ويمثل الواقع الاجتماعي نقطة البداية الفينومينولوجية، حيث يتميز هذا الواقع بالوضوح الذاتي، مما يعني فهمه لا يتطلب بالضرورة تطوير نسق علمي دقيق، وكي يعبر شوتز عن معنى الواقع الاجتماعي نجده يستخدم تعبيرات «كالعالم المحسوس» و «عالم الحياة اليومية للاشارة الى مجال اجتماعي يمكن دراسته باستخدام الفهم الفينومينولوجي، وتشير هذه التعبيرات الى ان العالم الذي يقصده شوتز ليس مكانا خاصا، أو مقولة معينة توجد في أذهان بعض المنظرين، ذلك ان هذا العالم يستند الى طابع ذاتي يمقتضاه يقبل كل فرد وجود الآخرين داخله، وفي ظل الظروف الطبيعية فإن الفرد يفترض ان العالم الاجتماعي يمثل شيئا واحدا بالنسبة الى الأفراد الآخرين، ولقد أوضح شوتز ان المعاني الذاتية المتبادلة لا توجد فقط في مجال العالم الاجتماعي، بل يمكن ان نلمسها في مجال العالم الطبيعي وعلى ذلك يصبح من العبث اقامة التفرقة بين العالم الاجتماعي والعالم الطبيعي، ذلك ان الاشياء التي تنتمي الى العالم الطبيعي يمكن «معرفتها» من خلال العالم الاجتماعي، ويحاول شوتز بعد ذلك تحديد الظروف المحددة لنشأة المواقف الطبيعية في الحياة، فالأفراد لا يتلقون فقط فهما حدسيا للأشياء التي تدخل في نطاق الادراك الخارجي، ولكنهم يدمجون ويستوعبون مستويات المعاني الدنيا ارتباط الاشياء المادية بأهداف ثقافية، إن ذلك يمثل جوهر العملية الاجتماعية بأكملها، فالمعاني تصل الى مرتبة الواقع حينما ترتبط بأحداث ووقائع العالم، وهنا نجد شوتز يؤكد ان الواقع الاجتماعي يتغير ويتعدل من خلال أفعال الافراد، تماما كما تخضع هذه الافعال بدورها الى تأثير الواقع الاجتماعي، أي أن هناك علاقة جدلية تربط الواقع الاجتماعي بالافعال الاجتماعية، ويميز شوتز بين مجالات مختلفة للواقع الاجتماعي، يعبر كل منها عن نمط مستقل من الوجود وحدود واضحة للمعاني، ومن أمثلة هذه المجالات: مجال الحياة اليومية، ومجال الأحلام، ومجال العلم، ومجال الخبرة الدينية. وفي كل من هذه المجالات نجد اطارا محددا ومحدودا من الخبرات الحياتية بعبارة اخرى فان مجالات المعاني لا تتطابق ولا يمكن استبدال بعضها ببعض آخر. وإذا ما حدث ذلك تفككت المعاني وفقدت وحدتها وتماسكها، ويعبر شوتز عن ذلك قائلا: «إن مجالات الاحلام والفن والدين والتفكير العلمي هي مجالات مستقلة عن بعضها البعض، بحيث يصعب استبدالها أو تحويلها، والواقع ان معالجة شوتز لمجالات المعاني لا تنفصل عن معالجته لقضية البناء الاجتماعي، فهو يذهب الى ان الفرد يخضع الى مواقف يستطيع ان يؤثر فيها بقدر ما يمتلكه من سيطرة عليها، وبالتالي فان سياق المعاني الذي يعبر عنه يمثل جزءا من نظام موضوعي، غير ان شوتز يقر بعد ذلك ان مثل هذه المواقف محدودة غالبا، وترتبط بظروف خاصة أهمها الطابع التاريخي للبناء الاجتماعي وتأثيره على أفعال الانسان، ومعنى ذلك ان الافعال الاجتماعية تميل الى اتخاذ طابع نظامي داخل سياقات اجتماعية محدودة، ويبدو البناء الاجتماعي في نظر شوتز وكأنه اطار واضح دقيق يضم نشاطات الحياة اليومية التي يمارسها الافراد، والواقع اننا لا نلمس هنا اختلافا ملحوظا بين تصور شوتز للبناء الاجتماعي، وتصور علماء الاجتماع «التقليديين» له، اذ نلمس تأكيدا لدور بعض العناصر البنائية المألوفة كتقسيم العمل، وتباين الادوار، وتأثيرها اللاحق على مجالات الخبرة الانسانية، وفي ذلك يقول شوتز: «يدخل كل انسان في علاقات مع الآخرين، وبذلك يصبح عضوا في بناء اجتماعي قائم بالفعل ومعنى ذلك: ان البناء سابق في وجوده على الفرد، ولكل بناء اجتماعي شامل مجموعة من الملامح البنائية كالعلاقات القرابية وجماعات العمر، فضلا عن تقسيم العمل والتباين طبقا للمهن، ويحكم البناء الاجتماعي ضرب من توازن السلطة، فالقادة هم الذين يتولون مهام التوجيه، مما يؤدي الى ظهور سلطات متدرجة داخل المجتمع. وإذا كانت كتابات شوتز قد أحدثت تأثيرا واضحا على مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، فان تصوراته عن العلم والمعرفة قد أصبحت الآن أحد الركائز المهمة التي يستند اليها علم الاجتماع المعرفي، فلقد ذهب شوتز الى ان هناك تيارين فكريين داخل العلوم الاجتماعية يحاول كل منهما دراسة الواقع الاجتماعي: التيار الاول يسعى الى دراسة هذا الواقع بنفس الطريقة التي تدرس بها العلوم الطبيعية ظواهرها، ومعنى ذلك ان هذا التيار يسلم بصحة المناهج المستخدمة في العلوم الطبيعية وقدرتها على فهم ظواهر الانسان، أما التيار الثاني فانه يسلم بوجود اختلافات جذرية بين العالمين الطبيعي والاجتماعي، وبالتالي فإن هناك فروقا أساسية بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، ويعتقد شوتز ان هذين التيارين ينطويان على قصور واضح، فيما يتصل بالتيار الاول هناك افتراض قائم بأن تبني مناهج العلوم الطبيعية يؤدي الى معرفة يقينية بالواقع الاجتماعي، ومن شأن ذلك ان يؤدي الى صعوبة إن لم يكن استحالة فهم موقع الناس داخل اطار الحياة اليومية، وهو هدف اساسي للعلوم الطبيعية، أما التيار الذي يرفض تماما الاعتماد على مناهج العلوم الطبيعية فانه يتجاهل ايضا حقيقة مهمة هي ان الحياة الاجتماعية لا تخلو من نظام وانتظام يتعين اكتشافهما من خلال الاساليب الامبيريقية، ورغم ان شوتز قد سلم بوجود أنماط متعددة من الواقع الاجتماعي، وان كلا منها يعبر عن مجال محدد من المعاني بحيث يصعب الانتقال بين واحد وآخر، الا ان اسهامه (اي شوتز) المنهجي كان متميزا عن اسهامه النظري في هذا المجال، فإذا كان الانتقال عبر مجالات المعاني عسيرا، فان الانتقال من مجال الحياة اليومية الى مجال المعرفة أمر ممكن، وفي ذلك يقول شوتز: إن القضية الاساسية التي تدور حولها العلوم الاجتماعية تتمثل في تطوير منهج شامل من خلاله يمكن معالجة المعاني الذاتية للأفعال الاجتماعية بطريقة موضوعية و يجب ان تظل الانساق الفكرية السائدة في العلوم الاجتماعية منسقة مع هدفها الاساسي وهو فهم الانساق الفكرية الشائعة بين الناس خلال حياتهم اليومية، وذلك بهدف تحقيق فهم أعمق وأشمل للواقع الاجتماعي، ومن خلال هذا النص يتضح لنا ان شوتز لم يكن بعيدا عن فيبر في تصوراته المنهجية والنظرية، مما يفرض علينا مناقشة هذه القضية بسبب ارتباطها الوثيق بجوهر النظرية الاجتماعية المعاصرة. صاغ الفريد شوتز تصوراته الفينومينولوجية لعلم الاجتماع بعد ان أنجز تحليلا نقديا شاملا لاسهامات المدرسة الصورية في علم الاجتماع، كما يعبر عنها ماكس فيبر اWeberب وكي نحقق لمناقشتنا هذا الموضوع الفكري، فقد يكون من المفيد اقتباس تعريف فيبر لكل من علم الاجتماع والفعل الاجتماعي يقول فيبر «علم الاجتماع هو العلم الذي يحاول تقديم فهم تفسيري للأفعال الاجتماعية بهدف الوصول الى تفسير سببي لمجرياتها ونتائجها، اما الفعل الانساني فانه يكتسب طابعه الاجتماعي من خلال المعاني الذاتية المرتبطة به ذلك ان الفرد في سلوكه انما يأخذ في اعتباره توقعات الآخرين، ولقد بدأ شوتز هجومه على فيبر باتهامه بالسطحية والعجز عن الدخول الى أعماق المعرفة الاجتماعية، واذا كان فيبر قد أوضح ان المعنى الذاتي يتطلب تحليلا دقيقا، الا انه قد افترض ان الفعل الهادف يمثل الوحدة الاساسية التي لا يمكن ردها او اختزالها، أما شوتز فيتخذ موقفا معارضا، ذلك لأن هذا الفعل هو مجرد تعبير عن مجال بالغ التعقيد يحتاج الى دراسة متعمقة واعية، ويعتقد شوتز ان فيبر لم يفرق بوضوح بين الفعل الاجتماعي الذي هو في طور التشكل والتكوين، والفعل الاجتماعي المكتمل، ويبدو ان فيبر قد نظر الى قضية المعنى نظرة كلية شاملة مخالفا بذلك شوتز، الذي نظر الى المعنى في ضوء نسق معقد مؤلف من منظورات متعددة، ورغم أن فيبر قد أبدى وعيا بهذه النقطة، الا انه قدر ربط كل ظواهر العالم الاجتماعي بقضية المعني، مؤكدا في نهاية الامر فكرة الاتفاق الذاتي المتبادل هنا نجد شوتز يبدي معارضة صريحة لفيبر. ذلك انه (أي شوتز) قد طالب بضرورة تحليل الافتراضات الاساسية التي لم نتعرض بعد لفحص دقيق، واذا لم يتحقق ذلك، ظهرت مشكلة خطيرة هي انتقال التصورات الشائعة الفجة الى مجال علم الاجتماع. ويوضح شوتز وجهة نظره ذاهبا الى ان الظواهر الاجتماعية تتشكل من مفاهيم شائعة متداولة، وان علم الاجتماع لا يستطيع إنكار التحليل العلمي لهذه المفاهيم الواضحة بذاتها.