... ما أشبه 15 جانفي 2011 ب 23 جانفي 52... هذا ما قاله احد الشيوخ الذي هربت به الذاكرة الى الخمسينيات من القرن الماضي عندما انتفضت هذه البلدة على الاستعمار الغاشم الذي اخترق رصاصه ثمانية من ابناء طبلبة البررة ليرديهم شهداء شاهدين على ان الدم وحده المعبر عن عشق الوطن... وما أشبه اليوم بالبارحة على رأي محدثنا... وها هو الدم التونسي يسيل مرة أخرى مع فارق صغير وهو هوية السفاح... هذا السفاح الجديد لا يعدو ان يكون الا من بني الجلدة ومن »بني وطني« ومع فارق ضئيل في عدد الشهداء حيث كان في جانفي 52 ثمانية وستة في جانفي 2011... وهؤلاء الستة كانوا محور زيارتنا الليلية لديار أهليهم التي مازالت تحت طائلة الصدمة والغضب والفرح بالشهادة... ❊ ياسمين... على نرجس... أول محطات رحلتنا برفقة الاخ الصديق الهادي بنور كاتب عام الاتحاد المحلي للشغل بطبلبة كانت في بيت الفقيدة الراحلة والمربية الفاضلة الشهيدة نرجس اسماعيل نويرة التي صادفها المنون على الطريق بين بني خداش ومدنين مساء 13 جانفي عندما كانت متوجهة رفقة زوجها وابنتها الى مدنين لقضاء بعض الشؤون وسحب بعض الاموال من الموزع الآلي حسب افادات زوجها رياض الاستاذ هو الآخر بمعهد الفاضل بن عاشور ببني خداش واصيل الشابة من ولاية المهدية. هذا الاخير أفادنا ايضا بأن الواقعة حصلت عند مدخل مدنين عندما صادفتهم دورية أمنية أمرهم اعوانها بالتوقف. وفعلا امتثل الاستاذ وامر ثانية بالتراجع الى الوراء وفي الاثناء اطلقت النار في الهواء تحت وابل من الالفاظ المتوحشة التي لم ير رياض الاستاذ وزوجته مبررا لها ولم يكن المجال ليسمح بالنقاش ويضيف رياض »عند محاولة تغيير اتجاه السيارة لتصبح زوجتي في مواجهة الاعوان اطلقت علينا النيران ثانية لتخترق الرصاصات الثلاث صدر نرجس التي نزفت على مرأى من الاعوان واسلمت الروح لتبقى الدماء وخصلة من شعرها على البلور!! وبالتحري الفوري مع الزوج عرض عليه انواع من الاسلحة ليتعرف على اي منها مصدر الرصاص وبالتثبت تأكد الاستاذ من النوعية المستعملة والتي ثبت انها من عتاد الحرس الوطني ومما يذكر في عملية استشهاد نرجس ان الرصاص الذي اصيبت به وحسب بعض المصادر من نوع خاص وخطير المفعول وأُحِيلَ مستعملوه في البانيا وكوسوفو على الجنايات الدولية! حسب مصدر طبي عايش الاوضاع هناك... هذا وقد علمنا ان القضية رفعت الى الجهات المعنية تحت عنوان القتل العمد مع الاصرار والترصد. كما علمنا ان ان التقرير الطبي قد يكون اشار الى ان الشهيدة كانت تحمل في احشائها جنينا قضى هو الآخر في الأرحام... ❊ كيد ... واستشهاد... الشهيد الثاني الذي زرنا أهله الذين عم الحزن بيتهم وحارتهم هو احمد محمد كمال ابراهم الذي استشهد في السجن المدني بالمنستير والذي كان نزيله بتهمة كيدية متمثلة في سرقة دراجة ثبت للجميع انه لم يسرقها حسب الشهادات والوقائع التي من بينها ان الدراجة الملعونة عادت الى صاحبها ولا احد يعرف سارقها ومرجعها... ومع ذلك بقي محمد كمال رهن الايقاف لمدة ثمانية اشهر دون تحقيق ولا تحديد موعد جلسة الى ان فارق الحياة تاركا أُمّا ملتاعة رمّلها القدر وأثكلها اللاقانون على حد تعبير السيد علي ابراهم عم الشهيد الذي اضاف »من المحزن ان يسجن ظلما ويموت حرقا، ومن المؤلم والمقزز ان يعرف الناس بأن احد الشهود في قضية الدراجة لمّا صَدَعَ بالحقيقة أودع السجن وهذا الشاهد حي يرزق وقد وضع على ذمة لجنة تقصي الحقائق شاهدا على ما حدث لدى الجهاز الامني وكذلك على احداث السجن!! ❊ حماة ... الحمى محمد علي عزيز (23 سنة) هو الشهيد الثالث موضوع تحقيقنا فهذا الشاب كان من بين شجعان طبلبة الذين تصدوا لأزلام السرياطي، حيث كان من المتصدين لسيارة مشحونة بالقتلة والاسلحة رفقة مجموعة من شباب الحي الذين هبوا بما توفر لديهم من عتاد بسيط (عصي وحجارة) على متن سيارات وشاحنات سقط محمد علي من احداها في احد المنعرجات فدهسته سيارة اخرى لنفس المجموعة المطاردة (اي من ابناء نفس الحي) ورغم محاولة اسعافه الا انه قضى في اليوم الموالي في سبيل بلدته وحيه وبالتالي وطنه وهي جميعها مواصفات شهادة وأعراض نضال لن تقل عن احتسابه شهيدا عند رب العالمين حسب احد الشيوخ المشاركين في مجلس العزاء المقام ببيت الهالك ويبدو ان ملابسات استشهاده (موقع الحادث مرجع نظر الحرس الوطني)، قلت يبدو ان هذه الملابسات حالت دون ادراجه ضمن القائمة التي وجهت الى المصالح المعنية بمتابعة ملفات الضحايا... وذلك حسب افادات والده السيد لطفي عزيز. ❊ محروق لم يحرق كما أسلفنا لم يخل اي بيت من مقاصدنا من قصة مختصرها غصة بما في ذلك بيت المرحوم الشهيد محمد الخنيسي الذي قضى خنقا واحتراقا بسجن المنستير... هذا الرجل ذو ثمانية وثلاثين سنة وأب لثلاث اطفال اكبرهم يبلغ ثماني سنوات أجرى خلالها خمس عمليات جراحية (والحديث عن الطفل) وسادسة في الانتظار على مستوى الكلى والمجاري البولية... قلت هذا الرجل قضى بسجن المنستير حيث كان موقوفا بتهمة »الحرقان والتحريق« حسب افادة صهره الذي هو عون حرس واصبح عمدة... هذا الاخير افادنا ان المرحوم اوقف منذ خمسة اشهر بالتهمة المذكورة اعلاه وذلك بعد ان أرسى مركبه وأوثقه بالميناء وقفل راجعا الى صغاره محمّلا ب »مَرْقته« المعتادة... ولكن ليلتها لم يسلمها الى السيدة »اخلاص« زوجته حيث اقتاده الحرس البحري للبحث والزج به في السجن منذ خمسة اشهر لم يحدث فيها اي شيء حيث لا اعادة بحث ولا شهود ولا تعيين موعد جلسة وكل ذلك حسب أقوال السيد صهره العمدة ليتواصل الحال على تلك الشاكلة الى حد وصول الناعي صباح 15 جانفي الجاري... وهنا تدخلت السيدة اخلاص لتتساءل »حتى لو كان محكوما وهذا غير صحيح، فهو أمانة وتحت مسؤولية ادارة السجون فما الذي فعلته هذه الادارة وما الذي ستفعله لضمان حقوق أرملة اضناها الحزن، وانهكها الفقر والمرض والايام... ويخيفها غول القادم وما يخفيه...«. ❊ من المصحة الى المشرحة تلك هي الرحلة الاخيرة للشاب عبد الحميد بن محمد البدوي (22 سنة أعزب) عندما شاء قدره ان يرافق صديقيه لجلب شقيقة احدهما والتي تشتغل في احدى المصحات الخاصة بالمهدية، ولكن قبل وصولهم وعلى مستوى منطقة سيدي مسعود على مشارف المهدية تعرضت سيارتهم الى وابل من الرصاص من وحدة أمنية كانت تترصد المجموعات الفارة يومها من سجن المهدية... ولكن دون اشارة او انذار حسب ما صرح به المرافقان الناجيان احمد لحمر واسلام عمار لوالد المرحوم الناصر البدوي والسيدة نزيهة والدته... هذا الرصاص اخترق هيكل السيارة واستقر في عبد الحميد الذي ترك فراقه لوعة وحرقة في قلب أم غالبت دمعها فغلبت امامنا وتتوسل ان لا ننسى ولا ينسى اهل الذكر ان »لنا في القصاص حياة« وذاك أمر رب العالمين. ❊ نيران صديقة! هي نيران العساكر التي لم تصب الشابة اليافعة الشهيدة أميرة البدوي بل كانت سببا مباشرا في استشهادها حسب افادة والدها السيد سامي البدوي الذي صرح لنا بأن الواقعة جدت عندما اطلقت دورية عسكرية النيران مما اصاب الاهالي بالفزع والهلع والرعب رعبا أوقف نبض أميرة التي وقعت أرضا لفرط هلعها وصدر عنها زفرة وشخير كان هو سكرة الموت حيث لم يتحمل كيانها الغض ذاك الدوي وذاك الرشق على رؤوس شباب كانوا يرومون زرع أمن فُقِدَ طوال ليال... وللأمانة والتأكيد أصر السيد سامي البدوي على اصلاح بل تكذيب ما أشيع ومفاده ان الجيش هو القاتل والحقيقة التي لا لبس فيها ومثبتة عائليا وطبيا ان الوفاة كانت نتيجة نوبة قلبية... وهو ما لا يحرم السيد سامي وحرمه من شفاعتها يوم الدين طالما هي شهيدة... ❊ هامش للتاريخ... كما جاء في صدر المقال فقد عاشت طبلبة نفس الحال سنة 52 ونقل ايامها منير شما اخبارها على امواج اذاعة لندن... ها هي نفس الاذاعة تنقل نفس الموضوع بعد حوالي ست عقود من نفس المكان وبنفس العدد تقريبا وبنفس عدد الشهيدات (اثنتان في كل واقعة).