في لحظة تاريخيّة نادرة، وفي غفلة من الزّمن غفت عين الرقيب / الواشي وهي لا تغفو عادة التقط فيها الشعب التونسي بيتا شعريّا خالدًا لشاعر خالد وحوّله إلى صرخة مدوية في وجه أعداء الحياة من أجل حياة كريمة تليق ببني البشر... إذن تحوّل بيت أبي القاسم الشابي الشهير: «إذا الشّعب يومًا أراد الحياة ٭ فلا بدّ أن يستجيب القدر» إلى شعار للثّورة التونسيّة، ومنه صاغت الجماهير الثّائرة سقف مطالبها «الشّعب يريد إسقاط النظام»، وقد أراد الشّعب... واستجاب القدر وسقط نظام الاستبداد والفساد تحت أقدام الجموع الهادرة، وحينها امتلك البيت / الشّعار شرعيّة ثوريّة انضافت إلى شرعيّته الإبداعيّة جعلت له جناحين رفرف بهما عاليا، وحلّق متنقّلا بين ساحات الحريّة وميادين التحرير، وحيث تردّ د صدى الصّوت كُسر جدار الصّمت وحاجز الخوف، وصار نشيد الثورة العربية من المحيط الثّائر الى الخليج الهادر وبامتياز.. وفي إحدى هذه السّاحات ساحات معارك الحريّة وما أكثرها اليوم في وطننا العربيّ ومن تحت الأنقاض والخرائب، تسلّل ضوء خافت تسرّب من بقعة الضّوء هذه صوت خفيض متقطع. هو صوت بشريّ دون شكّ، وبدأ الصّوت يرتفع، ويعلو حتى علا فوق أصوات دويّ القنابل وأزيز الطائرات ولعلعة الرّصاص... بالمناسبة.. هل الرّصاص الوطنيّ أرحم من الرّصاص اللاّوطني؟! أعود إلى الصّوت السيّد أو سيّد الأصوات جميعها. في قلب هذه المعركة معركة الكرامة والكبرياء: كرامة الانسان وكبرياء الأمة هذه الكرامة التي سُلبت منّا منذ زمنين زمن الاستعمار وزمن الاستقلال أو قل زمن الاستبداد على وجه التدقيق... فهل قدرنا ألاّ نكون الاّ بين مطرقة الاستعمار الغربيّ وسندان الاستبداد الشّرقيّ؟ ألا يمكن أن نكون خارج دكّان الحدّاد بعيدًا عن ناره ودخانه وسواده؟ ولا فرق هنا بين دكّان عتيق ودكّان حديث، ولا بين حدّاد بدائي وحدّاد عصري. فكلاهما يوظّف النّار ويطوّع الحديد. أعود إلى الصّوت قبل أن أفقده، وأفقد معه صوتي أيضا. لقد كان صاحبه يخاطب شاعر الأمّة أبا القاسم الشابي. فهل ظهر له طيف الشّابي من بين هذه الأنقاض؟ لست أدري ولكن ما أدريه وما أجزم به الآن هو ارتداد الصّوت وصداه: «أبا القاسم قد أردنا الحياة فثرنا لها واستجاب القدر» انتظرته أن يكمل.. أن يواصل... أن يضيف شيئا... ولكنّه لم يفعل.. لقد سكت... ربّما سكت طوعًا ليلتقط أنفاسه، وربّما أسكت قهرًا وهذا هو الأرجح عندي وقُطعت بعد ذلك أنفاسه... ورأيت أو هكذا خُيّل إليّ في هذه الأوقات العصيبة التي تُنسينا أنفسنا أنّي أرى بين الأطلال يدا مُضرّجة بالدّماء تُلوّح بشارة النّصر، وسرعان ما تختفي اليد ويختفي معها الصّوت.. فهل حمّلني صاحب الصّوت أمانة صوته؟ المهمّ أنّني وجدتني أحمل هذا الصّوت، وأزعم أنّه صوتي وصوت كلّ عربيّ أبيّ في ربيعنا هذا... ربيع الثّورة العربية... وتتصادى أصوات الملايين في اتّجاه واحد وموحّدك «الشّعب يريد.. يريد... يريد...» «أبا القاسِمِ قد أردنا الحيَاةَ وهَا ليلُنا قد بَدَا ينْجَلي وها فجرنا قد أطلّ علينا وذي شمسنا في العلى قد زهت وذا نخلنا شامخٌ في السّمَا وذا يومنا مشرق باسم ونرنو إلى غدنا حالمين أبا القاسم قد صعدنا الجبال ولم نرض غير البلاد بديلاً هُنَا قد أُريقت دمانا وسالت هُنَا مات يحيى هنا مات حامد هُنَا مات ساسي هنا مات قاسم ومات الملاكُ رياضٌ وحاتمْ هُنَا أمسنَا، يومنا، عدنا ومازال شعبي يفكّ القيودَ ومازالت الأم حُبْلى ولُودًا ومازالتِ الأرض تُعطي ودُودًا ومازال أهلي هُنَا صَامدينَ ومازَال أشبالُنَا يعزفُونَ «إذا الشّعبُ يوْمًا أرَادَ الحيَاةَ فثُرْنَا لها واستجاب القدر» (1) وهَا قيْدُنا قد هوى وانكَسَرْ يُطاردُ ظُلْمًا توَارَى اندَحَرْ وذَا نُورُهَا قد سمَا وانتَشَرْ يُلامسُ مجْدًا دَنَا وظَهَر يُراقبُ أمْسًا قَضَى وانْدثَرْ بدفْءٍ ولين وصحْوٍ نضِرْ ولمْ نَرْضَ بالعيْشِ بين الحُفَرْ نمُوتُ ونحْيَا هُنا كالشّجَرْ تُروّي البطَاحَ وترْوي الحَجَرْ هُنَا ماتَ زينُ الشّبَابِ عُمر (2) بعُمْرِ الربيع، ربيعِ العُمُرْ (3) ومَاتَ رِجَالُ شِدَاد آخَرْ (4) هُنَا الأرْضُ والأصْلُ والمسْتَقرّ فنَحنُ نموتُ لِكَيْ ننتصرْ (5) بعزّ الرّجَالِ وخيْرِ البَشَرْ بحُبّ وحبّ واشْهَى ثَمَرْ يَصُدّونَ عنَّا ريَاحَ الخَطَرْ بلَحْنِ عَصِيّ يَهُزُّ الوَتَر: فلابُدّ أن يسْتَجيبَ القدر» علي المكي بالكيلاني ربيع دوز 2011 1 البيت الأول لشاعر عربي لا أعرف تفاصيل هويته. 2 يحيى بن محمد بن يحيى وحامد بن عمر بن عبد الملك شهيدا معركة البرج الشهيرة بدوز بدوز ليلة 29 ماي 1944 وعمر بن بلقاسم بن محمد شهر الدبّ أحد شهداء ثورة المرازيق أُعدم في ثكنة دوز صائفة 1944 بطريقة علما أنّ عدد شهداء المرازيق في معارك التحرير ضدّ المستعمر قد بلغ 91 شهيدا. 3 الساسي بالشاذلي وبلقاسم العايب شهيدا انتفاضة الخبز جانفي 1984 والتي انطلقت شرارتها الأولى من مدينة دوز. 4 رياض بن عون وحاتم بالطاهر شهيدا ثورة الحرية والكرامة صبيحة يوم 12 جانفي 2011. 5 مقولة خالدة لشيخ الشهداء عمر المختار «نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت».