قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    سعيد: لا أحد فوق القانون والذين يدّعون بأنهم ضحايا لغياب الحرية هم من أشدّ أعدائها    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    يوميات المقاومة...تخوض اشتباكات ضارية بعد 200 يوم من الحرب ..المقاومة تواصل التصدي    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار الترجي الرياضي ...مخاوف من التحكيم وحذر من الانذارات    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    قرار قضائي بتجميد أموال شركة بيكيه لهذا السبب    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسبابها وأهدافها ودورها في التأسيس للديمقراطية
الثورات العربية
نشر في الشعب يوم 15 - 10 - 2011

أريد قبل كل شيء أن أشكر الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة العمل الدولية على دعوتهما لي للمشاركة في أعمال هذا الملتقى، فهذا شرف لي وأنا سعيد جدا بذلك.
الموضوع الذي طُلب مني أن أتكلم فيه يتعلق بأسباب وبأهدافها وبدورها في التأسيس للديمقراطية. وباعتباري أكاديميا أقول بأن هذا يمكن أن يكون موضوع كتاب ضخم يدلي فيه كل مختص في العلوم الإنسانية بقوله. لكنني قبلت الدعوة على كل الحال، وما سأقوم به هنا هو محاولة اختزال قاسية لما أعتقد أنه يدخل في الإجابة على هذا السؤال.
في البداية أحب أن ألاحظ أنه من الناحية الأكاديمية سيكون من قبيل التهور والجهل الادعاء بأنه بالإمكان الإحاطة بجميع الأسباب التي أدت إلى ما حدث في البلدان العربية من ثورات سياسية خلال الأشهر الماضية. ومقولة الأسباب هذه مقولة وضعية، تفترض أنه يمكن في شروط مخبرية معينة حصر جميع العناصر التي تدخل في تركيبة شيء ما، والتعريف بالكيفية التي تؤثر بها هذه العناصر بعضها في بعض ضمن شروط محددة، ثم تحديد مسار التسلسل السببي المعقد الذي تخضع له هذه العملية بما يمكن في النهاية من إعادة تركيب الكل، و إثبات أننا متى حيدنا عنصرا من تلك العناصر أو غيرنا من تركيبته بطلت العملية برمتها، أو على الأقل أعطى تفاعل تلك العناصر نتائج مختلفة.
من سوء الحظ، وربما من حسنه، لا يمكن فعل هذا مع الثورات، فهي ليست كائنات بيولوجية يمكن تشريحها، و ليست مواد كيمياوية يمكن ردها إلى مكوناتها الأولية البسيطة . ومما يجعل هذه العملية غير ممكنة حتى لو أحصينا كميا كل شيء عددا هو أن الأسباب المادية التي يمكن تحديد البعض منها ثم إعطائها كما نفعل عادة قيمة أكبر من باقي الأسباب، لنقول مثلا إنها محددة أو أساسية ..إلخ، لا تكتسب أية قيمة إلا إذا تكلم عنها الفاعلون المعنيون بالثورة بوصفها حقائق معيارية، أي إلا إذا تبلورت في أذهانهم، وهم يخوضون نشاطهم اليومي، في شكل معانٍ و قيم ذات شحنات تصارعية يعبرون عنها عند اللزوم بشكل احتجاجي ضد رموز ما .فمثلا يمكن للبطالة أن تكون عنصرا هاما نفسر به الثورات، لكن البطالة و الفقر و التهميش وجدوا في كثير من الحالات في نفس المكان و الزمان و بمعدلات مرتفعة دون أن يؤدي ذلك إلى ثورات. و الاستبداد استمر أحيانا أحقابا طويلة يجثم على نفوس بعض الشعوب التي لم تخض ثورات من أجل التخلص من ذلك الاستبداد.
ولكن قبل أن أتقدم في التحليل ينبغي أن أشرح المسألة التالية: ليس هناك مفهوما واحد للثورة بل عدة مفاهيم، و هي تختلف بحسب طبيعة الظاهرة و سياقها و أهدافها و إطارها الزمني و محيطها الثقافي و بحسب المعنى الذي يعطيه لها أصحابها أو حتى من يتكلم عنها. فالثورة بمعناها الاجتماعي تتجاوز بكثير الأحداث المؤطرة في زمان و مكان محددين (مثلا سقوط نظام بن علي أو حسني مبارك في تونس و مصر سنة 2011)، ومن ثم فهي تشمل كل المسار الاجتماعي البطيء و المتذبذب الذي يفكك على سبيل المثال الأراضي القبلية و القروية الجماعية و الروابط الحرفية التقليدية، ويعطي فرصة للأفراد و العائلات كي يمتلكوا بشكل خاص أدوات عملهم ويفسح المجال للدولة، التي تستحدث بهذه المناسبة إدارة عقارية تعطيها اسم دفتر خانة، و تسن قوانين وتبني محاكم مستقلة عن الجماعة المحلية تفصل عن طريقها في النزاعات المتعلقة بملكية هذه الأراضي واستغلالها، ما يسمح لها بتعويض القبيلة أو القرية في حماية هذه العائلات و هؤلاء الأفراد. ومن هذا المنظور يمكننا أن نقول إننا في الحقيقة نعيش في تونس مسارا ثوريا اجتماعيا انطلق منذ أكثر من قرن، و ربما يصدق علينا من هذه الناحية ما قاله ألاكسيس دو توكفيل ساخر من مؤرخي الثورة الفرنسية الكلاسيكيين: الثورة الفرنسية التي تقولون أنها حدثت سنة 1789 أنجزت قبل ذلك بوقت طويل.
أما من الناحية السياسية فإننا نستطيع أن ننعت أعمالا احتجاجية سلمية أو عنيفة تؤدي إلى إسقاط نظام سياسي معين و استحداث آليات حكم جديدة مكانه تحقق أهداف الثوار بأنها ثورة، و هذا حتى لو كانت النساء المشاركات في هذه العملية تؤمن، في السياق الثقافي العالمي الذي نعيشه اليوم، بحق الرجل في أربع زوجات مثلما يحدث الآن في اليمن. ولهذا السبب فإن الكثير من الباحثين و الملاحظين السياسيين يتفادون خلال النقاشات الأكاديمية استعمال كلمة ثورة و يعوضونها بمسار ثوري قد يحقق في آخر المطاف نقلة فارقة في الشأن السياسي لبلد ما، مثلما يمكنه أن يتوقف أو يأخذ منحى يرسخ ما كان سائدا أو حتى يعود بالمجتمع ثقافيا إلى الوراء، و مثال الثورة الإيرانية شاخص أمامنا.
لنعد الآن إلى موضوع تفسير الثورات. في تاريخ الفكر السياسي و السوسيولوجي جرى تقديم عدة فرضيات كبرى لتفسير الثورات الاجتماعية العظيمة التي عرفها العصر الحديث. فنحن نعرف مثلا أن الماركسيين يعتقدون أن الثورات الكبرى، سواء كانت عنيفة أو سلمية، تحدث عندما تعجز العلاقات الاجتماعية السائدة (سواء كانت عبودية أم إقطاعية أم رأسمالية..إلخ)، عن استيعاب التطورات الجارية على مستوى قوى الإنتاج (أي قوى العمل ووسائله و منظومة التوزيع والاستهلاك..إلخ)، و هذا تفسير عام و هيكلي يترك مسألة الفعل السياسي و احتمالات تأثيراته اللامتناهية في غير متناول الفهم، أو هو على الأقل يضطرنا إلى محاولة البحث في الروابط الفكرية و السيكولوجية التي ينبغي أن توجد، عبر عمل الفاعلين الاجتماعيين، بين الحدث و البنية، و هذه عملية غالبا ما تؤدي إلى الابتعاد عن الفرضية الأم فتضعف من قيمتها و جدواها.
لكن هناك فرضيات كبرى أخرى تحاول أن تفسر الثورات الحديثة من خلال البحث في خصائص موضوع هذه الثورات في حد ذاتها . وهذا هو مثلا حال بارنغتون مور الذي مازال كتابه »الجذور الاجتماعية للدكتاتورية و الديمقراطية« يطبع باستمرار رغم أن صاحبه قد كتبه منذ أزيد من أربعين سنة. و فرضية هذا الباحث الأنجليزي هي التالية: العصر الحديث هو عصر الصناعة و علاقات الإنتاج الرأسمالية بقيمها و نخبها السياسية و الثقافية المميزة. ولذلك فإن موضوع الثورات الرئيسي كان القضاء على البنى الفلاحية التقليدية بقيمها المتداعية و نخبها الريفية المحافظة، و من ثم صهرها في المجتمع الرأسمالي الصناعي الصاعد الذي تطلب تطوره و نجاحه إعادة صياغة الدولية فكريا و مؤسساتيا.
وهناك أيضا فرضيات أخرى لا تقل تعقيدا عما استعرضته حتى الآن. منها أن محرك الثورات الحديثة ليست سوى الثورات الثقافية والتقنية العظمى التي أنتجتها النخب الحضرية في إطار المجتمع الصناعي الناشئ، سواء كانت هذه النخب تحمل فكرا دينيا (مثل الأفكار البروتستانتينية) أم وضعيا (مثل أفكار منتاسكيو و روسو وسان سيمون)، وأن الثورات هي قبل كل شيء ثورات فكرية يتبناها الفاعلون السياسيون و يستخدمونها في تفكيك البنى التقليدية، كما ظهر ذلك سياسيا في مشروع بورقيبة التحرري والتحديثي.
هل يمكن أن نفسر ما يجري حاليا في البلدان العربية، حيث أسقطت الحركات الشعبية الاحتجاجية النظم السياسية القائمة، على أساس إحدى هذه الفرضيات الكبرى؟ بتعبير أدق هل ما يجري حاليا يعبر عن حالة تصادم طبقي يبحث عن تجاوز ذاته؟ هل هو مثلا صراع بين العمال و الفلاحين و الطبقات التي تستغلهم بقطع النظر عما إذا كان هؤلاء الأخيرين رأسماليين وطنيين أو كمبرادور بلا طعم ولا رائحة كما يُنعتون عادة؟ هل نحن بصدد ثورات عميقة يقوم بها المجتمع الصناعي الحضري الصاعد و قواه الحية ضد المجتمع الفلاحي بعلاقاته أفكاره ونخبه المحافظة؟ هل نحن أمام ثورة ثقافية واضحة المعالم، سواء كانت دينية نقدية أو وضعية تحديثية، لها نخبها وأطروحاتها و قيمها و أهدافها ؟ بعبارة واحدة ما هو عنوان التي نحن شاهدون عليها و فاعلون فيها ؟
سياق تاريخي جديد
لنبدأ بهذه النكتة الأنثروبولوجية ذات المغزى العميق. في كتابه »حروب الفلاحين في القرن العشرين« يذكر »إيريك وولف« أنه خلال الثورة البلشفية سنة 1917 كان هناك العديد من فلاحي أعماق روسيا الآسيوية اعتقدوا لفترة أن لينين قائد الثورة البروليتارية البلشفية هو المسيح العائد لتخليص الإنسان من كل خطاياه ومن وزر الحياة الدنيا الفانية . بعد قرن من ذلك الحدث أصبحت الثورات تُصنع على الفايسبوك و تشاهد مباشرة على شاشات التلفزيون من قبل فلاحي الدنيا تقريبا في كل مكان من العالم. و أحب أن أستغل هنا هذه الفرصة لأعطيكم مثالا تطبيقيا من تونس عما تعنيه ظاهرة انتشار وسائل الاتصال الحديثة في الأرياف، و ما يمكن أن تغيره من وقائع مادية و ذهنية على الأرض يمكن أن تدخل في بنية الثورات الجارية حاليا، و ذلك حتى قبل انتشار الهاتف الجوال و الفايسبوك: في سنة 1989 كنت أقوم ببحث ميداني في ولاية الكاف، و كان علي أن أقابل حوالي ستين عمدة في مختلف مناطق الجهة. فاستغليت الفرصة وسألت هؤلاء العمد واحدا واحدا عن أهم شيء تغير في علاقتهم بمنظوريهم، فأجابني جلهم بشكل يكاد يكون متطابقا: العمدة لم يعد مصدر المعلومات، اليوم الشبان المتعلمون هم الذين يأتون إليه بالأخبار الجديدة حول المشاريع التي تعتزم الحكومة إنجازها في منطقته و هم الذين يرشدونه عن الجمعيات التي تنشط في الجهة.
ولكن ليس هذا هو العنصر الوحيد الذي أعطى للسياق التاريخي الذي نعيش فيه حاليا أهم ملامحه، فمعظم الذين خرجوا في احتجاجات مصر و تونس و قاتلوا كتائب القذافي في ليبيا ليسوا فلاحين فقراء، وليسوا عمالا فلاحيين أو صناعيين يقولون أنهم يرزحون تحت الاستغلال، ولذلك فإننا لم نر طوال أيام أي تنديد بالمستغلين الرأسماليين »مصاصي الدماء« كما يقول زعماء الثورات العمالية عادة. لقد كان الثوار شبانا متعلمين عاطلين عن العمل أو ضعاف الدخل، يسكنون مناطق أو مدنا أو أحياء مهمشة، والأهم من الكل أنهم كانوا يشعرون بأنهم محرومون سياسيا وفكريا من وسائل التأثير على القرارات التي تُتخذ بشأن تنظيم حياتهم المدنية. وهؤلاء الثوار وهذا يصدق خاصة على تونس لم ينشطوا في أطر سياسية منظمة ، بل كانوا يتحركون ضمن زمر تتجمع و تتفكك حسب تطور الأحداث، يحكمها الانتماء إلى الحي أو الزمالة المهنية أو الصداقة، و يقربها من بعضها اتحادها ضد عدو واحد هو النظام الاستبدادي القائم. صحيح أن هياكل الاتحاد العام التونسي للشغل في تونس، على سبيل المثال، كانت بمثابة المظلة التي احتمى بها جزء من المتظاهرين، و صحيح أيضا أن بعض الأحزاب كان لها وجود ما في المناطق التي اندلعت منها الثورة و شجعت الشباب على التظاهر، و صحيح كذلك أن المتظاهرين ما كانوا ربما يتشجعون و يواصلون احتجاجاتهم ، خاصة في تونس و مصر، لو لا الدعم السياسي و الأخلاقي الرمزي الذي مدتهم به جمعيات حقوق الإنسان و المنظمات الوطنية لسلك المحاماة و القضاة و النقابات، و لكن الخاصية العامة للذين واجهوا الرصاص بصدورهم العارية في تونس هي أنهم كانوا شبانا متعلمين، منفتحين على كل ما يجري في العالم، و يقفون أفرادا خارج كل أطر التنظيم السياسي التي تحمي عادة الناشطين السياسيين. و من المهم هنا أن نلاحظ أنه في حين لم تلعب الأطر القروية و الإثنية و القرابية و الدينية الطرقية في تونس و مصر دورا مؤثرا في حماية المتظاهرين و تأطير تحركاتهم، كانت هذه هي الأطر التي اشتغلت في ليبيا و اليمن بمجرد أن ظهر الإفلاس السياسي للمجموعة السياسية الحاكمة.
وهناك أيضا خاصية أخرى جديدة تميز بها السياق الاجتماعي الذي ظهرت فيه ، و هي ذات طابع أنثروبولوجي سياسي إن صح التعبير . وتتمثل هذه الخاصية في ظاهرة فراغ الساحة السياسية العربية، خلال العقود الأخيرة، من أي صنف من الزعماء، غير أولائك الذين نصبوا أنفسهم في هذا الموقع من خلال استغلال أجهزة الدولة و ليس من خلال اكتساب حظوة قيادية لدى الجماهير. و قد وصفت هذه الظاهرة في كتابي »الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا« من خلال عبارة سيادة مبدأ »احتكار انتاج الزعامة« .وما أعنيه بهذه العبارة هو أن الاستبداد السياسي الذي جثم على صدور الشعوب العربية خلال عشرات السنين الطويلة التي مضت قد قام أساسا على تدمير كل ما من شأنه أن يساعد على ظهور فاعلين سياسيين مستقلين، قادرين على تعبئة الجماهير حول قضايا محددة و على ترجمة مطالبها إلى مشاريع سياسية منافسة للتوجهات التي يسير عليها الحكام، سواء كان ذلك على المستوى المحلي أو الوطني. وما نتج عن ذلك هو أن ثقافة الرموز السياسية التي شيدتها حركات التحرير والإصلاح قد دمرت.
نستنتج مما تقدم أن من خصائص السياق الاجتماعي العام الجديد الذي اندلعت في إطاره هو أن التحولات الاجتماعية العميقة التي عرفتها هذه البلدان ولكن بتفاوت مثلما يظهر ذلك من خلال مقارنة الحالات الشاخصة أمامنا هنا و هناك ولدت وضعا خاصا تميز بأن المفجرين لهذه الثورات هم أفراد فقدوا سياسيا ولو إلى حين مثلما هو الحال في اليمن و ليبيا سندهم الاجتماعي التقليدي، دون أن يندمجوا في مؤسسات مدنية حديثة تمكنهم عند الحاجة من الدفاع عن حقوقهم. وهذا يعد من مفارقات دولة الاستقلال التي فككت أو همشت أغلب المؤسسات الأهلية التي بنتها شعوبها خلال حركات التحرير، تحديدا من أجل تشييد هذه الدولة.
هذا من المنظور المحلي الداخلي. أما على المستوى العالمي فإن ما يميز العصر الذي نعيش فيه هو ما أصبح يعرف بالعولمة. و ما أعنيه بالعولمة هنا هو تلك الإمكانية القانونية و الثقافية غير المسبوقة في التاريخ، التي أعطتها المؤسسات الدولية الحديثة للدول القوية في العالم، كي تتدخل بصفة شرعية في ما يجري في البلدان الضعيفة حينما تحدث داخلها مستجدات ترى أنها تهدد مصالحها الإستراتيجية. لا يعني هذا أن الشأن الداخلي للبلدان الضعيفة كان في الماضي في منأى عن التدخل الخارجي، إنما أعني أن هذا التدخل أصبح يحظى بالشرعية الدولية، سواء كانت عادلة أو ظالمة.
والذي يهم في هذه المسألة هو ما ترتب عنها على مستوى إدارة مجريات الثورات و تحديد توجهاتها في الدول العربية. و من هذه الناحية بين المثال الليبي كيف أن الثورات التي تعرفها شعوبنا الآن، أي في سياق العولمة، لم تعد شأنا داخليا، وهذا ربما حتى على مستوى تفاصيلها الدقيقة. فالكل يعرف على سبيل المثال أن من جملة المواقف التي حسمت في اللحظات الأخيرة مصير زين العابدين بن علي وحسني مبارك و معمر القذافي و في الأيام المقبلة بشار الأسد هو سحب القوى الدولية العظمى، و بالتحديد أمريكا، الثقة من هؤلاء. ويمكننا أن نلاحظ في سياق نفس الفكرة أن ما يطيل بقاء علي عبد الله صالح في السلطة هو أن هذا البساط الدولي لم يسحب بعد من تحت قدميه، و ربما أن سبب ذلك يعود إلى موقف السعودية التي ترى أنه لا سبيل إلى التقدم على طريق حل المشكلة اليمنية إلا إذا تحققت من ضمان مصالحها الإستراتيجية في المستقبل.
على ماذا ثارت الشعوب العربية؟
لقد ذكرت في مقدمة هذه الورقة أن الإحصائيات حول البطالة و التهميش و الاستغلال تساعدنا على مشاهدة تفاصيل التحولات الكمية التي تطرأ على هذه الظواهر وعلى بناء فرضيات بشأن العلاقة بينها وبين الظاهرة الثورية ، ولكنها لا تمكننا من النفاذ إلى المعاني التي تأخذها تفاصيل هذه التحولات عند الفاعلين الاجتماعين، و إلى الأبعاد المعيارية التي يعطونها لها فيحولون من خلال فعلهم المفعم بالشعور الأرقام الأكاديمية إلى معاني و مطالب سياسية.
لفهم هذه المسألة نحتاج إلى الاقتراب أكثر من المجريات العملية للظاهرة الثورية كما انطلقت في البلدان العربية. سواء كنا في تونس أو في مصر أو في ليبيا أو في اليمن أو في سوريا تبدو الكلمة السحرية التي شحنها المتظاهرون أكثر من غيرها بما يعتمل في أبدانهم و أذهانهم وذاكراتهم من شعور بالحرمان والقهر الذل هي كلمة »الكرامة«، وقد رفض معظم التونسيين عبارة »ثورة الياسمين« التي استخدمت في وصف ثورتهم بالضبط لأنها لا تتضمن أنطولوجيا العلاقة التي يقيمونها بين تجربتهم الاجتماعية المريرة التي ولدت الثورة وبين كلمة الكرامة التي تحتوي على مشروع الانعتاق من محددات تلك التجربة.
وفكرة الثورة من أجل الكرامة وهي الفكرة نفسها التي عبر عنها الجزائريون منذ تسعينيات القرن الماضي ولكن بطريقة سلبية عبر مقولة الثورة ضد »الحقرة« تحيل إلى معادلة لها جذور أنثروبولوجية عميقة جدا ومنغرسة بقوة في التراث الأدبي والأخلاقي العربي. فكلمة »الكرامة« تحيل إلى مفردات أخرى مثل الكرم والكريم. والكرم من الناحية الأنثروبولوجية-السوسيولوجية هو وصف لحالة من الفعل الإنساني مرتبطة بظاهرة اقتصادية ثقافية معقدة، هي ظاهرة التبادل التي تجري بين البشر، أفراد وجماعات .هذا التبادل لا يجري فقط من أجل توفير الحاجات وإعادة توزيع الثروات، إنما أيضا من أجل إقامة علاقات إنسانية غير مادية تدخل ضمن حاجة هذا الإنسان إلى التواصل، بوصفه مخلوقا اجتماعيا له ثقافة ورموز . وبما أن جزءًا مهمّا من هذا التبادل والتواصل كان في فجر الإنسانية يقع في إطار الهدية، إذ لا وجود للسوق و للعملة كما نعرفهما اليوم، فإن الكرم بالمعنى الذي ذكرناه كان إحدى أهم الآليات التي يقوم عليها التبادل، فبدون كرم ليس هناك هدايا أي ليس هناك ضيوف ولا مبادلات سلمية ولا النموذج الإنساني لحاتم الطائي ولا شعره الرائع في الكرم.
والتبادل عن طريق آلية الكرم يعني أن هناك دورة كاملة من التبادل لابد و أن تحدث: يتكرم الكريم بشيء من عنده لغيره (يبداها كريم ولا زعيم) ، فيقبله الآخر و يعتبره دينا في عنقه و عقدا لابد من التقيد به إن أنت أكرمت الكريم ملكته إلى أن يحين موعد رد الهدية أي موعد تنفيذ شروط العقد فيرده بمثله أو بأحسن منه. ومن ثم فإنه بقدر ما يكون الشخص مستعدا على الرد على الكرم بالكرم فإنه يبقى دائما شخصا موضوع ثقة، وهو ما يحفظ له شرفه وكرامته و يجعل منه شخصا حرا جديرا بأن تعقد معه العقود . أما في الحالة التي لا يرد فيها من أخذ الهدية بمثلها أو بأحسن منها فإن ذلك يعني أن دورة التبادل السلمية تواجه خطر التوقف و أن متلقي الهدية يتصرف تصرف اللئيم الذي خان الأمانة.
في الشأن السياسي الحديث تجري الأمور في الوضعيات الديمقراطية كما لو أنه يقع صهر جميع عقود التبادل السارية بين مختلف الأفراد و المجموعات عمال ورأسماليون، مزارعون وملاكون عقاريون، موظفون و مؤسسات عامة، بنوك و عملاء مدينون، نساء ورجال، طلبة و أساتذة، أولياء وأبناء... إلخ في عقد واحد هو عقد التبادل الذي يقيمه المواطنون مع من يفوضون لهم الحكم، وهو عقد ثقة يمنحون بموجبه الحكام شرعية أخلاقية ومؤسساتية تعطيهم الحق إدارة شؤونهم العامة بما يترتب عن ذلك من حصول هؤلاء على مزايا مادية ومعنوية يصفها ابن خلدون بأنها لذيذة مقابل الخضوع الى القانون والطاعة النقدية .وبما أنه يمكن في مثل هذه الوضعيات أن نغير الحكام دون أن تتعرض مجمل عقود الثقة التي تقوم عليها علاقات التبادل الأخرى إلى الاهتزاز بشكل كبير، فإن عقد التبادل السياسي بين الطرفين يحافظ غالبا على وظيفته وشرعيته مولدا الثقة في العمل السياسي والشعور بالكرامة لدى المواطنين.
خلال ثورات الربيع العربي كانت الشعوب تطالب باسترداد كرامتها. و يمكننا أن نلاحظ هنا بأن ما عناه هذا الشعار في سياق هذه الثورات ليس هو ما عناه أيام الحركة الوطنية و الاحتلال، حيث فرض المستعمر بالقوة على هذه الشعوب بشكل جماعي علاقة تبادل غير متكافئة، يقدم بموجبها المستعمر خيراته قسرا إلى المحتل دون أن يحصل هذا الأخير على غير الفتات. ولذلك يُنعت المستعمرون عادة باللصوص وقطاع الطرق، و يصفهم الشعراء بالظالمين طغاة الزمن ويتحدث الشعب عن الكرامة الوطنية. أما خلال الثورات الحالية فإن الشعور بالكرامة المهدورة أخذ بعدا اجتماعيا داخليا عميقا، حمله الأفراد قبل المجموعات خلال ممارستهم لحياتهم اليومية، و عانى منه كل واحد منهم بشكل مستقل عن الآخر.
ما هو المحتوى الاجتماعي لهذه الكرامة، و كيف أصابتها علاقة التبادل السياسية السائدة بالهدر و التلف؟
لنلاحظ أولا أن جميع قد رفعت شعارات تلتقي عند فكرة واحدة أطلقها المصريون منذ عدة سنوات، وعبروا عنها بشعار »كفاية« . و »كفاية« هذه تعني أن العقد السياسي الساري بين الحاكمين و المحكومين قد تجاوز أمده بدون وجه حق، و أن بقاء الحاكم في مكانه كشريك في هذا العقد لم يعد خاضعا الى مبدأ الاختيار، وأن مؤسسة الدولة التي من المفترض أن تكون هي الآلية المنظمة لعملية التبادل الضخمة التي تجري بين مختلف أطراف المجتمع، أصبحت أداة خاصة يستعملها الحكام من أجل الإخلال بشروط هذه العملية، فيترشحون بدون حساب إلى الانتخابات ويزورون الحقائق ويستعملون العنف و القهر من أجل المحافظة على موقع من يأخذ و لا يعطي.
كيف وجد مثل هذا الخلل الفادح في سير العملية التبادلية السياسية تعبيره المواتي في تجربة الحياة اليومية للعاطلين عن العمل و المهمشين و المحرومين من كل وسائل الحماية الاجتماعية؟ لقد بدأ الشعور بفقدان الكرامة يظهر عند هؤلاء عندما أصبحوا يذهبون إلى المستشفى فيلاقون التهاون في التعامل مع صحتهم بينما أصحاب الطرف الآخر في العقد ينعمون بكل وسائل الرعاية، وعندما صاروا يفتشون عن العمل فلا يجدونه أو يضطرون إلى التنافس على دفع الرشوة للوسيط حليف الطرف الآخر كي يفوزوا به على حساب غيرهم، و عندما أصبحوا يعجزون عن فتح أبواب ونوافذ بيوتهم في الصيف بسبب الروائح الكريهة لمجاري مياه الصرف الصحي والناموس في الوقت الذي تستغل أموال بلدياتهم في ترصيف شوارع مدن الحكام، وعندما صاروا يذهبون لحضور اجتماع سياسي فلا يجدون إلا الكذب والزيف والتلاعب برغبتهم في إعادة التوازن لعلاقتهم المختلة بمن احتل بالقوة موقع الطرف الآخر في عقد التبادل السياسي الذي تقوم عليه الدولة، وعندما صاروا يخرجون في الصباح، متوكلين على الله، لبيع الخضر والفواكه في الأزقة و الأنهج، فيسبهم موظفو قسم الضرائب الخاضعين لسلطة من يمسك بدواليب الإدارة ويجبرونهم على دفع الرشوة ما يفقدهم أحيانا الشعور بحب الحياة و الرغبة ذاتهم.
وفي مثل هذا السياق من اللاتوازن في عملية التبادل السياسي، ليس الفقراء و المسحوقون و العاطلون عن العمل والمستغلون بكل أنواعهم هم وحدهم من يبلغ عندهم الشعور بالمهانة و فقدان الكرامة أعلى الدرجات. ذلك أنه من شروط بناء عقد التبادل السياسي السليم أن تضطلع بمهمة مراقبة تنفيذ بنود ذلك العقد على مستوى مجريات الحياة اليومية أصناف من الفئات الاجتماعية منتظمة في مؤسسات مخصوصة ترتبط بفكرة العدل و القضاء و الدفاع عن حقوق الإنسان العامة و الخاصة. و في الوضع العربي الذي نتحدث عنه، حيث فقد العقد السياسي أهم أركانه الذي هو التبادل الشرعي و المتكافئ، أصبحت هذه الأصناف الاجتماعية-المهنية تشعر بأنها تحولت إلى شاهد زور على هذا العقد المغشوش، وبما أن جزءًا كبيرا من هذه الأخيرة مرتبط بعلاقات شتى بضحايا هذا الغش الذي لا سند له إلا الاستبداد والبطش، فإن أعضاءها من المحامين و القضاة و مختلف المدافعين عن حقوق الأفراد و الجماعات صاروا هم أيضا يشعرون بفقدان الكرامة. وليس هؤلاء فحسب، إذ أن الاستبداد و التنكر لبنود عقد التبادل السياسي السليم يعني أن المشتغلين بالفن و الأدب، و حتى أولائك الأفراد و الفئات الأقل معاناة اقتصاديا و اجتماعيا من الاستبداد، أصبحوا هم أيضا يشعرون بالإقصاء و بفقدانهم لحقهم في المشاركة في بناء عقد السلطة السياسية، أي فقدانهم لكرامتهم التي تعني حريتهم وشرفهم.
دور التأسيسي في مجال إرساء الديمقراطية
ذلك في رأيي ما تعنيه ثورات الكرامة في البلاد العربية. إنها حركات من أجل استرداد صفة المواطنة التي تعني الحق في إرساء علاقات تبادل سياسية تضمن بنودها لكل طرف الحق في الحصول على المنافع التي تنتج عن كل عملية تبادل متكافئة ومتساوقة. فالثورة ضد البطالة و التهميش ومنع حرية الفكر والاتصال والتواصل، و ضد احتكار إنتاج الزعامة السياسية و المنافذ المؤدية إلى الموارد و غير ذلك، هي ثورة على التلف القانوني و المعياري الذي أصاب العقد السياسي الذي تقوم عليه الدولة، وهو تلف سرت آثاره في كل مناحي الحياة، و ترجمته مقتضيات التبادل اليومي الجاري بين الناس عبر لغة الرشوة والمحسوبية و »الحقرة« وهتك الحرمات الجسدية والعائلية، وسد منافذ المستقبل أما الشباب و آفاق الحراك السياسي أمام الغالبية العظمى للناشطين السياسيين.
ومن ثم فهي ثورة مؤسسة للديمقراطية : ألم يكن أول مطلب نادى به المتظاهرون في تونس ومصر وليبيا (والمغرب ولكن عبر أسلوب آخر) مباشرة بعد سقوط أنظمة الاستبداد والدجل السياسي هو وضع دساتير جديدة تعيد بناء قواعد العقد السياسي بين المواطنين بما يضمن لهم كرامتهم؟
بيد أن التأسيس للديمقراطية ليس مسألة هينة، إذ أنه لا يكفي لتحقيق ذلك أن نحرر قانونيا الحياة السياسية من كل القيود، وأن نبني مؤسسات دستورية تضمن عدم تداخل السلط، وأن نفتح الباب للأحزاب كي تتداول على السلطة . ذلك أن من شروط التحقيق الفعلي (وليس المطلق) للديمقراطية أن تجري عملية مراجعة ثقافية معيارية للمعاني و الوظائف التي نعطيها لارتباطاتنا الخاصة. فالوفاء السياسي لمتغيرات القرابة و العرق و الانتماء الديني و للمعايير التي تضع النساء و الشبان في المرتبة الثانية بعد الرجال الكهول لا يساعد على بناء مجتمع ديمقراطي حديث. ومثال ليبيا واليمن الشاخص أمامنا هذه الأيام لا يوحي بأن هذين البلدين سيدخلان إلى الحياة الديمقراطية بسلاسة مثلما قد يكون عليه الحال في تونس و مصر و ربما سوريا. و لذلك فإن من أوكد ما ينبغي أن تنصرف إليه المجتمعات العربية التي أطاحت بنظمها الاستبدادية هو تدريب المواطنين على السلوك الديمقراطي و تثقيفهم في هذا المجال و تدريس الفكر الديمقراطي للنشء و الشباب على حد سواء.
د. المولدي الأحمر: أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.