الذي تحاور مع درويش
يحيا الشعر، ويحيا »درويش«، الكلّ نادى هكذا بصمت وبجهر، فدرويش لم يمت، بل باق حيّ فينا وزاد الدفء بوصلات الزين الصافي الموسيقية التي جعلت الجمهور يتمايل على أشعار درويش وأحمد فؤاد نجم، فالموسيقى ملتزمة وجميلة، ومع أشعار الراحل تكون أجمل وأحلى