يعشق المدن والشوارع المنسيّة، ويعانق أوجاعها حين يعشش الليل في الزوايا ويمتد الصمت »صمت القبور« فتنام المدينة لتترك الشاعر لأوجاعه وتترك أوجاعها له تسلمه مفاتيح حزنها ليصبح القادر على فكّ رموز صمتها ووحشتها، هو الشاعر الطييب بوعلاڤ، حين قرأت بعض نصوصه التي وقعت بين يديّ، شدّني ذلك الكمّ الهائل من الوجع المبثوث داخل كل سطر من أسطرها وأربكني أسلوبه الساخر من كل أصناف الظلم والقهر يقول الطيب في قصيدة بعنوان »وطنْ وإنْ كانْ«: مثل الورد في كتاب ومثل الوجد في أهدابْ خبّي الوطن في حلم وخبّي الحلم في غيابْ خبّيه طيْ الشوقْ تحت الوجيعة وفوقْ وإن كان حتى الشوقْ في حدّ ذاتهْ ذابْ تعْب وشقْى وحروق وعشق وعنا ينسابْ يبدأ إذن بالبحث عن صورة للوطن هذا الوطن الذي صار حلما منشودا ورغبة جامحهْ.. هذا الوطن الذي صار صنوًا للألم والوجع وجع الشاعر ووجع الإنسان الساكن فيه باستمرار وكأنّ الوطن في صورته هذه والانسان والالم تركيب تلازميّ. وحدة لا تتجزأ يطول بحثه وتمتد رحلته متسمة بالأمل حينّا ومسيّجة بالعناء أحيانا أخرى يقول: خبّيه في ثوب العيد في وعود... في مواعيد وان كان حتى العيدْ خلّى هلالهْ وغابْ يكفيه كونهْ بعيدْ على زمن غلاَبْ لا شيء يبدّد حيرة الشاعر.. كل الأمكنة تتشابه، وكل المجالات لا تستوعب حلمه / الوطن »فالوجيعة« و»الشوق« و»ثوبْ العيدْ« و»الوعود« و»المواعيد« كلّها تفرّ بدورها الى البحث الدائم عن حلم ما.. عن فضاء ما يحضنها فالعيد ارتحلْ ولم يعدْ، ترك هلالهُ وغاب فارّا من هذا الزمن الرديء »هلال العيد« هكذا نقول بما يعني ذلك من ترقب وانتظار لفرحة قد تجيء وحين يترك العيد »هلالهُ« ويرحل، يدخل طي النسيان فلا مجال إذن للحديث عن الفرحة التي اقترن وجودها بوجوده، لا مجال للحديث عن الزمن فالأشهر والسنوات تتشابه وكأنّ الطيب بوعلاڤ يقرُّ أنّ الإنسان أصبح يعيش خارج دائرة الزمن بفعل الرتابة والالم الذي يحفُّ بكلّ مجالات حياته، أمام كل هذا يخْلص الشاعر إلى حلّ لغربة الانسان فيه حلّ طريف وفيه الكثير من جمالية الصورة وصدق القول حيث يقول: وإن ما لقيت مكانْ خبّي الوجع في ألوانْ وعلى جذْع نسيانْ ارسم وطنْ.. وأحبابْ يكفي وطن.. وإن كانْ في ذاكرة ألوانْ يكفي وطنْ.. وإنْ كانْ في حلم طيْ غيابْ يتحوّل إذن هذا الوطن الى صورة من إبداع الشاعر / الانسان، صورة يبْدعها من جرحه ومن ذاته رسم يشكله من عمقه ويخبّئه في حلم غائب ليظلّ تشكّل هذا الوطن لحظة مستعصية في واقع مليء بالمتناقضات.. زاخر بالاضواء.. حافل بالانكسارات... ولكنّ شاعرنا لا يستكين أبدا تسلمه الرحلة للرحلة وتأخذه الطريق الى ما لا نهاية فحين يسود الصمتْ ويعشش الخوف في الاعماق يعلو صوت الشعر الرافض لهذا الواقع، يقول في قصيدة بعنوان »مطواعْ«. يزيك أولك محتاجْ ثانيك في الصبر نتّاجْ من ڤالك سكاتك تاجْ وصوتك إذا علا ياذيكْ وثلاثْ شربتكْ مجّاجْ ومازال الدّهر يسڤيك. يعرف الحقائق ويكشفها، يلاحظ بعين الشاعر / المبدع ويقف أمام القهر والقمع صامدًا شامخًا، واضعًا يده على موطن الدّاء الكامن في النفوس، محاولاً فكّ رموز اللّغز.. لغز الصمت الذي حيّره وأوجعه طويلاً.. يقول: معروف من سرڤْ كلماتكْ واغتال حرف تحت لهاتكْ واعتاش من رغيف حياتك وثْملْ من عرڤ يديكْ غطيت سيتهْ بسْكاتكْ واليوم لا من يغطيك. إنّها صورة الإنسان المقموع في حريّة فكره وفي حقّّ في حياة كريمة هذا الانسان الذي تحوّل في ظل ظروف معيّنة الى هامش والى رقم مسلوب الإرادة والحقوق، هي صورة العامل الحامل لآهات يوم الحالم دومًا بغد أفضل ولكنّه لا يأتي أفلا يتحوّل الصمت هنا الى جريمة والحياة الى أداة إضافية للقمع والخوف، موت بطيء يمارسه الانسان عن قصد أو عن سهو لا فرق... يقول الطيب بوعلاڤ: ڤول الكلام الماضي ما عادْ حالْ الناس تلڤى بيه واحد راضي حتى لْ كانوا يهوشوا... بمليانهم. بالفاضي صارت »نعم« في صوتهم متكفنة في »لاَلهْ« واحد يهدي والجهد مهدود واحد ماضي في البيع... حتى نخوته.. تباعت بلاش دلالة والخوف كاس، على الندامى يدور.. ومحفل فاضي وكلمة تقالت: يا حياة الخوف.. يا ڤتالة تقرأ للطيب بوعلاڤ فيقودك بأسلوبه وجمالية صوره وجرأته على فضح وكشف المسكوت عنه الى عالمه، يحرّك كل السواكن فيك ويربكك أيّما إرباك، تقرأ له فيوجعك كمّ الوجع فيه.. وكأنما يشرع لك نوافذ جرحه لتدخل لتصبح جزءً منه، لتسْكنه.. تلج عالمه فتجدّ بعضا منك في ثنايا كل قصيدة من قصائده.. لتخلص في النهاية إلى أنّك مبثوث داخل شعره، موزّعٌ فيه.. وكأنّما كل قصيد هي حالة من حالات الشاعر وحالة من حالات القارئ أيضا، هي تعبيرة عما يتمخّض داخله هي شيء منه، وحين تعرف الطيب بوعلاڤ تكتشف للوهلة الأولى أنّه يعيش الشاعر فيه بإمتلاء ذلك الشاعر المتمرّد الرافض لكل سلطة.