ما زال الكثير من الاصوات المتشنجة ينبري بين الحين والآخر لمحاسبة »بورقيبة« ومرحلته ويحاكم اختياراته وتوجهاته وسياساته الداخلية والخارجية ويقوم بجَرْدٍ قاسٍ لأفكاره وانجازاته فلا يخرج الا بالادانة وحصر الخطايا وتتبع الزلات وتلقف الهفوات فيكيل له التهم وينعته بالدموية والتغريب والاتباعية والموالاة لقوى الاستعمار والامبريالية والهيمنة. لكن أيا كانت المآخذ على هذه المرحلة فان لها من الانجازات العظمى ما به تُعدّل الكفة. ولا أحد من الخصوم الموضوعيين يمكن أن يزايد على المكتسبات المقترنة باسم الرجل منذ فجر الاستقلال كمجانية التعليم والصحة والمراهنة على البعد الاجتماعي والسعي الوطني الصادق الى انخراط تونس في الحداثة وتعديل الساعة التونسية على ساعة العصر. وما مجلة الأحوال الشخصية الا ثورة صريحة في اتجاه التقدمية وحسم الأمر لمصلحة حقوق الانسان. وقد انبهر بها العالم الغربي المستعمر الذي يعتقد انه ذو قدم راسخة في التعاطي مع قيم الجمهورية والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.وانزعجت منها الفئات الرجعية والتيارات الظلامية السكونية داخل البلاد وخارجها من الوطن العربي أو غيره لأنها تخلخل النظرة الأحادية وتقوّض المركزية الذّكورية الوهمية. وان اندفع أحد الأصوات من هنا أو هناك صارخا ان ما ورد في هذه المجلة ليس سوى سطو صريح على أفكار »الطاهر الحداد« وقد تقلفها بورقيبة ونسبها لنفسه ليظهر في الصورة وحده بوصفه صاحب السبق في كل فكر تنويري وانجاز عظيم فإننا نذكر ان صاحب كتاب »امرأتنا في الشريعة والمجتمع« لم يأت من المريخ أو من جزر »الواق واق« ولم ينحدر من مجاهل الأمازون او أحراش استراليا إنما هو بذرة طيبة نشأت في أرض تونس المعطاء شأنه شأن الوطنيين الأحرار والمناضلين الشرفاء كالمنجي سليم وعلي البلهوان وفرحات حشاد ومحمد علي الحامي وغيرهم من الرعيل الأول وهم الذين يعدّون منارات مضيئة تفخر بها تونس في تاريخها الحديث. والحقيقة ان بورقيبة كان يشيد بفكر »الحداد« ويثني عليه. وفي كل الاحوال فان الشعب التونسي هو الذي جنى ثمار هذه الافكار الاستشعارية المستقبلية الثورية السابقة لعصرها التي غيرت وجه تونس كلها. لقد راهن بورقيبة على المعرفة وكان يردد انه يفضّل حكم شعب متعلم واع على ان يحكم شعبا متخلفا جاهلا لا تفرّق الأغلبية فيه بين الألف والخبزة فبنيت المدارس في الأرياف القصية يؤمها البنين والبنات ولا فصل ولا فرق والزي يتوحد بالميدعة الزرقاء علامة مساواة واجتهادا في السعي الى ما قد يظهر من فوارق اجتماعية وتلتها المعاهد ثم الكليات في كل أقاليم تونس التي أخذت تصدر رموز المعرفة الى جل الاقطار العربية وفي كل المستويات التعليمية. وما انتشار الاعلاميين التونسيين الأكفاء في أشهر القنوات الفضائية العربية الا خير الا شاهد للاختيارات البورقيبة. وان البلاد الغربية كلها تزخر اليوم بكفاءات تونسية من الجنسين في كل المجالات والاختصاصات سواء في الصحة أو التعليم أو الأبحاث الفضائية هذه ثوابت لا جدال فيها ولا مماحكة والقائمة تطول. أما نظافة يد بورقيبة وحرصه على صون تونس وأبنائها ورفع شعار تقديس العمل وسيلة للتنمية وتغيير ما بالأنفس وما بالبلاد الى الأرقى فالأرقى فلا مجال للطعن فيها أو التشكيك في مصداقيتها. لقد رحل بورقيبة عن الدنيا ولا مسكن له. وقد قيل ان تركته بعد حوالي ثلاثة عقود من الحكم لم تتجاوز ثلاثة آلاف دينار وهو مبلغ زهيد لدى العارفين والمتضلعين من أهل الاختصاص في الاقتصاد التحتي اذ لا يمكن ان يعدّ سوى »مجاملة« أو »مصروف جيب« في »ضربة« صغيرة واحدة على »الماشي« فيا للمفارقة ويا للسخرية المرة!! دعك من المجرم الهارب والجاسوس العميل الوضيع. غير ان ذلك كله لا يعني أسطرة بورقيبة والقول »بنبوّته« كما كان يعتقد بعض البسطاء الطيّبين حقيقة لا مجازا !!! إن ما لم يستوعبه بورقيبة في المرحلة الاخيرة من حكمه انطلاقا من رسوخ العقلية الأبوية هو انه لا يمكن ان يكون اكبر من التاريخ وان لكل مرحلة دواليبها ورجالها حتى تربص بتونس الطامعون والمغامرون والانتهازيون والوصوليون من الخارج ومن الداخل ممن لا رؤية لهم ولا دراية ولا وطنية أصلا حتى تحول قصر قرطاج الى فصل من فصول ألف ليلة وليلة وأصبح فضاء للعربدة ووكرا للمؤامرات وعصابات السوء وغرائب »صدّق أو لا تصدّق«!! وما زالت الايام تزوّدنا بفضائح »دراكولا« أو »جيمس بوند« و »ليلاه« ومن دار في ركابهما فنندهش اندهاش الاغرار الكرماء المخدوعين متسائلين في استغراب كيف استطاع هذا الوغد الرّقيع المتسربل بالبسملة مطلع كل خطاب والخاتم بآية قرآنية ان يحكم شعب تونس وهو من هو طيلة هذه المدة / الكارثة من تاريخها؟ ولكن تلك مسألة اخرى. إن الذي يعنينا اليوم وقد مرّ اكثر من ثلاثة اشهر على الثورة الحلم هو ألا نكثر النبش في الماضي وان نركز على متطلبات المرحلة وأساسياتها وأهمها الوفاق بين الاحزاب وكل الاطراف حتى تتم عملية الانتقال الديمقراطي بثبات وثقة خصوصا ان تونس لم تعرف منذ عقود حوارا حقيقيا جادا شفافا حول نوعية الحكم الذي يرتضيه الشعب والذي يجب ان ينبثق منه فعلا. واذا كانت نسبة كبرى من هذا الشعب قد غيبت عن الفعل السياسي بحكم تراكم القمع والممارسات الدكتاتورية والحكم الشمولي الاقصائي في عهد صاحب انقلاب الخزي والعار النوفمبري وبحكم اللهاث المحموم وراء الخبزة فان الارضية مواتية اليوم لاستعادة حق المواطنة وواجب الاشتراك في صنع المشروع الوطني الذي يتطلع اليه كل التونسيين على اختلاف توجهاتهم وتنوع مشاربهم. إن ذلك كله لا يتم الا بالالتفاف المسؤول حول العقد الجمهوري باعتباره ميثاقا أخلاقيا والتزاما سياسيا يلزم كل الاطراف باحترامه بوصفه الحد الأدنى المتفق عليه لصالح مستقبل تونس وابنائها المتعطشين الى الكرامة الوطنية والانعتاق من الكوابيس بعد ان عانوا الويلات من الاقصاء. وان من تخلف عن الانضمام الى هذا الميثاق فإنما يكون من المغردين أو الناعبين؟ خارج السرب وان العيب فيه بذلك لا في الميثاق أو العقد. واني أريد أن أهمس للمترددين او المتلكئين او الجامحين او الرافضين: هل كان من الممكن ان تقوم الثورة لو خرجتم بمفردكم قبل الرابع عشر من جانفي رافضين ساخطين ثائرين مطالبين بسقوط الديكتاتور الفج ونظامه وأجهزته ورموزه؟ ألم يكن من الممكن والحال تلك ان توطد أركان النظام الفاسد باستعراض جبروته والتباهي امام العالم بأنه حقيقة سدّ ضدّ »التطرف والارهاب والملتحين والطائفيّين« وهو يستحق تبعا لذلك مباركة الصهيونية العالمية والقوى الامبريالية بعد ان سقطت كل أقنعة المعجزة »التونسية« الوهمية والربيع التونسي الخلّب؟