تمّ مساء الثلاثاء بمقرّ حركة التجديد 26 اكتوبر 2010 عرض الفيلم القصير للمخرج التّونسي نصر الدين السهيلي الذي يدخل مغامرته السينمائيّة الثانية. والفيلم الجديد شكّل حدثا استثنائيّا في مهرجان قرطاج السينمائية باعتباره عملاً ممنوعًا من دخول المسابقة الرّسميّة، إذ الضجّة التي أحدثها الفيلم جعلت كل الأنظار منصبّة عليه و هذا نجاح آخر وانتصارٌ على الرّقابة بكلّ أنواعها. ولقد ارتأى حزب التّجديد في إطار التّضامن اللاّمشروط مع كلّ عمل فنّيّ أن يمكن الجماهير الوافدة على مقرّه من مشاهدة ومناقشة الفيلم. نظّم العرض شبّان نادي السينما »أسماء فنّي«. وحسن التنظيم ضمن للجمهور عرْضين متتاليين مشفوعين بفترات كافية للنقاش ابتدأ العرض الأوّل في الخامسة وعشرين دقيقة. فيلم قصير يمسح اثنين وثلاثين دقيقة من الزّمن الميقاتي. لأوّل مرّة في حياتي أدخل عرضا لفيلم تونسيّ بكلّ هذا الجموح، وكان عليّ أن أنتبه إلى ضربة الفأس الأولى لحفّاري القبور! يبدأ الفيلم بضربة فأس وبلحظة موت شخصيّة رمزيّة لها أكثرمن دلالة هي شخصيّة إمام مسجد قرية »الشاق واق«، فالإمام الغائب الذي لم يرهُ المشاهد هو المدارُ الذي دارت حوله كلّ الأسئلة الأخرى، والموتُ بكثافته وقداسته الرهيبة له حافّات غامضة. الإمامُ قرأته رمزا للّه (الهو / الغائب) ورمزا للسلطان دينيّا وسياسيّا. موت الإمام شكّل فراغا رُوحيّا حقيقيا لدى أهالي »الشاق واق« ولكنّه أمرٌ مؤرّق ومحرجٌ للسلطة لأنّ الفراغ يحتّم عليها إيجاد البديل وما حضور شخصيتي »المعتمد« والعمدة (لمين النّهدي) إلاّ دليل على اهتمام السلطة بأيّ حدث دينيّ وبالتالي هي تمسك بخيوط اللّعبة وتستغلّ الدين لفائدتها. والإمام بالنسبة إلى السّلطة استتبابٌ للأمن واتّقاء لشرّ الأهالي!. فيلم بسيط من جهة التقنية السينمائيّة ولكنّه عميق ومدهش في تناوله لمسائل تتّصل بالموروث واليوميّ من خلال حضور الدّيني والمقدّس في معيشنا، قراءة القرآن على الميّت والدّعاء له لأنّ الميّت يمنحه الموتُ قداسةً مهما كان فعله أو حضوره في الدّنيا. والفيلم واضحُ الطّرح لأنّه نقد للخطاب الدّيني ونقدٌ للسلطة التي تستغلّ الدين لمآربها الشخصية ومن الصّور التي ستظلّ راسخة في أذهان المشاهدين »مكتبة الإيمان الصّالح« و»حمّام التّوبة«، كلّ هذه الفضاءات أو الامكنه لها رموز ودلالات، لكنّ الرّبط العجيب بين موت الإمام وعودة »بڤلة« (عاطف بن حسين) من السّجن (والسجن في الذاكرة الشعبية للرّجال) وخطاب المخرج اعتمد السّخرية والهزل رجل يخسرُ ثلاث سنوات من عمره ويقول مزهوّا »الحبس للرّجال«. إنّ استقبال الأهالي للعائد من السجن استقبال الأبطال فيه نقد للواقع فالسّجن كان من أجل المخدّرات وليس من أجل النّضال والثورة وتحريرالشعوب... هذه صورة لانهيار القيم مرّرها المخرج بذكاء كبير. الشخصيات متناغمة في أدائها ولغتها تفضحها بسلطتها وأكثر من ذلك جهلها المدقع. الفيلم يتأرجح بين قوّة الواقع وكثافته (السجن، الجهل، المخدّرات والخمور.. إلخ) وبين المتخيّل وقوّته الرهيبة من خلال تسمية الفضاءات والأمكنة (حمّام التّوبة ومكتبة الإيمان الصّالح) والأهمّ هو جعل المشاهد في موقع ثالث قارئا ومنتجا آخر للفيلم ومشاركا فاعلا، وأسلوب الملهاة (الكوميديا السّاخرة) ارتآه المخرج طريقا ونداءً وأسلوبًا لإبلاغ رؤيته واللّحظات الإيقاعية هي تكرار أدوار معيّنة لشخصيتين هامشيتين (بائع الفواكه الجافّة) من خلال كأكأته »كاكويّة«، ومردّد كلمات »شفتو، شفتو، شفتو« (الممثل المسرحي محمد سفينة)... الأبطال يبحثون عن حلول من خلال تصديقهم لكلّ شيء، حتّى »لبقلة« العائد من السّجن كي يصبح إمامًا وهاديا وبشيرًا ونذيرًا ! دور الفيلم هو تعرية جهل النّاس لأنّهم بلا مرجعيّة فكرية أو معرفيّة أو ثقافيّة... يكفي هذا الفيلم أنّ لاقى نجاحًا واهتمامًا من كل من شاهده ولاقى حماسًا ونقاشًا حادًّا إثر العرضين الأخيرين، لكنّنا ننتظر المخرج في أفلام أخرى طويلة لعلّها تكون مختلفة عن السائد والمألوف في السينما التونسية.