لما التقى أبو مهل بقرود ثانية سأله سؤاله هذا: ألا يشبه أهل بلد العجائب أولئك الذين يأتون غابتنا لصيد الفيلة والزرافات وأحيانا القردة أنفسهم؟ لا أدري. فعندما خرجت من مدينة الباأوباب كنت صغيرا ولم يبلغني حينذاك عن هؤلاء الصيادين شيء. هم يأتون راكبين جيادا هم هم. إذ يغشون. ويعطوننا حلوى تارات وسمّا زعافا تارات. هم هم. إذ يغدرون. وأنت لم تركب ظهرا يا ولدي حين كنت بينهم ؟ لقد ركبت حمارا. وسرعان ما طفق أبو مهل يضحك حتى استلقى على قفاه. ثم تمالك نفسه. فقال: وكيف وجدت الركبة؟ لقد كنت أركبه وأولادهم يضحكون ضحكهم ويصفقون تصفيقهم. فيعطونني حلوى وكاكي ويعطونه تبنا. فنفرح أنا والحمار ونسعد سعدنا. وهم لا يركبون حميرا؟ هم كما يركبون جيادا يركبون حميرا وجمالا وبقرا ونعاجا. بل يركبون بعضهم بعضا. أولاد قراد الخيل! احذر يا ولدي أن تعلم أولادنا الركوب. وماذا أيضا؟ ومنهم الراكب. ومنهم المركوب. ومنهم الوصولي والانتهازي والمتهافت والمدهون. وفيهم المختلجة والمسفرنسة والمسفلسفة والمستحزبة والمدّاخلة نفوسهم وبائعو ذممهم وغيرهم مما لا تذكر أسماؤهم. وليس فيهم فضلاء؟ فيهم. لكن لا رأي لمن لا يطاع. أذكر لي واحدا. الطبيب النفسي أنور أبو النورين. أنور أبو النورين! أجل لقد التقيت به. فحدثني كيف طرأ الفساد عليهم. وكيف؟ قال تركبهم طبيعة ثانية. طبيعة ثانية! أجل. فيصبح الواحد لا يرى غير نفسه. يَسّر علي يا ولدي. لقد قرأت في كتاب البخلاء للجاحظ أن بخيلا قد بلغ من العمر عتيا. فقيل له: لم لا تنفق ما كنزت وقد بلغت من العمر مبلغك هذا. فقال: معاذ الله ! فقد يهبني الله العمر. فأتخذ لي حليلة. وأنجب الولد. بدعة! أوبت تقرأ كتبا ؟ ولكن قل لي أكان يطمع في عمر ثان؟ أجل. ولم؟ بخلا بالحياة وحبا في المال. وقريقوار حبا في أي شيء يا ولدي؟ حبا في الكرسي. وهو طامع أن يعيش مائة وخمسين عاما. فيصادر الحياة على الشباب ويسوّد وجه الشمس بالأسود ويغلق باب التاريخ على شعبه. ولكن ما كرسي ؟ لقد جئت بواحد. وما فتئ قرود أن أسرع إليه. فجاء به. وما إن جلس عليه ركبه تيه وعجب وكبر وغرور. وظل أبو مهل مبهوتا بعض الساعة. ثم صاح به: انتبه لنفسك يا ولدي ! سيأخذك بحران. ورجّه. فلم يجده رجّ. فأسقطه أرضا. وما إن عادت له حواسه قال له مبتدئا: لا تعد يا ولدي إلى جلوس الكراسي. فهي وخمة على النفوس. أجل. لقد شرح لي أنور أبو النورين الأمر. فقال: ثمة من يذهب سليما إلى الكرسي فإذا طال به المكث فيه اعتلت نفسه. وثمة من هو معلول النفس قبل الكرسي نفسه. وثمة من هو معلول النفس وبالكرسي معا. وقريقوار؟ فبالعلتين أبتاه. وهل ثمة من تقلد الكرسي دون أن تعتل نفسه ؟ قلة قليلة. أذكر لي واحدا. منديلا. منديلا! لقد وصلنا خبره. هو الذي سجن خمس وعشرين سنة ولم يحكم سوى دورة واحدة. أجل. فقد كان يحب شعبه كفرحات حشاد. هذا أيضا وصلنا خبره حين كنت صبيا. وقد اغتيل. ومن لم يغتل أصبح زعيما. وأنت يا أبا مهل؟ أعوذ بالله من كلمة أنا... أنا حين حكمت مدينة الباأوباب لم ألتف سوى لشعب الباأوباب وسعادة شعب الباأوباب. فقاومت النوازع فيّ وفيهم جميعا بقوة الطبيعة الغراء. وفجأة داهمهما عفريت أزرق زهمول دهمول. ففر قرود بجلده إلى أعالي الباأوباب. أما أبو مهل فأخذ يصيح في أرجاء المدينة: أي شعبي العظيم فز بنفسك. واستنفر جنده وتصدى للعفريت. فصده. وبات ليلته مشروح الروح غائر الجروح. والسلام والإكرام