يظل التعبير المميز عن الأحداث شغل المبدعين الأوَّل، حتى لا يكونوا متخلفين أو خارجين عن السياق التاريخي ؛ خاصة إذا لم يكونوا من صانعي تلك الأحداث بشكل مباشر. مع ذلك، فإن كل مبدع ملتحمٌ ببذور الثورة وإن بدا غير ذلك، ويسعى الى أن يتخذ له أسلوبا في التعبير عنها، يميزه عن سواه، من بين من يشاركونه المجال الذي يعبر من خلاله. ومن بين تلك المجالات يبرز مجال الكاريكاتير بتعبيراته النقدية اللاذعة غالبا، حتى لكأنه عند الضرورة - يقف في مواجهة من يخرجون عن قيم المجتمعات، أو يحاولون تحريف توجهات الشعوب أو العابثين بمقدراتها ومصائرها. فما هو فن الكاريكاتير ؟ يعود ظهور الكاريكاتير إلى عهود سحيقة تضرب في أعماق التاريخ، فهو فن يجمع بين المسرح والصحافة، بين الجد والهزل، وبين الخيال والثقافة الواسعة، فهو بكلمة من أقدر أدوات الاتصال والتعبير، على النفاذ والغوص في أعماق الحالات النفسية، واستبطانها، وكشف ما تنطوي عليه. من خلاله يتم إبراز سمات الشخصية أو الموضوع، تلك التي لا تُرى في الحالات الطبيعية، في حين أنها سمات يدركها البعض، ولكن الكاريكاتير يحولها إلى عنصر بارز يعكس السلوك أو العيب أو النقص، بشكل مباشر، مُتحَدٍّ أحيانا. لعله يتقمص إحساس المتلقي تجاه تلك الحالة أو السلوك، وتساؤله، فيبرز له مكامن الغموض، وأشكال الانحرافات. ويقدم فنانو الكاريكاتير أعمالهم بأسلوب ساخر هزلي ناقد وغير مهادن، يعتمد التضخيم حينا والتصغير حينا آخر والتشويه في أغلب الأحيان، وفق ما يقتضيه السياق التعبيري للمعالجة. ولنا في تونس عدد من فناني الكاريكاتير الذين خبروا هذا الفن واتخذوه أداة للتواصل والتعبير، رغم رفض أصحاب السلطة لتناولهم، نذكر منهم هنا الفنانين علي عبيد، وتوفيق الكوكي ورشيد الرحموني، وهذا الأخير موضوع هذه الورقة. يعرض فنان الكاريكاتير رشيد الرحموني برواق على القرماسي بتونس منذ التاسع من شهر مارس 2011 مجموعة من الأعمال التي أنجزت من وحي »ثورة الكرامة«، ثورة 14 جانفي 2011 خاصة، وبعض الأعمال مستوحاة مما تبعها في مصر وليبيا . وتظهر أعمال الرحموني أن فن الكاريكاتير تعبير إنساني لا يرتبط بخصوصيات عرقية أو حضارية أو جغرافية محددة، كما أنه لا يعبر عن حاجيات فئة معينة . لذلك كانت الأشكال التي ينجزها الفنان، وبالنتيجة كل فنان كاريكاتيري، إنما تعكس حالات التحول أو الانحراف /التميز في سلوكيات الشخصية أو وجهة الحدث الذي يتم تناوله في تلك الأعمال الفنية. ولئن تناول الرحموني مظاهر عديدة من سلوكيات المجتمع التونسي، بحيث امتد إلى انعكاسات الثورة على الأفراد والمجموعات، فإنه اقتصر في تناوله لها، في القطرين المصري والليبي، على رمزي النظام. وفي كل الأحوال كانت الكلمة السحرية : Dégageب أي ارحل« قد فعلت فعلها في تونس ومصر، ولكنها أخفقت في ليبيا، مما استوجب تدخل عناصر أخرى وربما أساليب اجتثاثية أخرى تناسب الحالة. في أسلوب الرحموني عند التعبير عن وقائع الثورة كثير من المباشرة، لكنها تراوح بين الشكل الحامل لخصوصيات الحالة المعبر عنها وسخرية الجمل المرافقة للأشكال. فهؤلاء الذين »كانوا مضروبين على أيديهم« مكنتهم الثورة من حق الإضراب بحيث يقولون :»نحن مُضربون حتى تتحقق مطالبنا« ولعل ذلك يأتي متقاطعا مع الأهداف المركزية للثورة، بل ربما يأتي ذلك في المرحلة الثانية بعد تحقيق الأهداف الكبرى. أما في مستوى التعامل مع الرموز التي قامت الثورة لإقصائهم من على صدر الشعب، فقد تابع مجريات الأحداث، إذ اتخذ من الثورة ملاكما قويا، يدخل مباراة للملاكمة تقسم إلى ثلاث دورات، يسقط الرمز في الدورة الثالثة . لكن الرمز الثالث لم ينطبق عليه نفس السيناريو . وانطلاقا من تداول مصطلح »الرئبس الفار« استخرج الرحموني كاريكاتيرا يصوّر فأرا ضخما تمتد أمامه ما عبر عنها ب »ثروة الشعب« وهو يقضمها . وهكذا انتقل من مدلول الفرار وترك البلاد إلى المجهول، انتقل إلى ما قبل الفرار، حيث عاث في مقدرات البلاد نهبا وتكديسا وتهريبا إلى أنحاء عديدة من العالم. ويردف ذلك في عمل آخر حيث تكون الثروة في إبريق شاي يستفرغ في ما يعرف ب »كؤوس طرابلسي« وفي ذلك دلالة مباشرة لما وقع في بلادنا. كما لم يهمل الأحداث التي تبعت يوم 14 جانفي، حيث أنجز الشعب المصري عديد الخطى، وثورتنا تتعرض لما اعتبر محاولة إجهاض لها، وقد صور الفنان زوجين يتابعان الأخبار عبر التلفاز ويصدر عنهما تعليق مفاده : »في شهر شكّلها جارنا وخطبها وعرس بيها. واحنا هانا قاعدين نستنّاو في تشكيل الحكومة« . وفي هذا المعرض الذي ضم 80 عملا، مستويات عديدة من التعبير عما حدث في أعقاب الثورة. ونلاحظ في خاتمة هذه العجالة، بأن الشكل التعبيري لا بد أن يكتسب خصوصيته في تجسيد الفكرة وإيصال الخطاب إلى المتلقي دون وسائط أخرى، ذلك أن اللغة حين تصبح ناطقا رسميا فيه، تتحول إلى أداة تحديد للهدف الذي يعالجه العمل الفني. وبذلك يَحُول دون استنباط أو اكتشاف مضامين أخرى تثري الأفكار التي يقترحها الفنان، وهو ما يتناقض مع طبيعة العمل الفني الذي يعتبر باثًّا لرسائل متعددة بتعدد تجارب المتلقين، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا...