«السلام» هذا الفن اللفظي الحديث في العالم والمُحدث على تونس بشكل خاص، أو هكذا يُخيّل إلينا!.. أصبحت له اليوم رموز تونسيّة تعمل على فرض «سلامها» وكلامها في المواطن التونسي والشارع التونسي والثقافة التونسيّة بكلمات خفيفة لطيفة نودّها أن تكون نظيفة على آذان المستمعين ذائقة وجمالا. هذا الفن هو في الحقيقة واعذروا كبرياء التونسي فيّ فن تونسي مائة بالمائة أوجده ورسّخه فنانون تونسيون بروحهم الفكهة وثقافتهم الشعبيّة المُتأتيّة من الشعب وإليه في أواسط القرن العشرين... هم بعض الفكاهيين الزجّالين كصالح الخميسي والهادي السملالي ومن يتذكر رائعة هذا الأخير «عندي ولدي يا حُضّار» وما فيها من لعب بالكلمات والمُفردات بروح فَكِهَة مرحة فأكيد أنّه سينتصر لاستنتاجي.. لكن وللأسف الشديد وكعادة التونسيين الخلاّقين لم يُكتب هذا الصنف من الفنون المُبتكرة لهم، بل لغيرهم من الكلاميين العالميين. «السلام» في نهايته هو فنّ القول، ومن أقدر من العرب على سحر الكلام فهو لسانهم وملاذهم، وهو في جزء منه مرافقة موسيقيّة خفيفة وبسيطة تواكب لعبة الألفاظ وتقطيعاتها فتضفي عليها ايقاعيّة خاصة سُمّيت في ما بعد ب «السلام»، وهو ما أوجده الخميسي والسملالي فطوّره غيرنا ولا أعرف للأسف ان كان هذا التطوير عن دراية بما قدّمناه أو من خلال مُصادفة بريئة، والأرجح أنّها غير بريئة، فأتى «الراب» ومن بعده «السلام» في شاكلة قول وحركة وموسيقى ايقاعيّ بإيقاعيّة الكلمات. «السلام» أيضا في عُمقه الفرجويّ مُطارحة أو لنقل بعبارة أدق مُبارزة كلاميّة بين معشر «السلامور» والأفضليّة لأكثرهم إقناعا وإمتاعا للجمهور.. والعرب منذ عهد المُعلقات والعُكاظيات يتطارحون القول ولا غالب لهم سوى لسانهم.. واستمرّ التطارح والتنافس اللفظي المتين بين العرب إلى يوم الدين، وهو ما نراه مُنتشرًا اليوم وقبله بسنوات في صفوف الشعراء الشعبيين التونسيين في شكل مُطارحات شعريّة شعبيّة، دون موسيقى دائما أو بمرافقة موسيقيّة أحيانًا من خلال آلة نفخ صحراويّة هي «القصبة» أو «الناي» أو ما شابه. وهذه الفنون التي أعتقد جازما أنّها عربيّة بروح تونسيّة ألفا في المائة، ليست الوحيدة التي أبداع فيها التونسيون لتُسجّل براءة اختراعها لغيرهم من بنّائي «الأفكار» والحفاظ عليها حقًّا وتأليفيًا. «السيتكوم» أيضا هو ابتكار تونسي أصيل، ولكم أن تُعيدوا الذاكرة والتذكّر لسلسلتي «الحاج كلوف» و«أمي تراكي» اللّتين كانتا تُصوّران في فضاء مُغلق وبالشخصيات ذاتها ويكون فيهما البطل دائما الضيف محور الحلقة.. فتعلمون أن قولي حق وأن تحليلي تحليل «ناس ملاح»، فهذا ما تأتيه كلّ «السيتكومات» العالميّة الآن.. لكن ميزة سلسلتيْ «الحاج كلوف» و«أمّي تراكي» أنّهما كانتَا تُقدّمان في شكل مباشر وحي وهي ميزة تونسيّة أخرى تُحسب للمخرجين والممثّلين. وإن أردنا التوغّل أكثر في هذا الطرح الاستباقي للفنون التونسيّة التي ما عادت تونسيّة بتقصير منّا في تسجيل براءة الابتكار العفويّ حقوق التأليف التي لم يقع تفعيلها إلى الآن إلاّ لماما، وهي مُعضلة أخرى.. لوجدنا أنّ فن «الكليب» هو الآخر ابتكار تونسي بوسائل بصريّة تقليديّة بسيطة، فكلّ الأغاني المصوّرة داخليا وخارجيّا لعلي الرياحي وبعضا من أغاني صليحة ك «خيل سالم» أنموذجا، هي نوع خام من فن «الكليب» بمُقوّمات تصويريّة ومشهديّة حديثة قوامها فنّان يُغنّي ومُمثّلة تُجسّد دور الحبيبة وفضاء مُغلق قفر يُعبّر عن خواء الدار من أحبّتها وأهلها. هي فنون لنا ضاعت منّا براءة اختراعها عفوًا أو سهوًا لاعتبارات عدّة لعلّ أهمّها نظرتنا الدونيّة التقليديّة للفن على كونه من الكماليات لا من الضروريات الحياتية التي بإمكانها أن تكون علامة فنيّة مُسجّلة لتونس وثقافتها. اليوم وبعد ثورة الرابع عشر من جانفي المجيدة التي نتمنّى صادقين مُصدّقين عزمها على أن تُعيد التونسي إلى هويته واعتزازه بثقافته ورموزه الفنيّة، وجب علينا جميعًا مُثقفين وفنّانين ومسؤولين الانتباه أكثر لما يُنتجه مُبدعونا، وإلاّ ضاعت منّا فرص أخرى لدخول التاريخ من فنونه السبعة وأبوابه الأماميّة لا الخلفيّة.. فالتونسي بطبعه خلاّق وما ثورة الكرامة التي نُصدّرها اليوم لكل الأوطان العربيّة لدليل على أنّ هذا التونسي كائن خارق للعادة والعادات، بل مُبدع المُبادرات!