وباختصار،كانت ظاهرة التدين في مدينة دمشق تنطوي على ابعاد اساسية يرتبط بعضها بالوظيفة العلمية والثقافية التي كانت تؤديها المدينة في الوطن العربي عموما،وفي بلاد الشام بشكل خاص ويتعلق بعضها الاخر بالوظائف الاجتماعية للدين وخاصة الظروف السياسية الاقتصادية غير المستقرة. ويتصل البعد الثالث بعمليات التوظيف السياسي للدين التي ادت الى تعزيزمظاهر التنوع الاجتماعي بين السكان، وجعلت منه تعدّداوتباينا. والملاحظ انّ ظاهرة التديّن اخذت تمتد في الحياة الاجتماعية لتظهر جليّةواضحة في عادات السكان وتقاليدهم وافكارهم،وفي القيم الاجتماعية،والمعاييرالاخلاقية المحددة لاشكال سلوكهم وانماط صلاتهم مع بعضهم بعضا. واكثر ما تجلى ذلك في القيود الاجتماعية،التي ظهرت امام حركة المراة، ونشاطاتها الى درجة انّ هذه القيود تجاوزت في الكثيرمن الحالات ماشرّع به الاسلام ومابينه الله عزوجل في محكم كتابه الكريم، وكل بفضل قوة التحديات التي جابهت هذه المدينةوضراوتها. رابعا الإدارة العثمانية وتوظيف المشاعر الدينية يلخص المتتبع لتاريخ الادارة العثمانية في البلاد العربية عامةوفي بلاد الشام بصفةخاصةمحاولات هذه الادارة منذ بدايات وجودها في هذه البلاد توظيف شعارات عاطفيةودينية لتسويغ إدارتها وتدخلها في الشؤون العربية،خاصةعندما بث اتباعها فكرة دفاعها عن الاسلام والمسلمين،وحمايتهم من الاخطار التي تهددهم من الغرب والشرق على حد سواء،وقد ساعدتها في ذلك مجموعة من الظروف السياسية المحيطة التي رافقت حملاتهاعلى بلاد الشام. امّا التهديد القادم من الغرب فغالبا ماكان يقترن في ذهن السكان بذكر الحروب الصليبيةوما تركته بينهم من دماروويلات،وقد ساعد تركيا على ذلك انّها تقيم علاقات صراع وحروب مع بعض الدول الاوربية التي تدين بالمسيحية،بينما كان التهديد القادم من الشرق يقترن بذكر حملات،تيمورلنك،اضافة الى انتشارمذهب الشيعة الامامية (المذهب الجعفري) على اعتبار انه البديل لمذاهب اهل السنة.وكان من نتيجة ذلك انه سرعان ماوجدت الدولة العثمانية لنفسها انصاراومؤيدين لا حصرلهم في مختلف المناطق والنواحي والاقاليم كل ذلك فضلا عن سوء الاوضاع الاجتماعيةوالاقتصادية للسكان على اثرضعف دولة المماليك وتشتت قواهم،وعلى اساس ذلك حاولت السلطة انّ تمد بجذورها في ارض الواقع العربي،وفي مجتمع مدينة دمشق بشكل خاص.وفي ضوء هذه الظروف بنت الادارة العثمانية استراتيجيتها، وعلاقاتها مع الطوائف المنتشرة في المدينة. وشكل هذا التصور الأساس الذي يمكن الاعتماد عليه لتفسير الفتاوي العديدة التي كانت تصدر بين آونه وأخرى، وتتيح للسلطة امكانية التعامل مع الطوائف المختلفة في ضوء مصالحها، وفي ضوء التغييرات السياسية على المستويين الدولي والمحلي، فلم يكن في مقدور السلطة العثمانية ان تستقر في البلاد ولم تشجع مظاهر التعليم الديني الذي يقترن في اغلب الاحيان بنمو الاحساس بالخطر القادم من الشرق والغرب على حد سواء ولم يكن في مقدورها استقطاب عدد كبير من الفقهاء والعلماء لو لم ترفع شعار حمايتهم وحماية الاسلام. الإدارة العثمانية ومراتب علماء أهل السنة رغم أن الدولة العثمانية اعتمدت على الدين الاسلامي بشكل رئيسي لتسويغ شرعية سلطتها السياسية، على اعتبار أنها المدافع الحقيقي عن الاسلام والمسلمين، الا ان هذه السياسة انتهت الى تعزيز مظاهر التباين بين الطوائف الاسلامية، وجعله مظهرا من مظاهر الصراع والتناقض، وعاملا من عوامل الصراعات الداخلية التي تضمن هيمنة السلطة ونفوذها السياسي. لقد حاولت الدولة العثمانية احتواء العلماء والفقهاء من المسلمين من اهل السُنة، وعملت على استمالتهم في سلم وهمي صنعته لهم من الرتب والرواتب لشل دور الفقه الاسلامي، والاجتهاد الا بما تسمح به مصالحها، وما تقرره ادارتها ويجد »محمد كرد علي« ان الدولة العثمانية أخذت تتدخل في شؤون العلماء، وتخترع لهم من الرتب والرواتب ما يرضي نفوسهم، ويلبي حاجاتهم وتزيد من عطاءاتها لهم، حتى كثر التنافس بينهم في مدحها، والثناء عليها، حتى اصبح في مقدور السلاطين استصدار الفتاوي بقتل الابرياء الذين تغضب عليهم الدولة لأي سبب من الاسباب ويعد منصب القضاء من اكثر المناصب الدينية أهمية، ولما كان المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي للدولة لزم ان يكون قاضي القضاة في دمشق، وفي غيرها من الولايات من اتباع هذا المذهب، وهو يرأس جهاز القضاء، ويعين من استانبول لمدة عام، ويساعده في عمله قضاة آخرون من المذاهب الأربعة، يطلق عليهم اسم نواب القاضي، ولم يكن لهم اية أجور نقدية من الدولة، وانما كان لهم الحق في استقطاع نسبة (5،2٪) من قيم الاشياء التي جرى التقاضي بشأنها، يدفعها من يربح الدعوى غير ان القضاة كثيرا ما كانوا يطالبون بنسبة أعلى من هذه النسبة، خاصة ان اجراءات كانت تباع وتشترى في استانبول، وتعطى لمن يدفع أكثر. ويأتي منصب الافتاء في الموقع الثاني من الأهمية، والمفتي هو المرجع الرئيس في المسائل الفقهية، والمفسر لأي اشكال قانوني، وكانت مهمته مراقبة القرارات التي تتخذها المحاكم، ويتم تعيينه من شيخ الاسلام في استانبول ويسمى هذا الاسم في بلده ايضا، وللمفتي ان يجمع مناصب ادارية ودينية بالاضافة الى منصب الافتاء. كما أولت الدولة اهتماما كبيرا بالاشراف الذين ثبت انتماؤهم الشريف الى الامام علي الا أن معظهم كانوا من اهل السنة، وقلة منهم من اهل الشيعة ويذكر المؤرخون ان عدد الاسر التي كانت آنذاك بلغ احدى وعشرين أسرة، منها اسرة واحدة من الشيعة الاثني عشرية، وتسع أسر من المذهب الحنفي، وثماني أسر من المذهب المالكي، وثلاث أسر من المذهب الشافعي، وقد تمتعت هذه الاسر بمزايا اجتماعية ودينية، وقانونية، واقتصادية خصتهم بها الدولة العثمانية وتمتعوا بريع ممتلكات خاصة كانت وقفا لهم. وأكثر ما يدل على ان الدولة حاولت تقريب العلماء، واحتواءهم انه كان لبعضهم نفوذ سياسي واجتماعي في استانبول الى درجة قدرته على مخاطبة الدولة العثمانية هناك، ويكون سببا في عزل الولاة في دمشق، كما حدث لأحمد باشا قهرا عنه سنة 1199 للهجرة، كما كان بعض المشايخ يتلقون دعوات رسمية من السلطات لزيارة استانبول لضمان دعمهم له في اجراءاته الاصلاحية. وقد دفعت سياسة التمييز بين المذاهب الاسلامية الأربعة مذاهب اهل السنة / وجعلها اتباع المذهب الحنفي في المقام الاول بالمقارنة مع المذاهب الاخرى الى تحول عدد كبير من اتباع المذاهب الاخرى الى المذهب الحنفي إظهارا منهم لولائهم للدولة العثمانية. الإدارة العثمانية وطوائف الشيعة تنتشر طوائف المسلمين من شيعة، وعلويين، واسماعيليين، وغيرهم على امتداد المنطقة الغربية من سوريا، وخاصة الساحلية منها، ويعود وجود هذه الطوائف في المناطق المشار اليها الى ما قبل الاحتلال العثماني بفترات طويلة، اضافة الى انتشار اعداد كبيرة منهم في العراق، وخاصة في مدن بغداد، والنجف، وكربلاء، وغيرها، ورغم سعة هذا الانتشار لم تُولِ الدولة العثمانية اهتماما كبيرا بسكان هذه الطوائف، الامر الذي برزت آثاره واضحة في أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتنوعة وقد تأثرت سياسة الدولة نحو الشيعة عموما بعاملين اثنين: أولهما إحساسها بأن لهؤلاء الشيعة ارتباطات وثيقة مع الدول المجاورة، وخاصة ايران، أو الدولة الصفوية، التي تنافسها السيطرة على المنطقة العربية، لذلك كانت تنظر الى السكان الشيعة بشيء من الحذر والترقب، أما العامل الثاني فكان يتمثل برغبتها في كسب الرأي العام بين اهل السنة ونيل ثقتهم لكونهم يشكلون أغلبية السكان، فقد تترتب عن اهتمام الدولة بأوضاع الشيعة، أو تقريبهم آثار سلبية من شأنها ان تفقدها الكثير من ثقة علماء السنة الذين ينتشرون في معظم البلاد، ويشكلو ن دعائم قوية لسلطتهم، كما ان ذلك يتنافى مع الشعارات التي تنادي بها منذ دخولها الاراضي العربية، وهي الشعارات القائمة على ضرورة حماية اهل السنة من انتشار مذهب التشيع، علاوة على ان من شأن هذا العمل ان يقوي الدولة الصفوية، ويعزز من قدراتها، وفي ضوء هذا الواقع يمكن فهم سياسة الدولة العثمانية نحو هذه الطوائف. بدأ السلطان العثماني زحفه الى بلاد الشام، وهو يرفع راية الدفاع عن الاسلام، وعن مذاهب اهل السنة تحديدا، موظفا بذلك مظاهر التنوع في الواقع الاجتماعي والسكاني لتعزيز الهيمنة السياسية، ولاستقطاب الرأي العام السني، وخاصة على اثرها ما تركته مجازر (تيمورلنك) الوحشية في كل من دمشق، وحلب بحق المسلمين من اهل السنة. لذلك سرعان ما دبّر السلطان العثماني مذابح جديدة بحق العدد الكبير من الشيعة العلويين في كل من حلب، وحماة، والمناطق الساحلية، مارس الأتراك خلالها أشكالا مختلفة من التعذيب بحق السكان، وخاصة التعذيب بالوتد الذي ينتهي الى الموت المحتم بعد ايام من تثبيته عليه، وهو التعذيب الذي كان يعرف آنذاك بتعبير (الخازوق) الطويل. ولم يكن هذا النوع من الاعدام يحتاج الى محاكمة، أو موافقة من السلطان، لأن رجال الدولة كانوا مأذونين بممارسته دون الرجوع الى السلطة التي أتاحت لهم ذلك ظنا منها ان الامر يساعدها في كسب الرأي العام السني، كما انه يفرض شكلا من الرهبة والخوف في نفوس السكان، مما يجعل أبواب المدن السورية مفتوحة امام جيوشها بوصفها حامية للاسلام، كما ان ذلك يسهم في وضع حد لأي مقاومة يمكن ان تظهر في هذه المدينة أو تلك. ولم تكتف الدولة بذلك، بعد ان استقرت أمورها السياسية، وضمنت تبعية السكان في المناطق المختلفة حتى فرضت عليهم الضرائب المرتفعة والأتاوات التي لا يستطيعون دفعها لعجزهم عن ذلك ولضعف مستويات انتاجيتهم الى درجة ان الشيعة امتنعوا عن دفع الضرائب طيلة خمسة وعشرين عاما تقريبا (طيلة الفترة الممتدة بين عامي 1844 وحتى 1865). وبلغت الضرائب المتراكمة عليهم قرابة 15 مليون قرش، الى ان قامت حكومة الولاية بتجهيز جيش قوي وارساله اليهم، والحصول على استحقاقات الدولة بالقوة، فهاجمت السكان وأحرقت بيوتهم، ونكلت بالاهالي ودارت بين افراد الجيش العثماني والمواطنين معارك عديدة لم تستطع الحكومة بعدها ان حصل على اكثر من 9 آلاف فقط من اجمالي المبلغ المطلوب،. واصبحت قضية هذه المبالغ قضية حكومية يتسابق الولاة في المتاجرة بها على حساب الفقراء من الفلاحين. كما كانت لحوادث كربلاء سنة 1842 آثار كبيرة في نفوس الشيعة المقيمين في سوريا، ومدينة دمشق، فقد قامت الدولة العثمانية بالهجوم على سور مدينة كربلاء، وحاصرته لفترة 23 يوميا، ثم دخلت المدينة بعد ان هزمت القوات الأهلية وقتلت اكثر من 4000 شخص، وقيل أكثر. وقد سوّغت السلطات العثمانية سياستها هذه بالاعتماد على مجموعة من الفتاوي التي أصدرها بعض العلماء من المسلمين السنة، وخاصة تلك الفتاوي التي عرفت باسم الفتاوي الحامدية، التي تجاوزت حدود تكفير أهل الشيعة الى تكفير من يدافع عنهم، أو يتهاون في محاربتهم ومقاتلتهم، فقد جاء فيها »اعلم أسعدك الله ان هؤلاء الكفرة والبغاة الفجرة جمعوا بين اصناف الكفر والبغي والعناد وانواع الفسق والزندقة والالحاد، ومن توقف في كفرهم، وإلحادهم، ووجوب قتالهم، وجواز قتلهم فهو كافر مثلهم«. وبناء على مثل هذه الفتاوي، أقدمت السلطات العثمانية على دعوة عدد كبير من مشايخ العلويين وشخصياتهم للتداول معهم والعمل على اصلاح حالهم، فكان ان اجتمع قرابة (9400) شخص فقتلهم جميعا وأمر بقتال بقية السكان بعد ان قتل قادتهم. وعلى ضوء ذلك يمكن التعرف على الدور الذي لعبته الدولة العثمانية في تعزيز مظاهر التباين والتنوع بين السكان، وتأكيد البعد الطائفي كمعيار للتفاضل بينهم، انسياقا وراء التوظيف السياسي للاسلام وجعله أداة من أدوات التحكم بالشكل الذي يضمن انتماء العدد الكبير من السكان الى السلطة وتسويغ شرعيتها السياسية بصرف النظر عما يترتب على ذلك من آثار تمس أشكال التطبيق الفعلي للاسلام، بالاضافة الى ما تعوزه من تجزّ وتفتيت في أبعاد البناء الاجتماعي. الإدارة العثمانية وأوضاع الطوائف غير الإسلامية اتصفت الادارة العثمانية في مواقفها من الطوائف غير الاسلامية، وخاصة المسيحية منها بالاضطراب وعدم الوضوح. ففي الوقت الذي كانت تسعى فيه الى توفير الأمن والحماية لهم خوف من أن تأخذ الدول الاوروبية من اي حدث يمسّ هؤلاء ذريعة للتدخل في شؤون السلطنة، كانت تنظر اليهم على انهم على صلات جيدة مع هذه الدول التي تحاربها على حد حدودها الغربية، لذلك كانت تغض النظر عما يحدث لهؤلاء من مشكلات مع الطوائف الاخرى احيانا، وتدخل لتوفر لهم ظروف الأمن والحماية أحيانا أخرى، تبعا لأشكال علاقاتها مع الدول الاروربية المجاورة لها، وقد تعرض السكان المسيحيون نتيجة لذلك لظروف صعبة وقاسية في كثير من الاحيان جعلت التفافهم نحو ذاتهم ضرورة من ضرورات وجودهم، وعاملا أساسيا من عوامل أمنهم واستقرارهم بعد ان اصبح المحيط بمثابة المصدر الرئيسي لتهديدهم. وتعد حوادث لبنان سنة 1860 من ابرز مظاهر سوء الادارة العثمانية في بلاد الشام، ففي ذلك الحين وقعت فتنة شعواء بين طائفتي الدروز والنصارى في جبل لبنان وجرى بينهم قتل وتشريد وسفك للدماء الى ان هرب عدد كبير من النصارى الى دمشق ظنا منهم ان الحكومة ستعمل على حمايتهم، وتوفير الأمن اللازم لهم، غير ان الادارة العثمانية لم تأبه للأمر كثيرا، وامتدت الأحداث الى مدينة دمشق نفسها. وقتل عدد كبير من النصارى، ونهب الكثير من أموالهم، ومع ذلك لم يجد الوالي العثماني ضرورة للتدخل حتى ظن الكثيرون ان ما وقع انما هو بأمر سلطاني. وقد قدر قنصل الانڤليز انذاك ان عد النصارى الذين ذبحوا في دمشق وحدها 3500 نسمة، بالاضافة الى قرابة 2000 نسمة لجؤوا الى مدينة دمشق طلبا للنجاة، وقتلوا فيها. ويجد بعضهم ان من هلك من النصارى في تلك الحوادث، وفي كل من لبنان ودمشق يصل الى 12 ألفا من السكان. وفوق ذلك كان على كل من اليهود والنصارى ارتداء ملابس خاصة تميزهم عن المسلمين من جهة، وعن بعضهم بعضا من جهة أخرى، كما فرضت السلطات بحقهم مجموعة من الاجراءات التي تجعلهم دون المسلمين في حياتهم المعيشية، وفي تفاعلاتهم وصلاتهم اليومية مثل منعهم من ركوب الخيل، والبغال النفيسة، وحمل السلاح والتقلد بالسيوف، ولبس العمائم الزاهية، وإجبارهم على عدم رفع الصوت في وجه المسلم أو السير على يمينه فيما لو تصادف مرورهما في الطرقات العامة، اضافة الى اجراءات اخرى أدت الى تعزيز مظاهر التباين والتناقض في الحياة الاجتماعية بين السكان باستخدام الدين كوسيلة أساسية لذلك. وقد أسهمت هذه الظروف مجتمعة في تعميق الوعي الديني لدى الطوائف غير الاسلامية، وساعدت على تكريس مظاهر التنوع التي أصبحت مظاهر اختلاف وتناقض بحكم عمليات التوظيف السياسي للاسلام التي تمت بإحكام ودقة من قبل السلطات العثمانية الحاكمة، لذلك من الطبيعي ان تجد الطوائف المسيحية حتى بدايات القرن العشرين أقل تفاعلا واندماجا في الحياة الاجتماعية الا في الظروف التي كانت تسمح لهم بذلك، وفي اطار ضيق ومحدود. لقد استطاعت السلطة السياسية ان تمارس دورا متميزا في التأثير والضغط بأشكال مختلفة، واستطاعت ان تشارك في عملية انتاج الاحكام الدينية مشاركة فعالة لتضمن قدرا كبيرا من السيطرة والتحكم وكانت عنصرا فاعلا من عناصر النسق الديني، حيث أخذ هذا النسق يتفاعل مع الاحداث والتحولات المحيطةعلى أساس مصلحة الدولة، وليس على اساس المصلحة الاجتماعية العليا، أو على اساس ما ينبغي ان يكون. الامر الذي عزز مظاهر التباين بين السكان أنفسهم من جهة، وبين السكان والدولة من جهة أخرى، لذلك حافظت التنوعات التقليدية على ذاتها، وتعمقت بفصل سياسة الدولة، وازداد التباعد الاجتماعي بين الطوائف والمذاهب المختلفة الى درجة القطيعة والحروب أحيانا. فاسهمت الدولة من حيث لا تدري، ومن خلال توظيفها السياسي للدين، بإضعاف البناء الاجتماعي، وتفتيت وحدة الاسلام، الى درجة انها تعد بحق من اكثر الاخطار التي هددت هذا الدين،وحطمت مبادئه خلال تلك الفترة. ورغم انّ هذا التنوع في الواقع الاجتماعي يعود الى مرحلة ماقبل الاحتلال العثماني،الاّ انّ اسبابه والعوامل التي ادّت إليه لاتخرج عن عمليّة التوظيف السياسي للدين. وهي من اخطر التحديات التي جابهت الدين في الماضي وتجابهه اليوم، وتسهم في إضعافه والتقليل من دوره في الحياة الاجتماعية. يتبع