عاشت تونس منذ 17 ديسمبر 2010 على وقع انتفاضتها الكبرى التي كان من نتائجها هروب رأس هرم الاستبداد يوم 14 جانفي 2011 ودخول البلاد في فترة من التجاذبات العاصفة بين مختلف القوى الاجتماعية سواء منها تلك المتمسكة بمصالحها او تلك الشاخصة الى احداث النقلة السياسية التي تخدم المناسب من أهدافها. وقد شكل مطلب «المجلس التأسيسي» الذي تم اقراره بعد اعتصامين عسيرين وحاشدين بساحة القصبة الارضية التي توافق عليها الجميع تقريبا، والتي أوصلت «أغلبية» التونسيين بين متحمسين ومترددين ومنادين بالمقاطعة الى موعد 23 اكتوبر 2011 تاريخ اجراء أول انتخابات غير مشوبة بالتزييف المعتاد الذي عرفه التونسيون منذ الغاء النظام الملكي سنة 1957. لقد تمت هذه الانتخابات على خلفية تنامي الازمة الهيكلية للنظام الرأسمالي عالميا كما قامت على خلفية تعاضد ذلك محليا مع انتشار الفساد واشتداد وغياب استقلال القرار الوطني بحيث أدى كل هذا الى تفقير الكادحين والشغالين والى تفاقم سياسة الاضطهاد والقمع والحرمان التي عانى من ويلاتها: ضحايا المرونة في عقود التشغيل التي يوصي بها خبراء البنك العالمي. وخريجو المدارس والجامعات المعطلون قسرا عن احتلال مواقعهم الطبيعية تحت الشمس. وشرفاء الفئات الوسطى الرافضين للرضوخ الى السائد. وسكان الجهات الممنوعة من أبسط مقومات الحياة حتى لا تتكلم بالنسبة اليهم عن موجبات العيش الكريم التي كانت في ظل ظروفهم حلما من الاحلام بعيدة التحقيق. ولكنه من اللافت للانتباه انها / أي هذه الانتخابات / أدت وبصورة غير متوقعة تقريبا الى احتداد الصراع حول مطلب الهوية الى حد ان اعدادا غفيرة من ابناء الشعب دخلت الى خلوة الاقتراع لتعطي صوتها لفائدة الطرف السياسي الذي رأته قادرا على حماية هذا الجانب المهم من جوانب حياتها ضد من رأته مهددا له كائنا من كان. فمثل هذا المناخ هو الذي فسح المجال وبعد الانتخابات على وجه التحديد نحو القوى الأكثر تمسكا بالماضي، تلك الرافضة لأي غربلة جدية لمعطياته او لفرز ايجابياته من سلبياته، لتبرز بوضوح على الساحة، ولتصبح قادرة لا فقط على التعطيل المادي لسير بعض المرافق العمومية المهمة بل على التهديد الفعلي للمكاسب التنويرية التي خال بعضهم ان عموم الشعب قد استقر عليها دون رجعة ما اصبح يهدد جديا بإدخال البلاد في حالة غير مسبوقة من الفوضى. وهكذا كشفت الوقائع ان الحداثة التي يقع فرضها على المجتمع بصورة فوقية بأساليب السلطة المتواطئة مع إملاءات القوى الهيمنية قد تكون من الهشاشة بمكان بحيث يصبح وجودها مهددا جزئيا وربما كليا نتيجة الضغط المتزايد للتغييرات المتسارعة محليا وعالميا، وانه لا بقاء بهذه الصفة الا للمكاسب التنويرية التي تمثلها الشعب من داخل نسقه الحضاري وتكونت حولها قوة اجتماعية قادرة على الدفاع عنها وعلى حمايتها وتطويرها. ولكنها كشفت ايضا وبنفس القدر ان الجماهير لا تقبل وهي مغمضة العينين بالاصالة التي لا يملك الرافعون للوائها برنامجا اقتصاديا واجتماعيا منغرسا في زمانة او يحاولون باسم التماهي مع العصر تطبيق اختيارات لا تكون واضحة الاختلاف والتباين مع الخيارات التي أدت بالشعب الى الانتفاض المشروع ضدها، بل انه بإمكان هذه الجماهير ان تطور عندئذ موقفا شديد الرفض لكل سياسة لا تحقق طموحاتها في العيش الكريم في كنف الحرية والعدالة مهما رفعت تلك السياسة شعار الاصالة وتحصنت وراء الدفاع عن الهوية. وفي غياب الحاضنة المتكاملة التي عجزت النخب الوطنية التقدمية لأسباب ذاتية ثم موضوعية عن انتاجها قبل الانتفاضة، والتي كان من شأنها تحويل هذه الانتفاضةالى ثورة حقيقية، وجد الشعب نفسه يعاني من غياب رؤية سياسية تنتج أداتها التنظيمية المناسبة التي تعمل على جعله يطمئن على تاريخه وحاضره ومستقبله في نفس الوقت. ان الحاجة الى بروز هذه الحاضنة الثقافية وهذه الرؤية السياسية تزداد اليوم تأكدا مع تنامي المخاطر الزاحفة من كل صوب خاصة ان التكتلات الاقتصادية والسياسية العالمية المناوئة لكل تحرر وطني أثبتت قدرتها لا فقط على احتواء مراكز القرار المحلية وتركيعها ما استطاعت الى التركيع سبيلا، بل كذلك على اختراق مختلف الانسجة الاجتماعية وخاصة في أوساط «المجتمع المدني» ،وتوظيف التناقضات كافة لفائدة استمرار هيمنتها. وبديهي عند هذا الحد ا ن بروز هذه الرؤية الجديدة المنشودة لا يمكن ان يتم دون تجاوز للمأزق الذي نتج عن صدمة الاستعمار المباشر تلك التي تمت على خلفية الانحدار الحضاري للقومية العربية، وهو المأزق المتمثل في انحصار الاختيار بين: أولا: التحديث المبني على تقليد الآخر والانخراط في مساره، ما يؤدي فعليا الى الانبتات والصدام مع الذات اي مع الثقافة الصائغة للخصائص النفسية للشعب ألا وهي الثقافة العربية الاسلامية بمكوناتها السابقة لها والتي جاءت هي وكما هو معلوم لتتمِّمَها، كما بجوهر مقاصدها ثم بتطوراتها وخاصة بمختلف تفاعلاتها مع المعطيات الثقافية التي وجدتها في محيطها او في الاصقاع التي أدركتها. ثانيا: وبين الاصالة المبنية على الرغبة في اعادة انتاج الماضي لا في لبه ذلك الذي أدى سابقا الى طفرة حضارية ومازال قادرا الى اليوم على الاسهام الفعال في تحقيق النهضة الحقيقية شرط تحيينه بل في شكلياته البحتة، ما يؤدي الى الاغتراب عن الحاضر والى انكار جريان الزمان وتغير الاحوال ثم الى التكلس حول قشور مقطوعة فوق ذلك عن اسبابها التاريخية. وهذا المأزق هو الذي ما فتئ يساعد على خدمة اهداف القوى الاستعمارية التي لا ترمي الا الى وضع يدها على مقدراتنا. أكان ذلك بفرضها التبعية علينا اذا قبلنا بالانخراط في مسارها ورضينا بقشور الحداثة التي تصدرها الينا فلم نسع الى تجديد الفكر واكتساب المهارات واقامة الصناعات. أم بارتياحها لتخلفنا الذي يمكن ان توظف بعض تجلياته بل ان تشجع عليها اذا اخترنا التمسك بقشور ماضينا فواصلنا غلق باب الاجتهاد والخوف من المغامرة الفكرية الخلاقة وتكفير بعضنا البعض والعراك والتقاتل على ذلك الاساس. ان تجاوز هذا المأزق يوجب صياغة أرضية تاريخية وحضارية جديدة تتأسس بالضرورة على العامل الوطني المفهوم بصورة علمية، وهي أرضية اذ تضع هذا العامل الوطني في الصدارة فانها لا تلغي التنافس والتناقض ولكنها تشكل حدا أدنى جامعا لا يمكن خرقه من قبل اي كان مهما كانت مواقعه في الصراع ومهما كانت مبرراته او اسبابه. وهذه الارضية يمكن محورتها حول المبادئ والقيم التالية: 1 تجذير الانتماء الى الهوية العربية الاسلامية تمسكا دون انغلاق باللغة القومية أولا، وبالتراث التنويري والعقلاني لهذه الهوية ثانيا والتفاعل من خلال ذلك كله مع كافة الانجازات الايجابية سواء تلك الموجودة في ماضنيا وفي ماضي جميع الشعوب الاخرى دون استثناء او تلك الموجودة في حاضرهم وفي حاضرنا. 2 التمسك باستقلال القرار الوطني الناجم عن مبدأي حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في مقاومة كل عدوان يتسلط على كيانها، مع ما يقتضيه ذلك من تطوير للعلاقات بين اجزاء المغرب العربي واجزاء الوطن العربي ومن تنويع لعلاقات التعاون المثمر والمتكافئ مع كافة الشعوب الاخرى دون انحسار في العلاقات العمودية التي تحاول ان تفرضها علينا الدول التي استعمرتنا سابقا بواسطة حكوماتها او شركاتها العالمية العملاقة او وكلائها من حكام الانظمة العربية، وهي العلاقات التي أدت بهؤلاء الحكام التي التطبيع مع الاعداء كما أدت بالجماهير الى مراكمة الشعور بالذل القومي المرير. 3 ترسيخ الثقافة الديمقراطية بما تقتضيه: من احترام للرأي المخالف وللمعتقد المغاير. ومن تطوير لآداب الحوار والمناظرة. ومن إقرار لمفهوم المواطنة. ومن فصل للدين باعتباره علاقةً حميميّةً للفرد مع الخالق عن السياسة باعتبارها حقلا للاجتهاد المتناقض بالضرورة. ومن قبول طوعي بنتائج الانتخابات الحرة والشفافة. ومن تداول مقبول بكامل الرّضى على السلطة. وهو ما يقتضي بصورة مباشرة: تطهير الانظمة العدلية والأمنية والادارية والاعلامية من فسادها. وسن القوانين الدستورية والتشريعية الكفيلة بإرساء المجتمع الديمقراطي المتشود. 4 العمل على جعل البعد الاجتماعي المنصف حقا للشغالين وللكادحين والمانع للتهميش والمزيل لكل أشكال الحرمان متمم ضروريا للديمقراطية انطلاقا من الايمان بأن هذه الاخيرة تصبح في غياب هذا البعد الاكيد مجرد قناع للحيف والاضطهاد وأداة لاعادة انتاج مجتمع الفساد والاستبداد والاستغلال. فهذه الارضية اذ تستلهم باستمرار الجوانب النيرة في تراثنا العربي الاسلامي واذ تصافح بذلك كل فكر بشري هادف الى تحرير الانسان من كافة مكبلاته وعوائقه واسباب استبلابه هي الوحيدة التي سيكون من شأنها تمكيننا من تحقيق عملية الاختراق التاريخي ومن تجاوز كل الصعوبات والموانع الموضوعة في طريقنا... وما أكثرها.