إنّ السباحة فن الفنون لأنها تساهم في صقل جسد المرء وتهذيبه وجعله أكثر رشاقة وصلابة. فهي تمتّن عضلات الصّدر والبطن والساقين واليدين. وعلاقتي وطيدةٌ بالسباحة والبحر فقد ولدتُ قرب البحر واكتشفته في الثانية عشرة من عمري. ثمّ انتقلت بعد عامين للعيش في مدينة بحرية مع أهل لي. تعلّمت السباحة وأنواع حركاتها وأحببتُ البحر كما لم أحبّ شيئا من قبل ومن بعد. وحلمتُ ملايين المرات أن أكون رياضيا في اختصاص السباحة والدراسةفي معاهد وكليات الرياضة. حلمت أكثر من مرّة أن أتسابق مع السباحين وأغلبهم بساقيّ ويديّ ورئتيّ وقصبتي الهوائيّة التي سميتها فيما بعد قصبة الرّوح. حلمتُ أن أزور كلّ أحواض السباحة في العالم وأقيس سرعتي بالدقائق والثواني وأعشار الثواني لأفوز بالميداليّات الذهبية والفضيّة والبرونزيّة. لكني كنتُ أشعر في قرارة نفسي وسويداء قلبي (الذي شرحه الماء ولم تشرحْهُ السّكين) أنّ الميداليات قليلة واشترطتُ أن تكون ثمّة ميداليات أخرى للفائزين بما بعد المرتبة الثالثة مثل الميدالية الخزفية والميدالية النحاسية والميدالية العاجية والميدالية البلاستيكية والميدالية الورقيّة والميدالية الحديدية والميدالية البلّورية والميدالية الخشبيّة والميدالية القزحيّة (من ألوان قوس قزح) والميدالية الهوائيّة والميدالية الترابية والميدالية النارية والميدالية المائيّة.. إلخ من الميداليات المصنوعة من مادة مّا، تعود الى العناصر الطبيعية باعتبار الميداليات مصنوعة بلا شكّ من إحدى المواد أو العناصر وصولا إلى الحجر والكلس والجير والملح والقشّ والقماش... يجبُ أن يفكّر الجميع إذن بالسّباحة والحصول على إحدى الميداليات والمشاركة بجديّة في هذه المسابقات الجميلة التي يخوضها السباحون الجبابرة في المياه العذبة أو المالحة أو الباردة أو الدّافئة. وإنّي أحتارُ حقّا ماهي الميدالية التي يجبُ أن أفوزبها مع المتسابقين فهم يوم الامتحان »في هرج ومرج« »كأنّ على رؤوسهم الطّير« أو كأنّ »ديكًا باض بيضته الاولى أو دجاجة حاضتْ حيضها الأوّل« أو كأنّ »بغْلةً وضعتْ حمْلها« أو كأنّ »سفينة نُوح حملتْ أزواجهاوفراداها!«. أحتارُ حقّا ما الميدالية التي أحلمُ بوضعها حول رقبتي أمام مئات المصوّرين ومئات الكاميراوات؟ ما الميدالية التي ستختارها قصبتي الهوائيّة من بين ميداليات كثيرة لا تقلّ قيمة عن الذّهب والفضّة والبرونز؟ ما الميدالية التي سأختارها وأهلي يهتفون مع الجماهير حول أحواض السباحة: يحيا الماءُ، يحيا الماءُ! أبقى اللّه لك رئتيك وحفظ قصبتك الهوائيّة! وساعة ترفعُ الراياتُ خفّاقة عالية بين رايات الأُمم والشّعوبُ سأغمض عينيّ والفرحة تملأ قلبي وتجعل سويداء قلبي منديلا أبيض يلوّح للجميع وستهطل الموسيقى رذاذًا وسأحلم أنّني صرتُ فراشةً بين الجموع! سأختارُ ميدالية من الحجر حتّى أبني بيوتا للنّائمين ليلاً في الحدائق. سأختارُ ميدالية من الخشب حتى يجلس المتعبون مساء ليشربوا ماء للرّوح ويأكلوا بيضا مسلوقا وحمصا مطبوخا متبّلا. سأختارُ ميدالية من القماش حتّى تصنع العجائز للأطفال قمصانًا، بأصابع مليئة بالإبر والخيوط. سأختارُ ميدالية بلّوريّة حتّى يرَى الناس وجوههم في الصّباح قبل الكدّ والعمل وفي المساء بعد شراء الخبز والحليب. وسأختارُ ميداليات لاحصر لها أسمّيها الينابيع! من رأى منكم ميدالية يوم سباق في حوض سباحة تحوّلت الى ينبوع أو حتى إلى حلم فراشة!؟ هل رأيتم ميدالية تحوّلت الى ينبوع ساخن في ليالي الصّقيع؟ ربّما... لكن على الجميع أن يرفع ميداليته التي تنتظره، لأنّه حتمًا، بعد أن يعود بميداليته، سيحمل على الأعناق وسيكون في استقباله المجْدُ! (...) بعد أن كتبت أوّل سطر من أوّل قصيدة، لم أعدْ أحلمُ بأن أكون سبّاحًا. هجرتُ أحواض السّباحة وتركتُ البحْر ثمّ أقمتُ في هوّة سحيقة! لكن أنّى لك أن تحلم في أرض ضيّقة مثل هذه الأرض!؟ فليس ثمة أحواض ماء بل أحواض وحْل وبنزين!