قد يتراءى للبعض أن هذا المقال قد جاء متأخّرا عن الظّرف الّذي كان يجب أن يصدر فيه خصوصا مقارنة بالأحداث وموجة الاحتقان التي شهدنا بعض آثارها سواء في الحملة التي شنّت ضدّ محمد الطّالبي مثلا أو أيضا لمساندته. قد تكون بلغت أوجها بعد المناظرة التي نقلتها إحدى الإذاعات بين الطّالبي و الأستاذ عبد الفتاح مورو.... ربّما اخترت أن أنشره الآن لاعتقادي أوّلا: أن ما سأقوله لا أريده أن يكون مرتبطا بحدث بعينه بل برؤية أعمل على تأسيسها من خلال جملة من المداخل في دراسة الثّقافة الإسلاميّة.ثانيا أن ما أعمل على توضيحه في هذه الرؤية التأكيد على الجانب النقدي في دور المثقف تحديدا وما يفتقده من نضج إلى حدّ الانخراط السّهل فيم تمارسه وسائل الإعلام جهلا أو كيدا من إذكاء لجذوة العنف والعنف المضادّ.وهو ما كنّا لمسنا صداه في سلسلة من البرامج قبل فيها المفكّر التونسي في عديد المناسبات أن ينخرط في المنطق الحدّي.وقد عملت هذه الوسائل بعيدا عن سوء النية أو حسنها على تأجيجها في تنظيم ملفّات حول الحجاب مثلا أو علاقة القرآن بالسنة أو بالشريعة وغيرها. وهي ملفات أو مناظرات كانت تفوح منها رائحة استبلاه ورجعية ذكرتني بتاريخ قناتنا الموقرة التي لم تجعلني لحد الآن أستطيع أن أناديها بغير قناة (7). إن السياق طبعا لا يحتمل الانتصار لأي موقف كان، بقدر ما هو توجيه انتقاد لمفكر كانت مسؤوليته التاريخية تحتم عليه أن ينأى بنفسه عن الدخول في مهاترات إيديولوجية لا معنى لها و ترفضها أبجديات أدبيات المناظرات كما ترفضها تباعا مقتضيات الفعل الحضاري والتاريخي لمثقف يدافع أساسا عن مشروع فكري بتطلعاته و نكوصاته. وهو ما لا يمكن بحال أن يوجه للسياسي الذي يدافع عن مشروع سياسي له أن يبشر به وأن يغتنم كل فرصة للترويج له بوسائل شتى. خصوصا تحت ضغط الاستعداد للدخول في رهان انتخابي مثل انتخابات المجلس التأسيسي.وهو ما لا يسمح به لمثقف مازال يعاب عليه بشدة غيابه شبه الكلي في أحداث 14 جانفي والدور السلبي الذي لعبه لسنين طويلة في استهداف ثقافة المواطن التونسي و خلق فراغ ثقافي متقع.وبالتالي فلا يقبل منه بأي حال من الأحوال أن ينخرط بهذه المجانية في التموضع في سياق تجهيل واستبلاه في الوقت الذي يطلب منه أن يتحمل مسؤوليته التاريخية فرصة أخيرة ولو متأخرة . وربما يقودنا هذا إلى سؤال مشروع في هذه المرحلة بالذات عن دور المثقف عموما والمبدع المفكر على وجه الخصوص؟ هل هي الانخراط مجانيا في صراع لا يمكن أن يؤثّر إلا النّفور في الشّارع التّونسي الّذي لم يرى من هذا الصّراع إلا مسّا من عاطفته الدّينية دون الأخذ في الاعتبار طبيعة المرحلة ولا غياب تقاليد فتح باب الحوار في مسائل تتعلّق عميقا بهويّته ولعلّنا في أمسّ الحاجة إلى ذلك بعيدا عن أي شكل من أشكال التّوظيف الأيديولوجي الرّخيص. أم أنّ مهمّة المفكّر التّونسي بالذّات تقتضي منه استجابة لطبيعة المرحلة العمل على بناء ثقافة بديلة قادرة على التماسك والعطاء والتغيير بعيدا عن استبطان منطق العنف والإقصاء. ولو في صورة رد فعل انفعالي بحت ذلك من أجل ثقافة تتأسس على المواطنة والحداثة والديمقراطية. اسمحوا لي أن أتوجّه بسؤال حارق للدّكتور الطاّلبي ولكلّ من قادته الحميّة (تعاطفا أو من منطلق مبدئي ينتصر لحريّة الرّأي كما يتصوّرها) لخوض صراع فكري مضادّ لتيّار سياسي.أقول هذا عن وعي بأنّ الصّراع أخذ طابعا فكريّا في بدايته وانزلق بسهولة لصراع أيديولوجي وسياسي لأنّ الخصم نجح في استدراج المفكّر وكلّ من حذا حذوه أو تعاطف معه إلى حلبته السياسية فتحوّل إلى صراع بين تيّار فكري وحزب سياسي: فالوسائل الدكتور الطالبي إذن: ما الذي يمكن أن يستفيده التونسي في ظلّ حكومة يسود الضّباب أداءها في ظلّ غياب ثقافة سياسيّة لدى المواطن وتغييب للوعي تراكم لأكثر من خمسة عقود ؟ما الذي يمكن أن يستفيده في ظلّ هذه الحيرة والاضطراب تجاه سؤال الهوية الحارق من طرح مسألة الحجاب.مثلا؟وهي مسألة لم تمثّل إشكالا اجتماعيا بقدر ما وقع تسييسها لعدّة سنوات؟ وحتّى إن أثارت جدلا فبسبب الفراغ الثقافي الذي جاء نتيجة تنصّل المثقّف من مسؤوليته . ما الذي يمكن أن يستفيده من علاقة القرآن بالشّريعة في ظلّ الواقع المدني الذي يعيشه التونسي بحكم خصوصية الثقافة الإسلامية في بعدها الاجتماعي في تونس و الغرب الإسلامي عموما مقارنة بالخليج أو الشّرق؟ الإسلام في بعده الثّقافي والحضاري هو جزء لا يتجزّأ من هويّة التّونسي بقطع النّظر عن انتماءه العقائدي أو الدّيني. وقد تلوّن هذا بخصوصيّته التّاريخية والجغرافية ليأخذ بعدا اجتماعيا لا يمكن أن ندّعي أو نسعى لمطابقته مع أي قراءة أو تصوّر آخر. هذه حقيقة أظنّ أنّنا إن لم نعيها يكون المثقّف قد خسر أول رهان له مع مسؤوليته التاريخية. ولا يمكن أن نتحدث عن تحديث للثقافة ومدنية للدولة ونحن لم ننجح أولا في الفصل في أطروحاتنا بين ما هوفكري وما هو سياسي.وثانيا في خلق مسافة عن منطق الصراع والعنف وجلد الذات من أجل دفع تهمة الكفر في مقابل الاتهام بالرجعية.وإلا يكون الآخر/ السياسي قد نجح في جرنا إلى منطق تعميق التصحر الثقافي عوض العمل على تجاوزه وملئ فراغاته.وذلك تكفيرا عن خطيئته التاريخية تجاه شعبه وبلده. المسألة طبعا بعيدة كل البعد عن تبرير العنف الفكري الذي مورس ضد الطالبي وغيره.لكن بعيدا أيضا عن تجريم أو تبرئة الطالبي وهو منطق لا يقنعني كثيرا طريقة في التعامل مع التيار السلفي بكل تلويناته. قد أستحضر مثلا للطالبي الخطأ في اختيار التوقيت لخوض معركة حرية الفكر والإبداع مما سهل على التيار السلفي أن يلعب دور الضحية وتحويل وجهة التصادم من تصادم مع أفكار بعينها وتيار ديني بعينه إلى تصادم مع الدين نفسه .وهذا من شأنه أن يحوله إلى عنف مضاد . وحول سؤال لصالح من؟أو لحساب من ؟عديد نقاط الاستفهام قد تجيبنا عن بعضها اختيار قناة حنبعل رغم تنديد المنددين إعطاء متسع من الوقت للشيخ مورو ليستمر في حملته الانتخابية التي بدأها منذ مدة لكن بشكل أكثر عمقا ومراوغة . فيبشر بمشروع يدافع باسمه لا فقط عن الدين الإسلامي بل حتى عن هوية الشعب التونسي وما يحتاجه في مستقبله الثقافي والسياسي. وهذه لعبة أديولوجية لا قبل بها لمفكر أعيي الكتب وأعيته. لا يتواصل مع جمهوره الوحيد إلا عبر ما يكتب أو في ما يراه من صدى في أعين طلبته .قد تظل بعيدة عن هموم شعبه ومشاغله الفكرية والاجتماعية للطابع النخبوي الذي يطغى عليها. ينضاف إلى ذلك الحالة التي تطبع الشارع التونسي من اهتزازات بسبب الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحالة عدم الاطمئنان وضبابية المستقبل السياسي للبلاد حد الخوف والاهتزاز. ورغم أن الأمر يبدو أقل خطورة إذا ما عكسنا المسألة فإن ما يطرحه حزب سياسي على نفسه في مشروع سياسي لابد أن يناقش سياسيا وذلك لأن الخطاب السياسي له آلياته وخصوصياته. لعل أهمها القدرة على المراوغة ومحاصرة الخصم ومواجهة المراوغة والمواجهة المضادة بآليات أديولوجية صرفة لا فكرية لكسب تعاطف الرأي العام خصوصا في مسألة تخص معتقده وهويته و بالتالي تعمل على تعبئته. من هذا المنطلق أجلت مناقشة مضامين المناظرة والتفاعل النقدي مع موقف الطالبي تحديدا وهو ما يهمني وأراه ضروريا .وذلك لعدة اعتبارات منها: ألا أنخرط في منطق الصراع عن وعي وإصرار وترصد.لكن مع ذلك سأكتفي بالتمهيد لذلك بجملة من الملاحظات العامة قد تصلح مهادا نظريا لمناقشة سلسلة من الأطروحات في الفكر العربي المعاصر تتنزل بصفة متفاوتة في نفس السياق. إن ما سبق وتحدثت فيه يبين أن أكثر ما قد يقلق في المسألة الجانب المبدئي. لكن المتمعن في مضامين أطروحات الطالبي و كل من لف لفه و تعاطف معه باسم الدفاع عن حرية المعتقد قد انزلق في مناقشة شرعية ما يطرحه الطرف الآخر. وهو منزع يجعل المفكر خصيما في معركة لا معنى لها ،غير إصرار على امتلاك الحقيقة والأحقية بامتلاك المعنى في الوقت الذي ندافع لنزعها عن الخصم. فمثلا لا أرى معنى لإثبات شرعية الحجاب أو عدم شرعيته في الوقت الذي أنادي فيه بحرية أن ألبسه أو لا ألبسه وإلا أكون قد انزلقت إلى دور الخصم بشكل معكوس. وهو أضعف مجال وأخطره يمكن أن يجرني إليه خصمي في المناظرة في مقابل قوة وعمق جدلي معه في منطق قبول الاختلاف.وهذا في رأيي تجب قراءته في اتصال مباشر وعميق بهذا الهوس الذي نراه دائما عند مفكرينا في الثقافة الاسلامية :هاجس إثبات الانتماء الى الإسلام والتبرئة من تهمة الكفر. مازلنا للأسف الشديد نتعامل مع «القوى الرجعية» (والتسمية لمن يصفون أنفسهم بالتقدميين) بمنطق يستبطن باستمرار محاولة رفع تهمة الكفر وإثبات أن الإسلام تباعا بعيد كل البعد عن الفهم الرجعي والمتخلف لهذه القوى (تبرئة الإسلام من المسلمين) أي أن فهم القوى التقدمية هو الأقرب من غيرهم للإسلام وكل فكرة رجعية (القوامة، الحجاب،تعدد الزوجات، الجهاد...) الإسلام بريء منها. وهذا يتناقض مع فكر يدعي ضرورة تطوير الفهم في اتجاه حرية الفكر و الاختلاف في التأويل. قد نفسر هذا بقناعة لازالت تسكن مشاريع التحديث ورموزهم تتمثل في أن حلبة الصراع :التراث هي بالأساس ملك الماضويين لهم الأولوية فيه.وكل متمسك برهانات الحاضر وتتطلعاته عليه أن يصارع من أجل اتخاذ مكان فيه .وهكذا يتحول ما هو فكري و ينزلق بسهولة في متاهات المنطق الأيديولوجي والسياسي. فالقوى التقدمية لا تستطيع أن ترى في هذا التراث جزء تتأسس عليه هويتها. لا أدعو لذلك طبعا من منطق عقائدي بل من منطق حضاري. وهي عقدة استعلاء جعلتنا نرى أنفسنا زوارا وافدين على هذا التراث وكل المتمسكين به جزءا من هويتهم أو كلها. مما يعزز مركزية القوى السلفية ويعطي صورة مهزوزة لمن هم في أشد الحاجة الى مثقف يملأ هذا الفراغ الثقافي المتقع ويردم هذه البؤر بيننا وبين ماضينا لإنشاء حاضر غير مريض بهوس الماضوية كما التقدمية والتحديث. إذا كان الباحث في الثقافة الإسلامية يطرح على نفسه مهمة المساهمة الفعالة في بناء ثقافة بديلة وبالتالي العمل الميداني بشكل أكثر قربا من احتياجات هذا الشعب، فلابد أن يحاول التأسيس لثقافة لا تستبطن العنف ولو بمنطق التبرئة ودفع التهم والقطع بين الإسلام وسياقاته التاريخية ولو بشكل معكوس . وهو ما يحتم الدفاع عن ثقافة الاختلاف عوض تكريس ثقافة الخطأ والصواب التي نعيبها على الآخر ونعتبرها مَسًّا من حرية المعتقد. وهو تعامل يمكن أن نسحبه على تعاملنا مع كل المختلفين عنا كما نسحبه على قراءتنا لتاريخنا و تراثنا كعمق تتأسس عليه هويتنا دون منازع.عندها فقط يمكن أن نفتح الباب على قوة رؤية وتأويل للنص الديني قادرة أن تحسن الاتجاه بالعمق الروحي الذي يجذره فينا الانتماء العقائدي والحضاري إلى حيث يمكن أن نذود به على مكاسب هذا الشعب وتاريخه وخصوصيات كل انتماءاته بعيدا كل البعد عن الوعي المهزوم بمن يتربص بحريتنا كما نتربص نحن بإسلامه.