هو أحد الوجوه الإخراجيّة البارزة للمسرح التونسي، مائة نجمة ونجمة، سعدون 28، ليلة في حلق الوادي، واحد منّا، رقصة الكمنجة، أنتيجون، أنا والكنترباص، ريحة البلاد... وغيرها من العناوين المسرحيّة والعروض الفرجويّة الكبرى كانت بتوقيعه، وهو إلى جانب ذلك كاتب مسرحي لأكثر من عمل لعلّ أبرزها بهجة ومحارم، وهو أيضا ممثّل تلفزيوني برز في مسلسل عطر الغضب وحسابات وعقابات وعودة المنيار وشارك بالتّمثيل في السينما في صفائح من ذهب وصيف حلق الوادي والرديف 54 والأوديسة، أمّا في الاذاعة فله خيرالدين باشا وورقات منسية وقصص ليست للقراءة... هو في كلمات محمد منير العرقي المدير الحالي لدار الثقافة المغاربية ابن خلدون الذي التقته »الشعب« في دردشة مطولة فكان هذا اللقاء: ❊ أوّلا كيف عاش محمد منير العرقي الأيّام الأولى للثورة التونسية؟ بصراحة عشتها خائفًا. خفت من الاستيقاط من هذا الحلم الجميل وإلى الآن مازلت خائفا من اجتثاثه، في الأوّل شعرت أنّها جاءت فجائية، بقياس أسبابها وسيرورة وقوعها، مع احترامي للثورة كنت أقول إنّها ربّما ثورة ضد مجرى التاريخ، فهي ليست بثورة المجتمع الفلسطيني الذي نعرف جميعًا مدى الجور والحيف الذي يعيشه من ظالم مستبد واضح وصريح، الأمر الذي يجعل ثورته أقرب من ثورة أي بلد آخر، لكن ثورة تونس كانت أسبق من أي ثورة عربيّة أخرى رغم أنّ قهرنا كان مبطنا ومقنّنا، صراحة كنت أنتظر أن تحدث هذه الثورة في 2014 ربّما بعد أن يعيد المخلوع ترشيح نفسه لولاية أخرى، أو كما كنّا نسمع أن يتمّ ترشيح صهره صخر الماطري قبل بلوغ سنّه القانوني أو أن تتولّى زوجته الرئاسة كما كانوا يروّجون على أن تكون أوّل امرأة عربيّة ترأس بلدًا عربيّا، لذلك توقعت أن تكون الثورة في ذلك التاريخ وكنت كغيري من التونسيين مستعدّا له، لكن ، ممّا جعلني أعيش خوفًا ليس بالمرضي بطبيعة الحال، بل فيه محاولة للفهم، مع احترامي واعتزازي بمداركي العقلية، حاولت ولم أفهم، لم أفهم أسباب إطلاق البوليس التونسي الرصاص على مواطن ينزل لتوّه من التاكسي، لم أفهم ولم أكن اسمع قبل اليوم بالقنّاصة وبالوحدات الخاصة وبالقتل وحرق البلاد، عشت في شبه دوّامة محاولا الفهم ولم أفهم ولم أجد من يفهمني أصلا. حتى الخطاب الرسمي لوزير الداخلية أيّامها كان يحاول فيه طمأنة الناس فصدمهم. ❊ وماذا عن يوم 14 جانفي تحديدًا؟ آه، هو يوم تاريخي بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، فأن تقول لأوّل مرّة في حياتك تحيا تونس دون أن تقرنها بفلان أو علان فذاك هو المجد وتلك هي الكرامة الحقيقية، ثمّ توقعت البشاعة في ردّة الفعل، لكن هروبه كان أسرع والحمد للّه... ما حزّ في نفسي اثر هذا تلك الثورات المضادة والممنهجة لإخماد الثّورة، والقارئ للتاريخ يعلم أنّ لكل ثورة مضادة ممّا يذكي الفوضى العامة. لكن لم أتوقع أن يحدث هذا في تونس خاصّة أنّ ثورتنا لم تكن مسلحة، وقد تفاجأت كغيري من التونسيين بكونك أطحت في الصباح بدكتاتور لتجد نفسك في المساء في حظر تجول، فلم نسعد بثورتنا في ظلّ السلب والنّهب وغياب النظام العام. ❊ حسن، لنتحدّث عن منير العرقي الفنّان، كيف كنت تقول على امتداد 23 ما تريد في ظلّ نظام سياسي جائر؟ بالمراوغة، والتلميح، فقد منحتنا السلطة السياسية الجائرة مشكورة (يبتسم) أحقيّة أن نكون مراوغين بامتياز، وهذا الخطاب في اعتقادي أكثر عمقا من المباشرتية وفيه إبداع مضاعف، فالتّلميح والرمزيّة يمنح المتقبل مشاركتك الفكرة وهذه مهمّة الفن القاطعة مع الخطاب السياسي والنقابي المباشر الذي لا يتوافق بأي شكل من الأشكال مع الخطاب المسرحي. ❊ هذا ما يجرّنا للقول إنّ في غياب الرقابة اليوم، يمكن للفن أن يهترئ ويسقط في الاستسهال؟ في كلّ الحالات فنّنا مثل كلّ القطاعات الحيوية الأخرى في البلاد كاقتصادنا المبني على الشمس وحسن الجوار! فمتى تزعزع حسن الجوار والحدود تأثرت سياحتنا، والفنان بطبعه كائن مرهف الحسّ، يستبق الصدمة والارتجاج أكثر من أي شخص آخر، يتأثّر بمحيطه بصرخة تنطلق في اللّيل الصامت من احدى المباني المجاورة فما بالك بحالة الفوضى الدامية، كلّ هذا جعل الفنّانين عموما يعرفون صدمة عاصفة، ومنهم من لم يخرج من هذه الصدمة بسرعة ليكسب قوت يومه، فهو في النهاية مواطن في حاجة الى مرفقات العيش اليومي، ومنهم من تطول به الحالة نوعا ما الأمر الذي يجعله في حاجة دائمة إلى كيمياء أخرى يعيشها ويتنفسها ليستبق تطلّعات الشعب، فالفنان في أحلك أيّام الظلمات هو من يصنع مصباحه الخاص لينير دربه ودرب الآخرين، ومتى يسحب منه كلّ هذا يسقط في الاستسهال والابتذال. الفن الذي تنتجه الثورة هو الثورة التي لم تكتمل بعد ومن الطبيعي جدّا أن تطبخ في الآجال الابداعيّة المعقولة.. لابد من مسافة للفهم وإعادة الفهم حتى يأتي الإبداع في حجم الثّورة وقيمتها. ❊ هناك من يرى أنّ سياسة الدّعم التي كانت معتمدة في العهد السابق، هي قمع مقنّن لحريّة الفكر؟ لست موافقا تمامًا لهذا الطّرح، لأنّ الدعم في السابق لم يكن مرتبطًا بالانتاج وهي معضلة أخرى في حدّ ذاتها، حيث أنّ الدّعم كان يسند إلى مشاريع والمشاريع هي عبارة على ملفات فيها تصوّرات فنيّة تقدّمها الشركة المنتجة للعمل المسرحي لإدارة المسرح أو لوزارة الاشراف، وطوال تاريخي المسرحي الذي تجاوز اليوم الثلاثين عاما لم تتعرّض مسرحيّة للإيقاف لعدم مطابقة مواصفاتها الفنية لما جاء في الملف المقدّم للوزارة، وهذا هو الخطير في المسألة في اعتقادي فالرقابة كانت على الأموال بغض النظر على المسائل الفنية والسينوغرافيّة واختيار الممثلين ومدى كفاءاتهم، فتضطر إلى التّقليص في الميزانية على حساب كلّ هذا حتى يرى مشروعك النّور وهذا فيه حدّ من جماليّة العمل وهو الأخطر من إيقاف عملك لتطاولك على السلطة. وأصدقك القول أنّ بعضهم كان يدّعي في العصر البائد أنّه ضدّ النظام وسياسته، في حين أنّ هذا النظام يُغدق عليهم من نعمه في عقر دارهم. ❊ الوصاية على الفن بِدَاعٍ أخلاقي، كيف يمكن لكم اليوم مواجهتها فنيا؟ أعتقد في هذا الخصوص أنّ أكثر شخص قادر على تقييم قطعة ذهبيّة هو »أمين الصاغة« وهو ما ينسجب على الفنّان أيضا، فالرقيب الداخلي للفنان يجب تكون حاضرًا في أعماله وليس طبعًا الرّقيب البوليسي ولا الأخلاقي العشوائي لبعضهم، فالخطوط الحمراء واجبه في الفنّ، فمن له رحابة صدر بالسماح بتمزيق علم تونس فوق الخشبة أو بأن يشتم أحدهم البلاد، فهذه الأشياء من المقدسات والمسلمات في حرمتها ورمزيتها، وهذا ممنوع في الاستعمال العادي واليومي مثل سبّ الجلالة، والعياذ باللّه، فما بالك مسرحيّا؟ ❊ بوصفك مديرا لدار الثقافة المغاربية ابن خلدون، أي دور يمكن أن تلعبه دور الثقافة اليوم في تفعيل ثقافة الثّورة؟ في المطلق لا أعتقد أن دَور دُور الثقافة مقتصر على ملء الفراغات والترفيه، وكم من مرّة سمعنا في العهد السابق أنّه لابدّ من تأهيل دور الثقافة للقيام بدورها التثقيفي لوجستيًّا، وبشريا، حيث قال المخلوع في آخر خطاب له في اليوم الوطني للثقافة أنّه سيمكن هذه الدور بنحو 500 موظّف جديد ومختص لتعزيز إطارات دور الثقافة، لكن هذا ظلّ ولسنوات حبرا على ورق، ولو لعبت دور الثقافة منذ سنوات بدورها الحقيقي لكانت ثقافة تونس على غير ماهي عليه اليوم. فدورها الحقيقي يتمثّل وكما هو معلوم في استقطاب الرواد والموهوبين وهي أيضا فضاء عاما لكل المواطنين، على اعتبارها فضاء عموميّا مفتوحا لممارسة سائر الفنون وتعاطيها واستهلاكها، هي وسيلة نقل ثقافي تحملك من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) وما على راكبها سوى أن يكون متزوّدا بالثقافة والمعرفة التي ستنمو فعليا بمروره ببقيّة المحطّات، وحين نرسي هذا على أرض الواقع سندعّم ثقافة الثورة قولاً وفعلاً. ❊ كيف يمكن أن يستفيد الفنّان اليوم من ثقافة الجهات؟ الجهات كانت ولا تزال غنيّة بزاد معرفي وثقافي غنّي جدّا، لكن العهد البائد كان يتعامل نعها من منظارين الأول دوني والثاني فولكلوري، في حين أنّ للجهات موروثًا شفويًّا آخر مكتوبًا وسمعيًّا بصريًّا ولا ماديًّا عظيمًا وعريقًا، وبإعادة استقرائنا له وفهمه والعمل على االتعريف به في جميع المستويات من خلال شفرات فنية عدّة سيتحقّق لثقافة الجهات رخاؤها الذي سينعكس حتمًا على الثقافة التونسية إجمالا. وما أعيبه مثلاً على ما كان، ان الجماليّة الفنية في الفنون التشكيلية في تونس امّا إنبتات محض أو فولكلور صرف.. كأن تلخّص القيروان في زربية، وهذا ما يجعلُ وعينا بالموروث الثقافي للجهات سطحيا وساذجا. ❊ أخيرا، علمنا أنّك بصدد الإعداد لمسرحيّة »وان مان شو« بطولة جمال مداني من وحي الثّورة، لو تحدّثنا عنها؟ هي مسرحيّة بعنوان »أنا ليبر« بطولة جمال مداني، وهي من بنات أفكاري حيث أعجب بها جمال وشاركني كتابتها، 80 بالمائة من النص جاهز الآن والباقي في إبّانه، تحكي قصّة سائق تاكسي يتعرّض إلى أحداث ساخنة وطريفة ومخيفة في نفس الوقت ليلة سقوط بن علي، لتحدث له مفاجأة من الوزن الثقيل تربك يومه وأيامه اللاحقة...