حرصا منّا على أن يكون للأكاديميين الشبّان دور في رسم التصورات الاقتصادية لبلادنا استضفنا ضمن ملفنا الباحث غازي بن جاب الله المختص في اقتصاد المؤسسات والأستاذ الجامعي لكليّة العلوم والاقتصادية بنابل. ❊ أستاذ غازي كيف تقرأ المشهد الاقتصادي التونسي وماهي السياسة الواجب اتباعها؟ إنّ المتأمّل في السياسات الاقتصادية التونسيّة يلاحظ أنّها لم تكن مطلقا نابعة من خيارات وطنية خاصة بل كانت على الدوام استنساخا لتجارب اقتصادية أخرى عادة ما تكون في البلدان الأوروبية. فبعد خروج المستعمر كان التوجّه الاقتصادي الغالب في العالم يقوم على تأميم المؤسسات الاقتصادية وهو النموذج الذي اعتمد في تونس ثمّ طبقت الدولة سياسة التعاضد التي قادها أحمد بن صالح وهي أيضا تجربة مستوحاة من تجارب أخرى. بعد ذلك تمّ اعتماد نموذج »دولة الرفاه الاجتماعي« في عهد نويرة منذ سنة 1986 سايرت السياسة الاقتصادية التونسية التوجهات العالميّة في الخوصصة. المشكل الذي حصل هو أنّ الدّخول إلى أنّ الخوصصة في تونس لم يكن نابعا من قرار داخلي يستند إلى دراسات موضوعيّة ومنسجمة للواقع الاقتصادي بل كان سياسة مفروضة من الظروف العالميّة وهو ما جعلها مشوّهة وذات نتائج سلبيّة على الاقتصاد التونسي وهو ما خلق ظروفا اجتماعيّة زادها الفساد سوءا ممّا دفع إلى تهيئة الظروف للثورة التونسية. ❊ ما يمكن ملاحظته هو أنّ الاقتصاد التونسي في مفترق طرق فهل سيواصل اتباع التوجهات الليبرالية؟ أم يجب مراجعة السياسة الاقتصادية؟ في اعتقادي أنّ الثورة لم تجب بعد عن هذه التساؤلات رغم بضع الانتقادات في الفضاءات الاعلامية ولكن الحديث كان في المجمل سطحيّا. والحقيقة أنّ القاعدة الاقتصادية تقول إنّ الخوصصة تحقّق نموّا في مستوى العيش (وفقا للأنموذج الليبرالي طبعا). ما حصل هو أنّ الخوصصة في تونس عدا بعض الأمثلة القليلة دمّرت مواطن شغل دون أن تخلق غيرها كما هو منتظر لأنّ عمليّة الخوصصة العادية تعيد هيكلة المؤسسة فتستغني عن عدد من العمّال والمواطنين ولكنّها تخلق في المقابل مواطن شغل جديدة أكثر من العدد المسرّح. وهو ما أكّدته تجارب الخوصصة في العالم. إذن المشكل ليس في عمليّة الخوصصة في حدّ ذاتها وإنّما يكمن في الظروف المحيطة بها. وبالنسبة إلينا باحثينَ في المجال الاقتصادي لا يمكن لنا أن نجزم بأي حكم أو أن نقدّم حلاّ عمليّا نهائيا إنّما لدينا بعض الأفكاروالأطروحات التي تحتاج إلى دراسة وإثباتا. وهنا نصطدم بمشكل حقيقي وهو غياب المعلومة فجميع الدراسات والإحصاءات الخاصّة بالخوصصة وبعدد من المجالات الاقتصادية الأخرى اعتبرت في ظلّ النظام السابق وثائق سرّية وهو شكل واضح لغياب الديمقراطية. وأستغلّ هذا الحوار لدعوة الجهات الرسميّة المعنيّة بإطلاق المعلومة وعدم التكتّم. ففي ظلّ غياب المعلومة الاقتصادية تكون الأحكام ذاتية وإن كانت تحتمل الصواب. ❊ باعتبارك مختصّا في اقتصاد المؤسسات هل تعتبر أنّه من الطبيعي أن تمنح الدولة امتيازات جبائية للشركات دون مقابل اجتماعي؟ المسألة نسبيّة ففي الوقت الحالي مازال اقتصادنا ناشئا مع اتجاه نحو الليبرالية. وهو ما يفترض تدخل الدولة في بعض المجالات ودعم المؤسسات. فمثلا يعتبر البحث العلمي من مسؤوليات الدولة لأن تكفّل الشركات بمصاريف البحث يثقل كاهلها ويمسّ توازنها المالي. أمّا المجال الذي لا يجب أن تدخل فيه الدولة مطلقا هو ما يسمّى بالمجال التنافسي أي مجالات الانتاج التي تشهد منافسة بين الشركات كالصناعة الغذائية أو النسيج. وعموما فإنّي أرى أنّ على الدولة أن تكفّ عن دعم المؤسسات بحجّة خلق مواطن الشغل لأنّ الأصل أن يكون الشغل منتجًا ومساهمًا في نموّ المؤسسة والاقتصاد أمّا تشجيع المؤسسات على فائض التشغيل أو تشغيل أفراد فوق طاقتها سيكون جمهورا من العمّال يعطّلون السير العادي للمؤسسة وللاقتصاد. لذلك على الدولة تشجيع بعث المؤسسات وليس دعم مؤسسات قائمة من أجل التشغيل. وفي علاقة بالمشكل الاجتماعي الناجم عن تخلّص المؤسسات من فائض اليد االعاملة. أعتقد أنّه من الضروري إعادة توظيف فائض اليد العاملة وليس إحالتها على البطالة. ويكون ذلك عبر خلق شبكة لإعادة تأهيل العمّال ودفع خلق المؤسسات. ❊ ماهي الخطوط العريضة لاقتصاد ناجح؟ هنالك من يعتقد أنّ اتّباع تونس لسياسات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي هي المشكل الأساسي للاقتصاد وهو اعتقاد ليس صحيحًا. من ذلك مثلا أنّ أهم وأغلب الانتقادات التي شهدتها السياسة الاقتصادية في تونس أتت من هاتين المؤسستين منذ 2005 واعتبرتا أنّ الخوصصة في تونس علبة سوداء لا يمكن فهمها نظرا إلى غياب المعلومة ما أريد قوله هو أنّ الانطلاق بأحكام مسبقة لن يفيدنا في شيء والمطلوب هو أن يلعب الاقتصاديون دورهم الاقتصادي وهو ما لم يحدث مطلقا في السابق وأغلب من أشرف على تسيير الاقتصاد كانوا غير مختصّين. وأعتقد أنّه من الضروري تكوين لجنة من الباحثين تتوفّر لها كلّ المعطيات اللازمة لتكوين فكرة واضحة حول آفاق الاقتصاد التونسي وإمكانية خلق أنموذج خاص. لذلك أعتبر أنّ الاجابة عن هذا السؤال صعبة وتتطلّب مزيدًا من البحث.