مازلت منذ يوم الرابع عشر من جانفي أعيش حالة عشق استثنائية إذ اصبح كل شيء بهيجا بهيّا شرعيّ الوجود، حتّى الهواء صار أنقى والالوان أشدّ إشراقا لقد بدأت المصالحة مع ذاتي، أصبحت اتنفس بعمق وصارت خطواتي أشد وثوقا وقامتي أكثر انتصابا وحبّى للناس أكثر امتلاء. لم أعد اتحسس وجهي من آثار صفحات نشرة الاخبار الصّباحية والمسائية. استرجعت طلاقتي في الحديث وقلّ استعمالي المحموم لحركات يديّ أثناءه بل أثّر الحدث في اختيار ألوان ملابسي والعناية بمظهري عناية تليق بالخلق الجديد. كنت في المقهى أتوجّس من كل من حولي، ومع بعض الرّفاق خفت أصواتهم لأنّ »كلاب الخليفة« من حولنا ولانّ المخبرين ساهرون ليلا ونهارا! صارت ظاهرة المخبرين والجواسيس الهاجس الدّائم فهذا الجالس قبالتي في »المترو« أو في الحافلة يحدّق فيّ فيتردّد في داخلي صوت خافت »إنّه من المخبرين« وحتى بائع الخبز بسحنته الحارّة الباردة وبائع اللبن الباسم باستمرار وهذا القطّ المسنّ الذي ينظر إليّ بعينين نصف مغمضتين وأنا أغادر المنزل صباحا الى العمل لا يمكن ان تخدعني نظرته المسالمة بل المطفأة كعيون الأسماك الميّتة وهو يرابط قرب حاوية الفضلات في كل الفصول.. ألم يجد غير هذا المكان؟ إنّه مخبر في اهاب قطّ!! وهذا الذي يقف على الرّصيف متصفّحا جريدة لا يمكن أن يكون أذكى منّي فيوهمني أنّه يتابع أخبار الرياضة والرياضيين أو الفنانات والفنانين أو لعلّه ينتظر أحدا ما! هيهات هذه لعبة قديمة مكشوفة!! لقد تخلصت اليوم من ذلك كلّه! تحرّرت من الكابوس أو من »بوتلّيس« يكتم أنفاسي فيجعلني مثل »غريغور سامسا« بطل »كافكا« في »المسخ«! أفلا يحقّ لي الآن الامتلاء بنفسي إلى درجة التطاوس والزّهو و»النظر ورائي في غضب« على حدّ عبارة »شتاينبك«؟ لكن! وما أتعس هذه »اللّكن« تقوم قذى في العين وشوكة في الحلق تجعلني أشفق من أن أحْذَر الفرحَ! هل أتعجّله؟ لقد هرب البليد بطيء الفهم الذي زعم في اللّحظات الاخيرة من استسلامه الشائن وفي استجدائه البائس أنّه »فهمنا« وترك طرودا ملغومة سواء عن »وعي« منه أو دونه هؤلاء والزبانية والازلام وهذه الاذناب إنّ حركاتهم ليست سوى حركات ذبيح تنتهي بالخمود والفشل لكنّ التّوجّس الاكبر آت من الفهم »العام« للثورة! إنّي أخاف أن تكون عند فئات كثيرة منّا مشتقة من »الثور« في هيجانه وتخطيه كلّ الحدود لقد صارت الاضرابات في جلّ القطاعات خبزا يوميا وصرنا نطالب بمصباح علاء الدين ومقولة »كن فيكون«! إنّّه جدير بنا واللّه أن نستحيي من دماء شهدائنا منذ »الفلاڤة« الأبرار إلى شهدائنا الامجاد الذين لم يجفّ دمهم بعد! ألا نذكر أنّنا سليلو حضارات دوّخت الدنيا؟ ألا يشعر التونسي في المناسبات الكبرى أنّه فعلا أخ للتّونسي وسند؟ هل ننسى أنّنا أكدنا تمثّلنا لخير ما تعاقب علينا عبر العصور فكانت الطّينة الطّيّبة لهذا الشعب؟ هل أكون قاسيا إذا استعرت عبارة اخواننا المصريين بمرارة »ناس تخاف ما تختشيش«؟! وإلاّ فما قوافل السّلب والنهب واغتنام الفرص والخروج عن القوانين والنواميس باسم الثورة وباسم »الحريّة« في أبسط التجليّات كأن تصبح الشوارع معارض دائمة لمختلف البضائع حتّى يصبح المرور من »رصيف؟« إلى آخر عملية عسيرة وإلاّ كيف نفسر حركة الجولان المحمومة التي تنتهك فيها أبسط قواعد المرور لغياب شرطته أو حرسه وكأننا أصبحنا مصابين بعمى الالوان فلا نهتم بالمنع والاضواء وكأنّ »وراءنا يوم الحشر«؟! قد يقول البعض إنّي أميّع القضايا الجوهرية وأهتمّ بسفسافها، لذلك أجدني مضطرّا إلى الردّ: إنّ الشؤون التي تبدو »تافهة« ليست سوى صور مصغّرة لكبريات القضايا. إنّ الثوة عمل جماعي يومي، نبنيها معا كلّ من موقعه حتّى نكون جديرين بها وبتونس العظيمة.