من نتائج »الثّورة« أو »الانتفاضة« أو لكلّ ما يشاء أن يصف ما قام به شعبنا العظيم. هو التحرّر الكبير الذي شهده إعلامنا ونوعيّة الخطاب والمضمون الذي انقلب حدّ النقيض. فمن كانوا منذ أسابيع قليلة »أعداء للوطن« و»مناوئين« أصبحوا محلّ ترحيب وحفاوة بل وأصبحوا مصدر سعادة المنشطين والاعلاميين. وعبارات الحريّة والعدالة الاجتماعية والنزاهة والمحاسبة المالية والديمقراطية لم تعد مرتبطة بإنجازات وهمية للنظام البائد وأصبحت توضع في إطارها ضمن حوارات نافذة. وتجاوز الاعلام كلّ الخطوط الحمراء ونزعت القدسية الزائفة عن المسؤولين حتى أصبح الوزير ينتقد في وجهه على الملأ في بثّ مباشر. كلّ هذه المؤشرات وغيرها أنبأت للحظات أنّنا نصنع إعلاما جديدًا ناقلا للحقيقة وملامسا لهموم الشعب وتطلّعاته. ولكن سرعان ما عمّت الفوضى وساهم المشهد الإعلامي في مزيد تشويش الصورة. ومارست بعض الوسائل الاعلامية ممارسات متناقضة من حيث المنطلقات. فطرْدُ ضيف على المباشر وثلْبُ آخر وإلصاقُ التهم بثالث ممارسة لا تستند إلاّ إلى الشرعية الثورية التي لا تملكها هذه المؤسسات الاعلامية ليس لأنّها لم تنخرط في الثورة وليس لأنّها لم تنبس ببنة شفة في ما سبق من تجاوزات وليس لأنّها أشبعتنا حتى التخمة ببرامج الميوعة والفضائح وإنّما أيضا ولأنّها الآن تتحدّث جهرًا في جلّ برامجها عن الشرعيّة الدستورية وشرعية الحكومة وحقّها علنيا في الولاء وواجبنا منحها الفرصة وهو منطق لا يستقيم فإمّا الشرعيّة الثوريّة وإمّا الشرعية الدستورية. والحقيقة أنّهم في الأصل غير معنين لا بهذه ولا بتلك بقدر ما هم معنيون بالحقيقة لأنّها ثوريّة وفاضحة ولا تخدم غير مصلحة الشعب. و»اللّي غلّب عليا« وعلى غالبية الشعب التونسي الكريم أنّ الوجوه المباركة المهلّلة المناشدة المساندة اغتسلت بشعار مساندة »الثورة« لتطلع علينا هي ذاتها ناصحة موجّهة ومعلّمة للديمقراطية وحقوق الانسان والحريّة والعدالة والنزاهة وحسن النيّة. ولتعطينا الدروس في التحضّر والمدنية التي تعني أساسا احترام الحكومة »خاطرها ناس طيّبة« والعودة إلى العمل والاجتهاد وكأنّ استشهاد عثرات الأبرياء حدث بسيط وكأنّ الانتفاضة تحدث كلّ يوم وكأنّ النضال الباسل شعبنا كان من أجل إتاحة الفرصة للحكومة الجديدة وكأنّ شيئا لم يكن. هذه المشاهد والممارسات عكّرت من جديد صفو العلاقة بين المواطن والاعلام التي كادت أن تُبنى على أسس متينة لذلك وحفاظًا على صورة إعلامنا وجوهر رسالته النبيلة يبدو من الضروري مراجعة مضامينه ووجوهه. فأوّلا وقبل كلّ شيء هناك عديد الوجوه التي لابُدّ أن تختفي من المشهد الإعلامي إذ لا يجب الاقتصار على إزاحة الوجوه التي عرفت بمقالات التزكية وتعديد أمجاد النظام السابق وترسيخ ألوهية الرئيس الفار أو تلك التي انخرطت في حملات التشويه ضدّ الأشخاص والأفكار أو تلك الحناجر المأجورة التي دافعت ببسالة عن جرائم النظام السابق بل يجب أيضا إزاحة صنف آخر لا يقلّ خطورة وهو إعلاميو الخرافة والميوعة أولئك الذين انخرطوا لسنوات طويلة طويلة في نشر ثقافة »الحلم بليلة مع هيفاء وهبي« وثقافة الإنصات أقوال المشعوذين والمنجّمين وثقافة »اللّي تخدمو طيعوا واللّي ترهنوا بيعو« وثقافة التحليل الرياضي وثقافة الفضائح والمتاجرة بآلام الناس وقيم الفردية والأنانية. هؤلاء بلّدوا الأذهان وخرّبوا التفكير وخدروا العقول هؤلاء كانوا العامل الرئيسي لفتور المقاومة على امتداد الثلاثة وعشرون سنة الماضية هؤلاء أفرغوا الاعلام من محتواه هؤلاء من يجب ألاّ يكون لهم مكان إذا أرنا أن نصنع إعلاما يرقى إلى مستوى نضال شعبنا. و»باش ما تبقاش في قلبي« أوّد في الأخير أن أعرّج على مسألة الشرعيّة. فالحكومة التونسيّة نتاج لمنطق »الشرعيّة الدستوريّة« حيث أنّها استمدّت وجودها من فصول الدستور إلاّ أنّها تتحدّث عن فترة انتقالية تتجاوز بكثير الفترة المحدّدة دستوريّا وهو ما يبدو خللا عميقًا يستوجب التصحيح لأنّه غير معقول أن تتشكّل الحكومة على قاعدة الدستور وأن تعمل على قاعدة المزاج والتقديرات وفي رأيي المتواضع فإنّ تصحيح الخطأ يبدأ بالانفتاح على كلّ المكونات السياسية دون تأخير. لنتحدّث بعد ذلك عن الشرعيّة التوافقية التي ترضي الجميع.