أستسمح السادة القراء أن أقترح عليهم هذا المقال الذي فكرت قبل كتابته في ردود الأفعال المحتملة خاصة مع من يخالفني الرأي وممن يعتقد أنه على صواب في أفعاله ومواقفه وأفكاره. ومع احترامي للرأي المخالف سألت نفسي هل أصدع أم أسكت، هل أعبّر أم لا أعبّر خاصة وحرية الكلمة والرأي مضمونة في ظل الديمقراطية التي تخوّل لي ولأمثالي الكلام دون خشية أو لومة لائم. وبصفتي نقابيًّا وطنيًّا ومسلمًا لا أخاف إلا من الله اعتبرت السكوت خيانة للوطن حسب رأيي خاصة في ظل ما تشهده البلاد من انفلات على جميع المستويات اعتبرته منكرا في حق هذا الوطن الغالي زيادة على أن الدين الإسلامي يدعو كل من يرى منكرا ان يغيره إما بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. لهذا قررت أن أساهم بقلمي مع الذين يشاطرونني الرأي لأحاول تغيير ما أراه منكرا لما يحدث ببلادي تونس هذه الأيام بعد الثورة المباركة التي ضحّى من أجلها الشباب الذي قادها واستشهد منهم عدد لا يستهان به رحمهم الله لصدّ الباب أمام محاولات البعض سرقة الثورة والركوب عليها في ظل انفلات خطير للمشهد السياسي والإداري والاجتماعي والاقتصادي وكذلك الإعلامي. المشهد الأول أسأل أولا : من منا لم يفرح بالثورة ونتائجها بإسقاط النظام البائد وإسقاط الحكومة وحل التجمّع الذي تغوّل في المجتمع والإدارة والدولة و الحكم ؟ من منا لم يتفاخر بما أنجزه الشعب التونسي بالثورة التي أصبحت مثالا لكل الشعوب وخارطة طريق لخلاص الشعب العربي من الحكام الدكتاتوريين وتحقيق العزّة والكرامة والعيش للجميع ورفع المظالم في ظل ديمقراطية حقيقية ليختار الشعب من يحكمه بحرية ؟ الأكيد ان أغلبية من الشعب التونسي الطيّب تشاطرني الرأي خاصة وبلادنا أصبحت قبلة السياسيين الأوروبيين والأمريكان والآسيويين وغيرهم ومنهم من يرغب في مساعدة تونس بالمال والمشورة والدعاية وبعث المشاريع لتشغيل الشباب العاطل وتنمية المناطق الداخلية المحرومة تحت مظلات مختلفة وأجندات يعرفها المختصون في السياسة والاقتصاد.ومن الدول والمنظمات والهيئات الدولية من ربط تقديم المساعدة بالمناخ السياسي السليم واستتباب الأمن في البلاد . لذلك ألاحظ هذه الأيام مثل غيري رغم التحسن الذي بدأ يطفو على الأوضاع الأمنية محاولات للرجوع إلى المربع الأول بما يهدد البلاد والعباد ويجرّ الجميع إلى مصير مجهول بمواصلة الاعتصامات غير السياسية التي لها مبرراتها ونساندها في إطار التنظيم والهدوء وعدم تعطيل مصالح الدولة والشعب فالاعتصامات التي تكتسي صبغة مطلبيّة منها المشروعة وغير المشروعة بتعطيل المصلحة العامة تربك المجتمع وتعثر المسيرة الإصلاحية التي بدأت الحكومة المؤقتة في إنجازها مشكورة لأن الاعتصام غير المنظم والعنيف يشوّه الثورة و يجعلنا نعيش الحيرة والخوف أحيانا على مستقبل البلاد والعباد خاصة أمام إصرار البعض على مواصلة اعتصامهم بهدف تشغيلهم فورا أو تحقيق مطالب خاصة لهم بقصد أو بجهل يعطل مصالح الآخرين وخير مثال ما نشاهده أمام وزارة التربية وبعض الولايات من محاولات لتعطيل العمل بالتجمعات والاعتصام وكأننا في حالة حرب . فهل هذا السلوك يحقق الأهداف المرجوّة ؟ هل بالاعتصام وتعطيل عمل الوزارات ومراكز الولاية والإدارات والمؤسسات الاقتصادية والفلاحية يحقق أهداف الثورة أم يسرقها ويلحق بها الضرر ؟ هل بهذه الممارسات الفوضوية والعنف الممارس الذي طال الجميع نجلب الاستثمار والمال المحلي والداخلي لخلق مواطن شغل ؟ هل بتعطيل العمل يمكن تحقيق الزيادات في الأجور؟ هل بالإضراب الفوضوي الذي لا يحترم الإجراءات القانونية المعمول بها تتحقق المطالب؟ هل بممارسة الحرية المفرطة أو المطلقة التي تحدّ من حرية الآخرين يتحقق الأمن والأمان للبلاد والعباد؟ هل بهذه الطرق يمكن تحقيق المطالب وتبليغ أصوات الناس في ظل الأوضاع الراهنة؟ ماذا سيلاحظ الأجانب الذين يريدون مساعدتنا بمواصلة التجمّعات أمام المؤسسات والوزارات والممارسات الخارجة عن القانون والعرف والأخلاق التي يعتبرها البعض ممن يمارسها صوابا ؟ فهل هذا سيجلب السوّاح لإنقاذ الموسم السياحي ويجد العاطلون عن العمل مواطن رزق؟ إن الخطر كل الخطر في من يتمسك بمطلبه ويطالب بتحقيقه فورا دون مراعاة الإجراءات القانونية والإمكانيات المادية اللازمة لذلك ويفكر بأنانية غير عارف بما سينعكس عن موقفه من سلبيات على الوضع العام وإجهاض الأمل الذي تمسك به التونسيون لتحقيق مستقبل أفضل للشباب خاصة منهم العاطلين عن العمل وتحسين أوضاع المحرومين والمعوزين بالبلاد؟ على العقلاء من الشعب التونسي الكريم من كل الفئات السياسية والأيديولوجية والنقابية والمجتمع المدني دعوة الإخوة والأخوات الذين يعتصمون ويطالبون بحقوقهم المشروعة أن يكفوا في المرحلة الراهنة عن الاعتصامات وأن لا يربكوا الحكومة لأنها مؤقتة وأن لا يزعجوا الناس وأن لا يعطلوا مصالحهم ويمكن لهم توخي طرق أخرى حضارية وغير عنيفة لتبليغ صوتهم باستغلال ما توفر من حرية الرأي بالكتابة وتسخير الجمعيات والمنظمات المعنية للقيام بهذا الدور. فإلى متى تبقى الوزارات ومراكز الولاية محوطةً بالأسلاك الشائكة وتعاني من مظاهر التوتر التي سئمنا مشاهدتها مع تقديري للدور البطولي الذي يقوم به جيشنا البطل لحماية المؤسسات والعباد. أين أنتم يا عقلاء البلاد يا من تخشون على أولادكم وبلادكم من المستقبل المجهول الذي يحاول المتطرفون جرنا إليه . أين الإعلام النزيه ؟ أين هيبة الدولة أمام هذا الانفلات الخطير؟ على الدولة مسؤولية قانونية وأخلاقية لحماية الناس بممارسة صلاحياتها دون عنف وتسخير كل أجهزتها للتوعية والإرشاد والتوجيه ومصارحة الشعب بالحقيقة ومحاسبة الخارجين على القانون بالقانون. المشهد الثاني أولا أشير إلى الثورة وأسبابها وأهدافها التي حوّلت المشهد السياسي بالبلاد إلى خلية نحل الكل يعمل ويسعى ويجتهد لينتج عسلا ويقدم نفسه إلى الشعب على أنه مفتاح الخلاص. وتهافت الصادقون والانتهازيون على وسائل الإعلام يقدمون أطروحاتهم وبرامجهم ومنهم من نصّب نفسه ممثلا للشعب ويتكلم باسمه قبل أن ينتخبه ومنهم من سعى إلى كسب ودّ المشاهدين والمستمعين بالركوب على الأحداث خاصة الذين كنا نسمع في العهد السابق كيف ينظرون ويغالطون الشعب بتمجيد إنجازات العهد السابق إلى درجة جعلتنا نصدّق ما يقال لنا فتحولوا بين عشية وضحاها مساهمين في الثورة ولولاهم لما حصل ما حصل يوم 14 جانفي 2011 حسب اعتقادهم . والمؤسف أيضا أن بعض القنوات التلفزية والإذاعات العمومية والخاصة تقدم إلى المشاهدين والمستمعين وباستثناء التثقيف السياسي برامج تدفع إلى الإثارة وتشجيع العناصر المتطرفة بالسماح لهم بتبليغ أفكارهم المسمومة لعموم الشعب سواء بالدعاية الهدامة والتحريض والتلميح وتقديم الأخبار المحبطة للعزائم وزرع الخوف والحيرة والتحريض على العصيان المدني بدعوى حرية الرأي والصحافة دون رقابة غير عابئين بانعكاس ما يقولونه وما يقدمونه للناس على أمن البلاد والعباد في المنظور القريب والتي تحرض على إثارة النعرة الجهوية والقبلية المقيتة . إن الواجب اليوم يدعونا جميعا إلى لتفكير بجدّ في المستقبل بنظرة تفاؤلية والعمل كل من موقعه على تهدئة النفوس والمساهمة في إعادة الأمل والأمن والأمان في المجتمع التونسي لنتمكن من الخروج بأسرع وقت من الأزمة الخانقة لأن الوضع لا يحتمل المزيد من التأزم وصدّ الباب أمام العناصر الانتهازية والمتطرفة التي لا تريد للبلاد الخير بقدر سعيهم إلى الوصول لتحقيق مآربهم الشخصية والسياسية ولو على حساب الوطن والشعب التونسي. المشهد الثالث في بداية الثورة والبلاد في حالة طوارئ انتظم الناس تلقائيا لشراء ما يلزمهم من حاجيات أمام الخباز والعطار والخضار وغيرهم . كان الجميع مصطفين في طوابير دون زحام مما جعل كل الملاحظين من الداخل والخارج يصف الشعب التونسي بالمتحضر والمتمدن واعتبرنا حينها أن الثورة نجحت في تونس بهذا النظام التلقائي والتضامن الحقيقي بين أفراد الشعب وأصبحنا نتباهى ونتفاخر في جلساتنا الخاصة والعامة بهذا السلوك المشرّف لشعب تونس العظيم. وبمجرد رفع حالة الطوارئ وعودة الحياة إلى طبيعتها، أصابتنا عين مثلما تقول أمي رحمها الله فظهرت ممارسات غريبة عن الشعب التونسي وأصبح البعض يعيش انفلاتا أمنيا وأخلاقيا وسلوكيا لافتا وعمّت الفوضى في كل مكان وأصبح البعض من الناس يتعاملون مع الآخرين في الشارع دون ضوابط . أصحاب السيارات لا يحترمون الاشارات ولا الأماكن المحجر فيها الوقوف والباعة المتجولون لا يحترمون الأرصفة والأماكن المخصصة للمترجلين ودخلت الفوضى البلاد ولولا الوقفة الحازمة التي وقفها رجال الأمن والجيش الوطني لدخلوا البيوت دون استئذان واستقال أعوان البلدية عن أداء مهامهم في رفع الأوساخ المتكدسة في الشوارع والأزقة واستغل البعض هذا الانفلات فاعتدوا على الأملاك العامة والخاصة بدعوى الاحتياج وباسم الثورة وأعادونا إلى عصر الانحطاط والتخلف والفوضى أمام فقدان الأمن بما جعلنا نراجع حساباتنا عملا بالمثل القائل »إصبعين تلحق الطين« زادتها الانتهازية السياسية وتعدد الأحزاب التي وصلت إلى 51 حزبا (انظر مقالتي الصادرة بجريدة الشعب يوم 5 مارس 2011 بعنوان وجهة نظر حول التعددية النقابية والسياسية بتونس بعد الثورة) وتساءلت مثل الكثيرين إلى أين نحن سائرون؟ ما هي الأسباب التي جعلت البعض من الناس يشوّهون ثورة الشباب؟ هل هي السياسة والسياسيين؟ هل نبقى على أمل الانفراج القريب أم نخاف على مستقبل البلاد وأمنها في ظل التجاذب السياسي بين الطامحين والطامعين في الحكم ؟ أم نقول ما قاله حريف الحلاق الثرثار بعد أن تلقى ضربة على رأسه بيد الحلاق الذي رسم في رأسه خريطة معركة الروس والصين بعد أن قال الحلاق الثرثارب »هنا »بور آرثر« وهنا ضرب الروس اليابانيين الضربة القاضية« فقام المسكين يولول ويهرول مكشوف الرأس يلعن السياسة والسياسيين والروس واليابانيين والناس أجمعين.