لقد تعلمنا أن نحذّر الفرح لعلمنا أنّ خيانته قاسية وأنّ تعجّله أشدّ قسوة ومرارة كمنّنا لنفرط طيبتنا فيما يبدو ولنقاء سرائرنا فيما نزعم ولصدق نوايانا ولوطأة أوجاعنا ولأنّ اللّحظة باعثة على الذّهول أصلا لم يكن لنا الاّ أن نهلّل للثّورة التي طبّقت أصداؤها الآفاق فصفقت لها الرياح والأشجار والسحب والكواكب والأمطار واستبشر بها الأحرار من العرب والعجم والبربر وأكبروا هذا الشعب الذي تشرّب حضاراتٍ شتّى فكان قادرا على الانجاز واستطاع أن يحوّل مجرى التاريخ ويخطّ حروفه بالدّماء. ثمّ أخذت تظهر أصوات من هذا المكان أو ذاك ومن هذه الفئة أو تلك تدّعي أنّها الشرارة الأولى وأنّها القادحة لهذا الانجاز وأنّها صاحبة الفضل والسّبق. وبدأت المزايدات والاستعراضات حتّى «كُفّر» من رفض الايمان العجائزيّ الأعمى بنبوءة صاحب الشّعلة الأولى.. وفي الأثناء تشدّق البعض الآخر من هواة العبارة السّهلة على منابر مختلفة بأنّنا «جميعا». مسؤولون عن كلّ ما حدث لنا قبل الثّورة من استبداد وغبن وقهر! إنّ أصحاب هذا الرّأي هم بكل بساطة ودون مواربة أو تقيّة وبصراحة فصيحة لا نعتذر عنها الانتهازيون والمتواكلون وصيّادو الفرص وهم أعداء الثّورة في الأصول والفروع... لقد قلنا يوما مدفوعين بالتّفاؤل الطّبيعي بالمرحلة الجديدة انّ دماء الشّهداء لن تذهب هدرا وأنّ الثورة قد حقّقت بَعْدُ الكثير. لكن هل كنّا بُلْهًا بَهاليل والبهلول في لغة المعاجم هو السيد الكريم أم كنّا حالمين أم حالمين لفائض من العشق الوطنيّ وهو الاحتمال الأرجح؟ لقد مرّت على قيام الثورة ثمانية أشهر لم نر أثناءها إلاّ إهمالاً فاضحًا للقضايا الأساسيّة التي قامت هذه الثورة من أجلها ولم نر إلاّ التكالب على الأحزاب المتشابهة الأسماء المثّفقة في خواء برامجها إن وجدت وضبابية رؤاها وتهافت مقولاتها. وكثر «المنظّرون» وكلّ يدّعي أنّه حامل خاتم سليمان أو أنّه المهديّ المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلا بعد أن مٌلِّئَت جورًا... لقد ظهر أحد رؤوس بعض الأحزاب ليعلن على الملإ بكلّ سماجة أنّه قادر بالحجّة والدليل على تشغيل خمسة آلاف نسمة دفعة واحدة وبجهود محلّية أو شخصيّة! إنّه كلام حلو وجميل وأنيق.. لكنّ هذا الصّنف من المتحزّبين يتكلّم كثيرا ويكذب أكثر على حدّ تعبير «أحمد فؤاد نجم» ولا تعليق أبلغ... لقد أصبح المجلس التأسيسي الغاية القصوى للثورة وهدفها الأسمى تتكالب على كراسيه الأحزاب القديمة والجديدة. أمّا الأحزاب القديمة فقد عُلّبت طيلة عقود من الزّمان دعك من الأحزاب التّشريفاتيّة على حدّ تعبير أستاذنا الجليل توفيق بكّار وفاجأت الثّورة طروحاتها المتآكلة في خضمّ التغيّرات والأزمات العالمية ومنها ما لجأ أصحابها الى التّرقيع والتخبّط فدبّت الفرقة في الكثير من رؤوس منخرطيها واختار الكثير منها التكتّلات والتحالف وبان أنّه تحالف ظرفيّ غايته اقتسام الكعكة الدّموية! وكثرت الاجتماعات المحمومة والخطب والنّدوات بدعوى أنّ بلادنا تعيش عرسا ديمقراطيّا أو «حنّة أو وطيّة» بالأحرى حتّى يحين موّال اليوم الأكبر يوم الثالث والعشرين من أكتوبر. ويظنّ المتحزّبون من هؤلاء ومن تحزّب خان كما يقرّر صاحب الكتاب الأغبر أنّ لهم رصيدًا نضاليا كافيا يؤهّلهم لاكتساب قاعدة شعبية واسعة تسندهم في اليوم الموعود.. ولم لا يكون ذلك مادام العالم ورديّا؟ إنّ الأغرب من الخيال لدى بعض هذه الأحزاب أنّها ظهرت «جاهزة» منذ فجر الثّورة كلّ منها يدّعي أنّه أكبر ضحايا النّظام السابق بفساده ودمويته وأنّه مسيح مضطهد حمل أوجاعه وصليبه منذ دهور وقد آن أوان الخلاص وحلّ زمن القطاف. فهذا يساري وما أكثر اليساريين بعد الثورة! مغرق في «التّشيّع» لا يتورّع عن رسم شعاره الأحمر على لحاف أبيض لعلّ رمزيته «الفطرة» أو الصّفاء والحكمة والنّقاء! وقد قيل إنّه يذكّر ببعض الأعلام الآسيوية ولا ذاتية له ولا خصوصية. دَأْبٌهٌ الرّفض المطلق وإرضاء الجماهير دَيْدَنُهُ والتّراكم الكمّي الذي لا مجال فيه للإفراز النّوعي غايته.. وآخر هو للأوّل قرين وبينهما وشائج نضالية يعرض العنصر البارز في شعاره حمامة لا ندري ان كانت تذكيرًا بحمامة نوح في المرجعية الأسطوريّة وقد غاب غصن الزّيتون وحضرت ورقاته لتُغلق الدّائرة. فهل هو رمز الاكتفاء الذّاتيّ الى درجة الامتلاء والتّخمة أم هو الإيحاء بالانغلاق وإقصاء «الآخر»؟ أمّا اللّون الأزرق فغير محمود في المرجعيّة العربيّة الاسلامية ذاتها لأنّه يحيل على سبيل المثال الى زرقة العيون وصُفرة السّبال وهما العلامتان المميّزتان للرّوم الأعداء. وهو مذموم أيضا في الثقافة الشّعبيّة كأن يقال «نهار أزرق» و«داهية زرقاء» و«ڤلتة زرقاء!» وهو في بعض الأدبيات اشارة الى الدّنيا وفي بعض الثّقافات الغربيّة لون الوهم أو الايهام! ولا ندري ان كان أصحاب هذا الشّعار على دراية بفلسفة الألوان وتاريخها وعلى بيّنة بإحالاتها ومراجعها منذ بدايات العالم البكر زمن النّقاء والدّهشة حين كان كلّ شيء ينطق وحين كانت الحجارة رطبة وهو الزّمن الذي يسمّيه «الجاحظ» بزمن «الفطحل». إنّ هذه القراءة السريعة للألوان ورموزها تؤكّد مدى اعتباطيّة اختيارها شعارات قد تتناقض مداليلها مع ما يروّج له أصحابها من فكر أو إيديولوجيا وتعكس مدى الارتباك واللّهفة والتّسرّع في ما يجب أن يكون مبنيّا على التّروّي والتّأنّي والرصانة. أمّا الأحزاب النّاشئة وهي كثيرة فلا تملك رصيدًا نضاليا أو فكريّا ولا قواعد شعبيّة لها ولا برامج ممّا يجعلها متهافتة بالسّجيّة الاّ ما كان أصحابها متخمين بأموال طائلة صار من المعلوم لدى القاصي والدّاني أنّها تنفق لشراء الذّمَمِ في صورة قامت على المطالبة بالكرامة والحريّة. وهي في الغالب أموال مجهولة المصادر ممّا يُلغّمُ المشهد السياسي المتوتّر بطبعه. لقد حدث الانخرام بين السياسيّ والاجتماعي والمعيشيّ اليوميّ وأفرغت الشعارات الثورية من محتوياتها ومازالت عائلات الشّهداء تطالب بالعدالة ومازال المجرمون في حقّ الشّعب يمرحون ومن العجيب أنّ الجرحى والمصابين يُهملون بل منهم من لم يُستخرج الرّصاص من أجسادهم الى اليوم! ألم يكن الأجدى بالأحزاب «الوطنيّة» الثريّة التي توزّع «الهدايا» والسندويتشات أن تتكفّل بمصاريف علاج هؤلاء ولعلّها بذلك ترتقي الى مستوى المساهمة في الثورة فتصبح وطنيّة فعلا وتنغمس في صفوف الشعب الكريم الذي لا ينسى تضحياتها مادامت الحكومة مرهقة؟ أمّا زواج المال المشبوه بالسياسة فعوْدٌ على بدءٍ وإيحاء بالانحدار ودوران في حلقة مفرغة. وفي الأثناء يتسرّب المخبرون السّريّون والجهريون من الشُّعب المهنيّة وممّا كان يسمّى باللجنة المركزية الى مراكز جديدة! كلّ ذلك ومازالت تطلّ علينا بين الحين والحين مساجلات بيزنطية في علاقة الدّين بالسياسة في حين أنّ أبسط التّعريفات يؤكّد أنّ مضمار الأوّل المقدّس ومضمار الثانية المدنّس كما هو معروف ومتداول غير «أنّ علاقة المقدّس بالمدنّس في فنّ السياسة أشبه ما تكون بعلاقة التكتيك بالاستراتيجيّة في فنّ الحرب. فَبِاسم المقدّس قد تُخاض معمعة السياسة ولكن تبقى وظيفته أن يوظّف في خدمتها». هل نقول إنّ الثّورة قد استهلكت في الاستعراضات السياسويّة وفي التنظيرات المتكلّفة والمفاهيم المبتسرة وسرقتها المافيات الجديدة المقنّعة والقديمة المتجدّدة ولم يبق منها سوى ورقة التّوت «أنا قيّدت وأنت وقيّت باش تقيّد» أم نقول ما قاله «محمّد الماغوط» «أظنّ أنّ المسيح ومن المسمار الأوّل على الصّليب شعر بالنّدم!».