«متى مالت شمسُ الثقافة إلى الغروب اصبحت للأقزام ظلال طويلة». كارل كلاوس. (...) ظلّت عبارة »الأدب لا يصل إلى النّاس« جاثمة في أذهان كثيرين لمدّة سنوات طويلة، وهذه العبارة الكاذبة روّجها أصحابُ الرّساميل (جمع رأس مال) والكراسي والبيروقراطيّون في الإدارات الرّسمية التونسيّة. إنّ الهدف الحقيقيّ من وراء إطلاق تلك العبارة هو إبعادُ النّاس وتنفيرهم من الأدب ثمّ إحباط الكتّاب والمبدعين وعزلهم عزلة مقيتة عن النّاس وعن ثقافة الجماهير ويمكن الآن أن نكذّب هؤلاء لأسباب كثيرة اذا رأينا الاقبال الكبير على قراءة المدوّنة الشعرية لمحمود درويش ومظفّر النوّاب ومحمد الماغوط، نتأكّد من أنّ النّاس يبحثون عن أدب يمسّ معيشهم ويلامس أحلامهم البسيطة وأوهامهم الجميلة. إنّ النّاس في حاجَةٍ دومًا إلى أدبٍ يرتقي بحسّهم ويفتح آفاقًا واسعة أمامهم. وبالنّسبة إليّ قارئا وكاتبا تونسيّا معاصرًا أشعرُ بسعادة كبيرة لأنّ النّاس يُقبلون على قراءة الرّوايات والمجموعات القصصيّة حتّى وإن كان ذلك على حساب الشعر المهمّ أنّ النّاس يقبلون على القراءة. يمكن القول انّ عدد قراء حنّامينا ونجيب محفوظ وابراهيم الكوني وأحلام مستغانمي وباولو كويلهو وغابرييل غارسيا ماركيز وغيرهم عدد لا يُحصى. هذا ما يجعلني أثق بالأدب ورسالته العظيمة في النّهضة بالشعوب. ولقد استطاعت الرّوائية التشيلية الكبيرة »ايزابيل اللّيندي« أن تنال إعجاب كلّ مواطني التّشيلي بمختلف شرائحهم، فقط لأنّها تعبّر عن هواجسهم وأحلامهم وحتّى عن خوفهم من المستقبل الذي تتربّصُ به الرّأسمالية المتوحّشة والامبريالية العابرة للأرواح فتْكًا وتسميمًا. والروائيّون الكبار في العالم (وعلى رأسهم كل كتّاب أمريكا اللاّتينيّة) هم أوّل المقاتلين اليوم لحيوان »العولمة« أبردِ الوحوش الباردة. رأيت كلّ ذلك مدخلاً إلى الحديث عن أدبنا التونسيّ وعلاقته بالنّاس. والحديث اليوم عن عزوف الناس عن قراءة الأدب التونسيّ أمر مفتعلٌ وصحيح في آن واحد. ثمّة أدب جيّد في تونس روايةً وقصّةً وشعرًا وسيرةً روائيّةً، لكنّ عزوف النّاس يعود إلى السبب الاوّل الذي ذكرت »في أنّ الناس يحبّون كتب الطّبخ ولا يحبّون الادب«، فالسّبب الاوّل ثقافيّ متوارثٌ يعود إلى انفصام الشخصيّة التونسية التي ولدت في بيئة يطغى عليها الكبت والعقد النفسيّة ابتداءً بالأسرة ومرورًا بالمؤسسة التعليمية التي تكرّس نصوصًا بعينها تخدم مصالح ضيّقة للفئة المسيطرة، ونصوصًا أخرى للموتى بدعوى تكريم أهل القابر! إنّ المؤسسة الرسميّة ووكالات الاشهار تمعن في سيطرتها على العقول وهي بالتالي تكرّس الجهل والخوف من النّقد والفلسفة والشكّ الذي تقوم عليه جميع المعارف والعلوم. نحن اليوم أمام طغمة جبابرة لكن ظلّت التجارب الادبية الملتزمة في قمم عالية مثل محمود درويش والسياب وسعدي يوسف ومحمد الماغوط ونجيب محفوظ وغارسيا لوركا ونيردا وماركيز وخورخي أمادو ذلك الذي أنهى حياته بين الفلاّحين ومزارعي الكاكاو في مدينة »باهيّا« بعد حصوله على نوبل!