الرائد الرسمي.. صدور تنقيح القانون المتعلق بمراكز الاصطياف وترفيه الأطفال    الرئيس الايراني.. دماء أطفال غزة ستغير النظام العالمي الراهن    "حماس" ترد على تصريحات نتنياهو حول "الاستسلام وإلقاء السلاح"    ماذا في لقاء وزير السياحة بوفد من المستثمرين من الكويت؟    القيروان: حجز حوالي 08 طن من السميد المدعم    تصفيات كأس العالم 2026.. الكشف عن طاقم تحكيم مباراة تونس وغينيا الإستوائية    6 علامات تشير إلى الشخص الغبي    هام/ مجلس وزاري مضيّق حول مشروع قانون يتعلق بعطل الأمومة والأبوة    البرمجة الفنية للدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي محور جلسة عمل    ذبح المواشي خارج المسالخ البلدية ممنوع منعًا باتًا بهذه الولاية    عاجل/ قتلى وجرحى من جنود الاحتلال في عمليتين نوعيتين نفّذتهما القسّام    اختفى منذ 1996: العثور على كهل داخل حفرة في منزل جاره!!    شوقي الطبيب يُعلّق اعتصامه بدار المحامي    وزير الفلاحة يفتتح واجهة ترويجية لزيت الزيتون    للسنة الثانية على التوالي..إدراج جامعة قابس ضمن تصنيف "تايمز" للجامعات الشابة في العالم    عاجل : مطار القاهرة يمنع هذه الفنانة من السفر الى دبي    دراسة : المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    هل الوزن الزائد لدى الأطفال مرتبط بالهاتف و التلفزيون ؟    تونس تصنع أكثر من 3 آلاف دواء جنيس و46 دواء من البدائل الحيوية    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    بن عروس: جلسة عمل بالولاية لمعالجة التداعيات الناتجة عن توقف أشغال إحداث المركب الثقافي برادس    العجز التجاري يتقلص بنسبة 23,5 بالمائة    تعرّف على أكبر حاجّة تونسية لهذا الموسم    عاجل/ السيطرة على حريق بمصنع طماطم في هذه الجهة    نبيل عمار يشارك في الاجتماع التحضيري للقمة العربية بالبحرين    الإعداد لتركيز نقاط بيع نموذجية للمواد الاستهلاكية المدعمة بكافة معتمديات ولاية تونس    منطقة سدّ نبهانة تلقت 17 ملميترا من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    أعوان أمن ملثمين و سيارة غير أمنية بدار المحامي : الداخلية توضح    تفاصيل القبض على تكفيري مفتش عنه في سليانة..    سوسة: تفكيك شبكة مختصّة في ترويج المخدّرات والاحتفاظ ب 03 أشخاص    الخميس القادم.. اضراب عام للمحامين ووقفة احتجاجية امام قصر العدالة    كل التفاصيل عن تذاكر الترجي و الاهلي المصري في مباراة السبت القادم    وادا تدعو إلى ''الإفراج الفوري'' عن مدير الوكالة التونسية لمكافحة المنشطات    كأس تونس: تحديد عدد تذاكر مواجهة نادي محيط قرقنة ومستقبل المرسى    فتح تحقيق ضد خلية تنشط في تهريب المخدرات على الحدود الغربية مالقصة ؟    مطار قرطاج: الإطاحة بوفاق إجرامي ينشط في تهريب المهاجرين الأفارقة    الرابطة الأولى: الكشف عن الموعد الجديد لدربي العاصمة    منحة استثنائية ب ''ثلاثة ملاين'' للنواب مجلس الشعب ...ما القصة ؟    أول امرأة تقاضي ''أسترازينيكا''...لقاحها جعلني معاقة    باجة: خلال مشادة كلامية يطعنه بسكين ويرديه قتيلا    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة ..«عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    مدنين: انقطاع في توزيع الماء الصالح للشرب بهذه المناطق    تونس: 570 مليون دينار قيمة الطعام الذي يتم اهداره سنويّا    بادرة فريدة من نوعها في الإعدادية النموذجية علي طراد ... 15 تلميذا يكتبون رواية جماعية تصدرها دار خريّف    مبابي يحرز جائزة أفضل لاعب في البطولة الفرنسية    برشلونة يهزم ريال سوسيداد ويصعد للمركز الثاني في البطولة الإسبانية    أخبار المال والأعمال    مع الشروق ..صفعة جديدة لنتنياهو    الاحتفاظ بنفرين من أجل مساعدة في «الحرقة»    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    عشرات القتلى والجرحى جراء سقوط لوحة إعلانية ضخمة    نابل..تردي الوضعية البيئية بالبرج الأثري بقليبية ودعوات إلى تدخل السلط لتنظيفه وحمايته من الاعتداءات المتكرّرة    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب:« الدر ومعدنه» للأستاذ عدنان المنصر
بقلم : سالم الحداد
نشر في الشعب يوم 08 - 01 - 2011

ظهرت في السنوات الأخيرة عديد الدراسات الجادة التي اشتغل فيها مؤلفوها على مسيرة الحركة النقابية في تونس. ومن هذا الاهتمام المتزايد يمكن أن نستخلص مجموعة من النتائج منها :
❊ أولا : ظهور شريحة من المثقفين قريبة حسا ومعنى، انتماء ووعيا من الكادحين، أدركت فاعلية الحركة النقابية في التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها تونس طوال القرن الماضي عبر محطاتها الثلاث ودورها في الماضي والحاضر والمستقبل في ترسيخ الحس الوطني وفي تنمية الوعي بالديمقراطية خيارًا مجتمعيّا .
❊ ثانيا: تميز هذه الدراسات بجرأة غير معتادة في تناول العلاقات المتوترة بين الأحزاب والحركة النقابية، حيث تخلص أغلب الباحثين من الأفكار المسبقة التي كان يُروّج لها النظام حول انحراف النقابات عن مهامها التي رسمها هو لها مسبقا، مجاراة للسائد أو خوفا من ردود الفعل.
❊ ثالثا: محاولة الباحثين المواءمة بين الصبغة الأكاديمية لصرامة البحث العلمي وضرورة تفعيل القاعدة الشعبية العريضة وخاصة النقابيين مع دراساتهم حتى لا تبقى في رفوف مراكز الأبحاث أو في رفوف المكتبات العمومية وهذا حتم على الدارسين التخلص من عقدة الكتابة باللغة الفرنسية و الإقدام على الكتابة باللغة العربية، لغة الجماهير الشعبية .
في هذا الإطار يمكن أن نُنَزّلَ القراءة التاريخية التي نهض بها الأستاذ عدنان المنصر للعلاقة بين الحزب الدستوري الأول ( اللجنة التنفيذية) والحزب الدستوري الثاني ( الديوان السياسي) والحركة النقابية عبر المحطات الثلاث طوال القرن العشرين. وهي قراءة تحليلية مختزلة ومكثفة تطلبت من المؤلف جهدا غير يسير حتى يقدم نصا نقديا عميقا في تحليله جريئا في مواقفه، وبذلك أمكن للمؤلف أن يقدم نصا تاريخيا يستجيب لصرامة البحث العلمي من ناحية، وفي متناول النقابيين من ناحية أخرى. وهذا ما يدعو المهتمين بالشأن النقابي إلى أن يتناولوا هذا الأثر بمزيد من النقد والتحليل حتى يبلوروا عديد الإشكالات النقابية والسياسية التي كانت محل تجاذب بين النظام والحركة النقابية وأحيانا يتحول التجاذب إلى مكابدة نقابية يومية بل إلى صراع انتُهِكَتْ فيه حرمة المنظمة واسْتُبيحَتْ فيه دماء النقابيين.
وفي هذا السياق تندرج هذه المساهمة التقييمية لهذا الأثر وهي تتناول ثلاثة مراكز اهتمام: الجانب الشكلي والجانب المنهجي والمضامين .
❊ على مستوى الشكل:
أولا العنوان : الدر ومعدنه يحيلنا هذا العنوان على مثل عربي شائع هو »عاد الدر إلى معدنه« وهو عودة الفرع إلى الأصل،و قد استعمل هذا المثل مرتين على الأقل ، المرة الأولى على لسان بورقيبة بعد أحداث 26 جانفي1978 والثانية على لسان مزالي سنة 1985 مع ظهور الشرفاء ، فهو مقترن بضرب الاتحاد العام التونسي للشغل وإعادة احتوائه وإدخاله قهرا بيت الطاعة. فموقع المنظمة الشغيلة في نظر الحزب الحاكم هو تحت مظلة النظام وحزبه . تلك هي القاعدة أما الاستثناء فهو استقلالية القرار النقابي. والواقع أني لم أتبين خلفية هذا العنوان في تحديد العلاقات المتوترة بين الأحزاب والحركة النقابية التي تراوحت بين الاستقلالية والتبعية. هل يعتبر الاتحاد درا والحزب معدنا؟ هل هي علاقة الأصل بالفرع؟
ثانيا الغلاف : صورة لشخصيتين كارزميتين : بورقيبة رمز للعمل السياسي وعاشور رمز للنشاط النقابي، وجها لوجه ، فصورة الرجلين وخلفيتها بما فيها من طاولة وكراس وأثاث وأشخاص تشي بالحيز الزمني الذي لا يتجاوز أواسط الخمسينات أو بداية الستينات وبحيوية الشخصيتين اللتين كانتا في حالة تناغم وإن كنا لا نعرف ماذا وراء الأكمة. فكما حمل العنوان غموضا في نوعية العلاقة بين الدر ومعدنه، جاءت الصورة غامضة كذلك. فحياة الرجلين تراوحت بين الوئام والصدام ، بين التجانس والصراع بين الانصياع ولتمرد.
ثالثا لغة النص :صياغة سهلة مبسطة، بعيدة عن جفاف الأسلوب العلمي الأكاديمي، تشي برغبة صاحبه في الإبلاغ والإقناع .
لكن هذا النجاح في تحقيق التواصل المعرفي لا يمنع من لفت النظر إلى بعض النقاط منها :
❊ جاءت العبارة مكثفة ومختزلة حاملة لعدة دلالات ومُحيلة على عدة مفاهيم وأحداث، ليس بإمكان القارئ العادي غير المواكب لمسيرة الحركة النقابية أن يفهمها ويستوعبها بيسر رغم سلاسة أسلوبها لتركيز الكاتب على الأفكار دون الأحداث.
❊ إن أي نص سواء كان مخطوطا أو مرقونا بالراقنة أو الحاسوب لا يخلو من بعض الأخطاء العادية التي لا تحول دون فهم النص ومتابعته والاستفادة منه.
❊ ضرورة التثبت من تواريخ بعض الأحداث المفصلية. وعلى سبيل الذكر لا الحصر أشير إلى :
❊ أن مؤتمر الحزب الدستوري الثاني ( الديوان السياسي) المنعقد في صفاقس كان بتاريخ 15 نوفمبر 1955 وليس في شهر أكتوبر ( انظر ص143 ).
❊ إن المؤتمر الذي تولى فيه عاشور أمانة الاتحاد هو المؤتمر التاسع وكان بتاريخ 28 مارس 1963 وليس سنة 1960، وذلك بتحالف مع ابن صالح ضد أحمد تليلي (انظر ص 104)
❊ أن الميثاق الاجتماعي كان بتاريخ 19 جانفي 1977 وليس سنة 1976(انظر ص 147).
المنهجية:
لم يتبع الباحث السيرورة التصاعدية لاستعراض تاريخ الحركة الحركة النقابية بداية من جامعة عموم العملة التونسية الأولى فجامعة عموم العملة التونسية الثانية وصولا إلى الاتحاد العام التونسي للشغل ، فقد تجنب الطريقة السردية وركز اهتمامه على ثلاثة إشكالات محورية، قسم على أساسها الكتاب إلى ثلاثة فصول هي :
❊ الفصل الأول موقع الحزب الدستوري ( الأول والثاني) من تجارب التأسيس الثلاث.
❊ الفصل الثاني من محاولة الاحتواء( بل من محاولات الاحتواء) إلى الصدام.
❊ الفصل الثالث موقع البرامج من الصراعات الحزبية النقابية في الدولة الوطنية.
ثم أضاف إليها شهادتي شخصيتين مختلفتين سياسيا لكن ليستا متباعدتين إيديولوجيا : أحمد بن صالح الأمين العام الأسبق للاتحاد ورائد التعاضد في الستينات ومحمد الصياح مدير الحزب الدستوري السابق والناطق باسم البورقيبية. وكلاهما تعكسان وجهة نظر صاحبها وبعض أوجه الصراع الذي عرفه النظام من الداخل في تلك المرحلة من تاريخ بلادنا.
وقد توخى الباحث الطريقة التحليلية التي تنطلق من الظاهرة ومكوناتها وسياقاتها. واتسمت تحاليله بالخصائص التالية:
أولا ركز اهتمامه على المسائل الفكرية أكثر من تركيزه على الأحداث بل على حسابها أحيانا. لكن هل من سبيل لفهم الفكرة دون اقترانها بالأحداث التي أفرزتها. وعلى سبيل المثال هل بوسعنا أن نفهم استقلالية العمل النقابي بمعزل عن المحاولات التدجينية الناعمة أو العنيفة التي عمدت إليها السلطة الفرنسة زمن الحماية وتوخاها النظام مع دولة الاستقلال؟ وهل بإمكاننا أن ندرك الأسباب الكامنة وراء إزاحة ابن صالح سنة 1956 دون أن نتعرف على الخلفية الإيديولوجية للمنظمة الشغيلة وعلى الخلفية الإيديولوجية للحزب الحاكم ؟ وقد وُفّق الكاتب إلى حد بعيد في الربط بين الفكرة والحدث وهذا يدعونا الى التفكيرفي نوعية الكتاب هل تأريخ للحركة النقابية أم هو قراءة في إشكاليات الحركة النقابية ، وهو الأقرب.
ثانيا حرص على الربط أيضا بين الأفكار والأحداث من ناحية والسياقات التاريخية من ناحية أخرى، فمفاهيم كثيرة يمكن أن تكون مرفوضة أو مستهجنة إذا أُخرجت عن سياقها التاريخي أو إذا أُسقطت إسقاطا. فالاستقلالية لم تأخذ حجمها السياسي إلا في السبعينات حيث ترهل الحزب الحاكم وتمتن نسيج الاتحاد وتعمقت الفوارق الاجتماعية، فلم يعد بإمكان بورقيبة أن يزيح الأمين العام بإيماءة أو بهاتف كما فعل مع ابن صالح سنة 1956 ومع عاشور سنة 1965 مما اضطره إلى تسخير الميلشيا وقوى الأمن والجيش. فالسياقات التاريخية اختلفت والتوازنات اختلت.
ثالثا لبلورة الثوابت مع كل الأزمات كان يعمد إلى المقارنة بين الأحداث فيقيس الشاهد على الغائب ويرتد من الحاضر إلى الماضي، ويقفز من الماضي إلى الحاضر، من التجربة الأولى إلى التجربة الثانية من الحزب الدستوري الأول إلى الثاني دون تحامل أو قناعات مسبقة مفروضة ودون أن ينسى استخلاص الأفكار المحركة للفعل النقابي ورد الفعل الحكومي والآليات التي ينتهجها الطرفان.
مضامين الكتاب:
اختزل المؤلف مسيرة الحركة النقابية خلال القرن العشرين في ثلاث مسائل، أحاول أن أن أقدمها بشكل مبسط حتى أسهل على نفسي مناقشتها:
1 التأسيس والاستقلالية من الحماية إلى الدولة الوطنية.
2 أساليب تدجين المنظمة الشغيلة ، وهي تتراوح بين الاحتواء الناعم والسيطرة المباشرة.
3 البرامج الاقتصادية والاجتماعية ودورها في الصراع بين الحزب الحاكمة والنقابات.
❊ الفصل الأول التأسيس والاستقلالية:
في هذا الفصل تعرض الكاتب إلى الإشكالات التي ميزت العلاقة بين الحزب الدستوري الأول والثاني من ناحية والحركة النقابية من ناحية أخرى عبر ثلاث محطات:
1 جامعة عموم العملة التونسية بقيادة محمد علي والحزب الدستوري الأول سنة 1925 / 1924.
2 جامعة عموم العملة التونسية بقيادة بلقاسم القناوي والحزب الدستوري الثاني سنة 1938 / 1937
3 الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الدستوري الثاني زمن الحماية وفي دولة الاستقلال 1987 / 1946.
وقد وُفّق الكاتب في استعراض المحطات الثلاث للحركة النقابية، وأعطى للحزبين الدستوريين دورا في التأسيس، وفي تقديري فإنهما بعيدان كل البعد عن هذه العملية، إنهما لم يكونا في القاطرة بل ركبا العربات المجرورة، فالمتابع لمؤتمرات الحزبين منذ التأسيس وما صدر عنهما من قرارات وتوصيات لا يعثر على ما يوحي بإسناد أي دور للشغالين في كفاحهم الاجتماعي أو السياسي، وحتى المناضلين الحزبيين الذين التحقوا بالقافلة لم يتحركوا بتوجيه من قيادة الحزب.
فالجامعة الأولى انطلقت من إضراب عمال الرصيف الذين طرحوا قضيتهم على محمد علي الذي كان يروج لتكوين تعاونية اقتصادية، فتلقف الفكرة التي سرعان ما تحولت إلى مشروع نقابي، كان الدستور الأول من أبرز مناصريه ثم التحق الحزب الشيوعي الذي كان يعمل ضمن استراتيجية الأممية العمالية الحمراء(1921) . ولما اشتدت عليه ضغوط نأى بنفسه عنها دون أن يتنكر لها.
وقد بادر علي القروي بالإعلان عن تأسيس الجامعة الثانية سنة 1936 وهو رفيق محمد علي، العائد توا من المنفى في اجتماع لليسار بمناسبة إحياء الثورة الفرنسية 14 جويلية، وقد تعثرت محاولته الأولى لبعده عن قواعده، وكان يتحدث بكل وضوح عن استقلالية العمل النقابي ثم تجسمت الجامعة مع إضراب عمال العربات المجرورة بقيادة القناوي في 27 جانفي1937 .
طوال المرحلة السابقة لم تتدخل قيادة الحزب الثاني لأنها كانت في تناغم مع الجبهة الشعبية الحاكمة في فرنسا وممثلها المقيم العام في تونس أرمون غيون وبقيت تراقب عملية التأسيس عن بعد، ولما ساءت العلاقة وتنكرت الجبهة لوعودها تذكرت قيادة الحزب الدستوري الثاني أن هناك نقابة وطنية فيها عناصر دستورية يمكن توظيفها في استعراض العضلات.
وما كان للاتحاد العام التونسي للشغل أن يتأسس في تلك المرحلة على الأقل لو نجح حشاد في مؤتمر الاتحاد الإقليمي التابع للجامعة العامة للشغل UD CGT بتاريخ 19 / 18 مارس 1944 الذي سيطر فيه الشيوعيون 17/21 ، فهذا الفشل هو الذي دفع حشاد ورفاقه الى تأسيس اتحاد عمال الجنوب، ثم وقع إقناعه بالتحول إلى العاصمة التي كانت تزخر بنشاط منظمات المجتمع المدني بما فيها الجمعية الخلدونية ورئيسها الشيخ الفاضل . فشجعته كل الفعاليات وخاصة محمد الري الكاتب العام لنقابة عمال الرصيف لسنة 1924 على توسيع عملية التأسيس . وهكذا تكوّن الاتحاد بعيدا عن الأحزاب السياسية الوطنية وعن الشيوعيين والاشتراكيين.
أما الاستقلالية فلا يمكن أن يكون للحزبين نفس الرؤية ونفس الممارسة، فالدستور الأول هو أقرب إلى الأحزاب الليبرالية التي تؤمن بالتعددية وقد تواجد معه الحزب الإصلاحي الذي انشق عنه وتعاون معه، و كان يرغب في الاستفادة من الجامعة لكنه لم يفكر في احتواء رغم أنه قدم لها الدعم المادي والمعنوي، وعندما تعرض لضغط السلطة انحصر موقفه في تقديم نصيحة بالمحافظة على الوحدة النقابية والانضمام للجامعة العامة للشغل ، ولم يتوقف دعمه للعناصر الموقوفة حتى وهي في السجن، وكان يعتبر محمد علي وطنيا حتى وإن لم يتفق معه في طريقة العمل. أما الدستور الثاني فإنه على غرار الأحزاب النازية والأحزاب الشيوعية التي تأثر بأسلوب عملها دون إيديولوجيتها يعتقد أنه »حزب الأمة جمعاء« وهذا يقتضي احتكار الحياة السياسية وإزاحة غيره من الأحزاب، واحتواء كل المنظمات الاجتماعية والثقافية. وفي هذا المضمار يتنزل نزاعه مع الثعالبي ومنعه من القيام بجولات داخل المملكة ثم سيطرته على الجامعة النقابية الثانية بالعضلات المفتولة.
والآلية التي يمكن استنتاجها هي أنه كلما كانت العلاقة بين السلطة الفرنسية والحزب جيدة فإن الحزب يهمل النقابة وكلما ساءت يقترب منها ويحاول أن يوظفها.
❊ الفصل الثاني أساليب تدجين المنظمة الشغيلة:
في هذا الفصل اهتم الكاتب بالمواقف السلبية التي وقفها الحزبان الدستوريان من الحركة النقابية، فالدستور الأول تخلى عن جامعة محمد علي التي بدت له مطالبها وخاصة تصريحات محمد علي حول الاستقلال و تغيير أساليب النضال سابقة لأوانها محرجة ومتجاوزة لمطالب الحزب أما دولة الحماية فقد اعتبرت النقابة متطرفة وتسيء إلى العلاقة بين الحكومة الاشتراكية والحركة الوطنية. غير أن هذا التخلي لم يكتس صبغة عدوانية، فالحزب الذي كان في وضع لا يحسد عليه اكتفى بتقديم نصح للجامعة حتى تحافظ على وحدة الشغالين وتنضم إلى جامعة الشغل.
أما الحزب الدستوري الثاني فقد أراد أن يستفيد من التجربة الأولى فعمل على الاقتراب أكثر من الجامعة الثانية وافتكاك النقابة من خلال القيام بعملية انقلابية غير شرعية لأنها رفضت مسايرته في مخططاته وهذا ما أفضى إلى موت هذه التجربة في المهد.
نفس الأسلوب مارسه الحزب الدستوري لما تسلم السلطة، وكان ينتهج عدة طرق لشل الحركة النقابية وتحجيم دورها منها:
1 الحملات الدعائية الممنهجة:
وهو ما قام به بورقيبة نفسه في المؤتمر السادس فقد استغل موقعه زعيمًا في أوج شهرته فقطع زيارته لفرنسا وألقى خطابا حمل فيه على البرنامج الاقتصادي الاجتماعي الذي أعده الأمين العام صحبة نخبة فكرية وطنية، متهما إياه بالشيوعية وكان الهدف منه إسقاطه في الانتخابات.
وصارت الحملات الدعائية ضد الخصوم النقابيين طريقة معتادة يلتجئ إليها في محاربة المنظمات النقابية كلما رام تغيير قيادتها.
2 النقابات الموازية:
عندما تفشل الحملة الدعائية ، يوعز لبعض أنصاره في النقابات بتشكيل نقابات موازية يؤكد بها وجود معارضة نقابية ويهدد بها بَدَائِلَ عن النقابة الشرعية. غير أنه سرعان ما يتخلى عنها عندما يتمكن من تدجين النقابة الأم فهو يخشى أن تصبح التعددية تقليدا ديمقراطيا، وهذا ما حصل سنة 1956 عندما أوعز لعاشور بتأسيس الاتحاد التونسي للشغل وكذلك عندما هدد النظام بتأسيس القوى الشغيلة قبيل أزمة 26 جانفي1978.
3 استعمال العنف:
عندما يفشل الأسلوبان السابقان يلتجئ إلى الأسلوب الأمني فيوظف المليشيا الحزبية وقوى الأمن والجيش الوطني للسيطرة على المقرات واعتقال القيادات وقمع الجماهير العمالية وهذا ما حصل في أحداث 26 جانفي، وهي أول مرة يقع فيها إقحام الجيش الوطني في قمع التحركات الشعبية.
4 تنصيب نقابات موالية:
بعد عملية تدجين المنظمة بالعنف ينصب النظام على رأسها ثلة من أولياء نعمته ، يدينون له بالولاء ويستجيبون لرغبته ويسايرونه في كل مواقفه. ذاك ما وقع سنة 1978 عندما أزاح القيادة الشرعية ونصب مجموعة التيجاني عبيد. ولم يشر الكاتب إلى ما حصل أيضا سنة 1965 عندما أبعد النظام عاشور وسجنه ثم نصب والي المدينة البشير بلاّغة أمينا عاما، ولم يذكر أيضا أزمة 1985 عندما زج بعاشور في السجن مفسحا المجال أمام الشرفاء.
الفصل الثالث: دور البرامج الاجتماعية والاقتصادية في الصراعات النقابية الحزبية:
في هذا الفصل تعرض الكاتب إلى دور البرامج الاجتماعية والاقتصادية في الصراعات التي دارت بين المنظمة النقابية والنظام وقد اهتم خاصة ببرنامجين:
أولا البرنامج الاشتراكي الاجتماعي الاقتصادي لسنة 1956.
مع فجر الاستقلال لم يكن الحزب الذي سلمته فرنسا السلطة يملك أي تصور لمستقبل تونس، فهو لم يستطع أو لم يرد أن يعد برنامجا لتونس الغد، خلافا للمنظمة الشغيلة التي وضعت في المؤتمر الرابع (1951)الأسس الأولى لمشروع تنموي ، بلوره أحمد بن صالح في المؤتمر السادس سنة 1956 وقدمه مشروعًا مستقبليًا متكاملاً ، وقد رفضه بورقيبة متهما صاحبه بالشيوعية، انطلاقا من قناعته الليبرالية. فقد كان برنامج الاتحاد مصدر تخوف السلطة من أن يتمكن من ابتلاع الحزب المفرغ من أي رؤية.
وقد دفعه تخوفه من المنظمة الشغيلة ومن هذا البرنامج ومن صاحبه إلى نتيجتين :
1 إزاحة الأمين العام عن الساحة النقابية بعد ثلاثة أشهر من انتخابه ، وبطريقة لاأخلاقية حيث كان بالمغرب الأقصى في سعي الى توحيد نقابات عمال المغرب العربي.
2 إسناد المسؤولية إلى أحمد تليلي وهو أشد ولاء للحزب ولبورقيبة.
ثانيا المسألة الاجتماعية الاقتصادية وأزمة 26 جانفي 1978.
بعد فشل التجربة التعاضدية اختار النظام في السبعينات سياسة الانفتاح الاقتصادي فظهرت شريحة طفيلية من الرأسماليين مهمتها أن تربح أكثر ما يمكن في أقصر وقت ممكن، فتعمقت الفوارق الاجتماعية بين الطبقات وتفاقمت البطالة، فتقدم الاتحاد بمشروع إصلاحي يدعو إلى التوزيع العادل وتقاسم الثروة. هذا البرنامج لم يلق حظا لدى السلطة التونسية التي كان لها مخطط يقوم على تشجيع الرأسمالية لتتولى عملية التنمية مقابل انسحاب الدولة كمستثمر ومشغل . وقد أفضى هذا التناقض إلى أزمة 26 جانفي الدامية.
هذه تقريبا أهم المسائل التي تناولها الباحث في مؤلفه الذي جاء محملا بأهم الإشكالات التي مرت بها العلاقة بين الحركة النقابية بكل فصائلها والحزب الدستوري الأول والثاني ثم السلطة عبر ثلاث محطات طوال القرن العشرين.
وهو جهد جدير بكل تقدير لا لكثرة المعلومات التي قدمها بل لدسامة المعلومات التي كثفها واختزلها وحاول أن يوائم فيها بين الصرامة العلمية وحاجة الكادحين إلى ثقافة عمالية في متناولهم تنمي ثقافتهم وترتقي بوعيهم.
كان هدف الكاتب الأول والأخير شأن كل باث الإبلاغ والإقناع. وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد، انطلاقا من قناعته بدور المؤرخ الذي اختزله في »تلخيص الزمن وتقديم العبر«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.