لا شك في أن تاريخ مصر وتونس الحديث هو على شبه كبير. ولكني لن أقف عنده الآن. فذلك ما يتطلب مجالا آخر غير هذا. إلا أنني أكتفي بالتذكير بأمرين وهو أن تونس سبقت مصر في أن كانت أول بلد حظي بدستور على عهد قرطاج التي كان الحكم فيها جمهوريا. ثم في العصر الحديث كانت أول بلد عربي يصدر جريدة رسمية ويحظى بأول دستور ألا وهو دستور 1861، ولقد كانت الحركة الإصلاحية في البلدين متشابهة إلى حد بعيد وكذلك الحركة الفكرية عامة والحركة الأديبة. وليس هناك من اختلاف إلا في أمرين في الحجم الجغرافي وفي كون مصر بلد من بلدان الطوق الفلسطيني. ولقد أصابنا القدر بنفس المصيبة أي بدكتاتورية لها نفس السمات تقريبا. ثم آل بنا أمرنا إلى ثورة سبقنا فيها مصر. بل كنا من ألهم إخواننا هناك بها. والآن ما المآل؟ ماذا حققت كلا الثورتين ؟ لقد فاجأت تونس العالم كله بثورتها. وقد كانت عفوية الطابع. ولم تكن المعارضة قد حركتها أو قادتها ولا أن لحقت بها. أما في مصر فقد انطلقت الثورة بشكل عفوي كذلك. ومن الطريف أنها بدأت بمظاهرة لتأييد الشعب التونسي في ثورته. ومنذ ذلك اليوم رفع شعار رحيل مبارك. وتفاقم المد الثائر إلى أن أصبح ما كان من أمره في ميدان التحرير وما آل إليه من مآله الأخير. ولما كانت مدة الاعتصام أطول مما حدث في تونس فقد تشكلت قيادة ميدانية قادت الاعتصام إلى منجزه الأخير. أما المعارضة في مصر فهي أقوى منها في تونس. وهي وإن لم تقد الحركة الاحتجاجية فقد أيدتها وشاركت فيها بشكل أقوى مما فعلت نظيرتها في تونس. وهذا لا شك عندي سيشكل فرقا مهما قد يؤدي في النهاية إلى أن تكون خطوات الثورة المصرية أرسخ وأذهب في تحقيق أهدافها. غير أن ثمة عامل آخر مهم قد يعمل لصالح الثورة في تونس ألا وهو الاتحاد العام التونسي الشغل الذي شكل حاضنة طبيعية للحركة الاحتجاجية فيها. وإذا ما تحلى بدوره على الوجه الأكمل لن تهدر الثورة. أمّا دونه فالمخاطر المحدقة بها جمة. فكيف سارت مجريات الأحداث إلى حد الآن ؟ من المعلوم أن الجيش هو الذي تسلم السلطة بتفويض من الرئيس المتخلي. فقام بمسؤوليته على أكمل وجه. وكما لم يقمع المعتصمين لم يتنكر للشعب. وظل يؤكد أنه جيش الشعب. وفي ذلك دلالة كبيرة مفادها أن عهد الانقلابات قد ولى في البلاد العربية عامة وأن دور الجيش ينحصر في حماية الدستور لا في قمع الشعب. وسارت الأمور بسرعة وبخطوات ثابتة إلى أن وصلنا إلى الاستفتاء. فصوت الشعب لصالح التعديلات الدستورية. وذلك ما سيؤدي إلى انتخابات برلمانية في سبتمبر القادم تؤدي بدورها إلى انتخابات رئاسية بعد كتابة دستور جديد. والمهم في الأمر هنا أن الاستفتاء هو الذي حسم في الأمر كله دون طائل نقاش أو لف ودوران والتفاف من هذا أو ذاك. ولا شك في أن هذا المسار سيؤدي إلى انتخاب حكومة تمثل شعبها فعلا وتكون قوية بما يجعلها تحقق أهدافه في الحرية والديمقراطية والازدهار الاقتصادي. أما في تونس فالمسار أعقد أو بالأحرى متعرج. فقد تسلمت السلطة حكومة بن علي نفسها. واعتقدت هذه أنه بإمكانها أن تضطلع بالمهمة دون رفض لها من الشعب. ولكن الشعب ثابر على الاعتصام والتظاهر. فأسقط الحكومة تلو الأخرى. غير أن السلطة الوقتية آلت إلى مأزق دستوري بما أنها ليس بإمكانها أن تستمر بعد 15 مارس أي بانتهاء الأجل الأقصى الذي حدده الدستور لانتخاب رئيس جمهورية جديد. وأثناء تلك الفترة توالت الخروقات الدستورية. ومن الغريب أن المعارضة لم تنتبه إلى ذلك أو هي لم تعره أهمية. إذ كانت تسعى إلى مكاسب دون اعتبار الوجه القانوني فيها. وحدث أن استقال الوزير الأول السابق محمد الغنوشي تحت ضغط الشارع وكذلك تحت ضغط الاستحقاق الدستوري. وبقي السيد »القائم بمهام رئيس الجمهورية« في منصبه دون وجه حق ودون إثارة المسألة القانونية لبقائه. لكن لا بد أن يكون لذلك ثمن ألا وهو القبول بالمطلب الشعبي المتمثل في كتابة دستور جديد وانتخاب مجلس تأسيسي. فاضطر إلى أن يُسْتدْعَى السيد الباجي قائد السبسي على رأس الحكومة. وقد تعهد هذا الأخير بأن تكون حكومته حكومة تصريف أعمال وبأن تسهر على الإعداد لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي. وذلك ما يعني أن حكومته انتقالية أي أنه لا شأن لها بأي استحقاق سياسي آخر. ولتنفيذ انتخابات المجلس التأسيسي لا يتطلب الأمر غير إصدار قانون انتخابي بسيط يسير يتيح للشعب أن ينتخب ممثليه بشكل طبيعي ومباشر وحر ودون حسابات توقع البلاد في مأزق جديد. وكان يجب لذلك لجنة من الخبراء لا غير كما كان من الممكن الاستعانة بخبراء الأممالمتحدة التي عرضت بعد مساعدتها. وكان لا بد أن تكون قد تشكلت بعد »هيئة عامة للانتخابات« أو»مفوضية عليا للانتخابات« حتى تشرع في إعداد العدة لإجراء الاستحقاق الانتخابي. ولكن الأحداث تسير بغير هذا الانسياب. إذ فجأة سيظهر علينا مجلس بات ذائع الصيت ألا وهو لاحظوا جيدا »مجلس تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي« يا الله! هل ما زلنا نحتاج إلى مجلس تأسيسي بعد هذا المجلس؟ لا أبدا فهو أوسع مهامّ وأكثر طموحا ولا يهم أن يكون غير منتخب. فنحن تعونا من زمن بعيد على هذا النوع من المجالس غير المنتخبة والمؤسسة على التزوير. ولكن ما الإشكال الحقيقي في ذلك ؟ أبدا ليس التركيبة رغم نقائصها ولكن في مهامه وفي أساسه القانوني. فهو قد جمع وأوعى. بل ووطد العزم على أن يحقق في ظرف وجيز مهامّ جسيمةً أيَّ جسامة رغم ادعائه أنه استشاري. ولو كان استشاريا فعلا لاكتفى بلجنة خبراء. والواقع أنه قد تجاوز بعد حدوده بأن أعدت لجنة فرعية منبثقة عنه مشروع »قانون صحافة« من المغالطات أن يدعى »أخلاقيات المهنة« وهو زجري أكثر مما هو قانون الصحافة الجاري به العمل. لكن الأهم من ذلك هو أن الحكومة الانتقالية تكون بذلك قد تجاوزت مهامها وخانت تعهداتها بأن تكتفي بأن تكون حكومة تصريف أعمال. وهذا ما أنبه إليه الجميع حكومة وصحافيين وشعبا وأحزابا واتحاد شغل مؤكدا على أنه لا يمكن مبدئيا لحكومة مؤقتة أن تسن قوانين وهي لا تملك حق إصدار مراسيم لسبب بيّن ماثل في أن هذه الحكومة قد شكلت خارج الدستور حتى أنها بدورها قد باتت تتحدث عن أنها منبثقة عن شرعية جديدة ألا وهي الشرعية الثورية (هكذا) ولسبب آخر وهو أن »القائم بمهام رئيس الجمهورية« قبل 15 مارس الماضي لا حق له في التفويض. وما تم من تفويض غير دستوري وغير قانوني علاوة عن كونه يدل إما على جهل من الحكام بدستور بلادهم أو على خرقه. وإني أتحدى من يزعم العكس أن يرد علي. أما السكوت فهو قبول وتجنب للخوض في المسألة. أما بخصوص بحث اللجنة ذائعة الصيت بعد عن آلية لانتخاب المجلس التأسيسي فقد بدأت رائحة المؤامرة تتضوع من أكنافه. وما بحثهم عن آلية محاصصة إلا دليلا عليه، فهم منكبون على البحث عن طريقة يضمن بها الكثيرُ وجودَهم في المجلس التأسيسي بمجرد أوالية ميكانكية. والواقع يفرض أنه إذا ما طرحت آلية اقتسام للحصص لا بد من عرضها على الاستفتاء محذرا في الوقت نفسه أن أي طريقة غير الطريقة الطبيعية الحرة المباشرة التي تجعل الناخب ينتخب من يعرف ومن يطمئن إليه ويثق فيه سنعود أدراجنا إلى الوراء وإلى انتخابات بن علي وإلى القوائم وفرض التصويت على الناخب لمن لا يرغب فيه. وذلك ما سيؤدي إلى مقاطعة الانتخابات من قبل قطاعات واسعة. هذا إذا قبلت بها مختلف القوى الوطنية وقبل بها الشباب صاحب المصلحة في كل شيء وسيدين التاريخ كل من أيدها وشارك فيها حتى وإن فعل على حسن نية. إن التآمر في بلدنا لهو صفة من صفات طبقة لها باع طويل في خدمة السلطة قد درجت من زمن طويل على تزيين الاستبداد للحكام وتشجيعهم عليه. وإنه لمن واجب كل مواطن أن يتصدى في الأوان لأي محاولة تسرق منه إرادته. أما أن نترك الفاعلين يفعلون فذلك ما سيؤدي إلى سكوت ثم انتفاض. غير أن رد الفعل هذه المرة لن يطول فالعالم قد دخل بعد عصر الجماهير، أما الفيصل في هذا في ظل غياب جهاز تشريعي فالاستفتاء، وهكذا نقول قد لحقنا بمصر التي لم يتآمر فيها أحد على إرادة الشعب. فالاستفتاءَ! الاستفتاءَ إن كنتم صادقين!