لئن ساد في السنوات الاخيرة الخطاب الداعي إلى تلازم التنمية بالديمقراطية وبشمولية حقوق الانسان في ظل العولمة، فإن السؤال المنهجي الذي يجب ان تطرحه النخب المنخرطة في الهم الجماعي المشترك بكل ابعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية هو: هل ان هذا التلازم بات حتمية تاريخية؟ ثم الا تعتبر الديمقراطية وحقوق الانسان المستوجبتان للسوق واللتان يتم الدفاع عنهما الى الآن، إرهابا وآليات تدافع عن الأثرياء والمتفوقين اقتصاديا وتحمي مصالحهم؟ لقد أصبح من الصعب جدا العثور على مفكر او كاتب يتناول هذه الاشكاليات من خلال رؤية عميقة موسوعية، واعية وذات نزعة انسانية، خلافا لذلك السيل الجارف والأشبه بالطوفان في أدبيات ومقاربات التكنوقراط والاقتصاديين الذين افسدوا علينا فهم القضية من خلال طابعهم الدعائي والسطحي، وعقدوا على السياسيين ونشطاء حقوق الانسان ولا سيما في البلدان الفقيرة فَهْمَ واقعهم وطرق الفعل في مجرياته غير ان كتابات هانس بيتر مارتن وهازالد شومان ستساعدنا الى ابعد مدى على النظر الى صورة المستقبل بأكثر وضوح بالعودة إلى الماضي السحيق للرأسمالية وذلك انطلاقا مما توفره هذه الكتابات من زوايا علمية معمقة من ناحية ومن نزعة انسانية واعية بذاتها وبالآخرين من ناحية اخرى. فبعد قرن طغت فيه الافكار الاشتراكية ومبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان بصورة عامة، تلوح الآن حركة مضادة تقتلع ما حققته الطبقة العاملة والطبقة الوسطى من مكتسبات،إذ ليست زيادة البطالة وانخفاض الأجور وتدهور مستويات المعيشة وتقلص الخدمات الاجتماعية وإطلاق آليات السوق وابتعاد الحكومات عن التدخل في النشاط الاقتصادي وانحصار دورها في «حراسة النظام» وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة بين المواطنين، سوى عودة إلى الأوضاع نفسها التي ميزت البدايات الأولى للنظام الرأسمالي إبان مرحلة الثورة الصناعية ما بين 1750 و1850 وهي وقائع ستزداد سوءا مع السرعة التي تتحرك بها عجلات العولمة المستندة إلى الليبرالية الحديثة. وتبدو في نظري، صورة المستقبل اكثر قتامة وفظاعة من الماضي المتوحش للرأسمالية في بداية شبابها. اذ سيكون خلال هذا القرن 20٪ من سكان العالم فقط بإمكانهم العمل والحصول على الدخل والعيش، اما بالنسبة إلى البقية التي تصل إلى 80٪ فستمثل السكان الفائضين عن الحاجة والذين لا يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات وأعمال الخير. وبالتالي، فإن تسارع وتيرة العولمة يجعل عمليات دخول وخروج الأموال بالمليارات في ومضات سريعة على شاشات الكومبيوتر وعلى نحو وقفت فيه كل السلط والقوى عاجزة عن الدفاع عن اسعار الصرف واسعار الفائدة واسعار الأوراق المالية في البورصات، فلم تصادر هذه الوقائع قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان فقط، بل اكثر من ذلك بكثير، حيث حولت العالم إلى رهينة في قبضة حفنة من كبار المضاربين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية مستخدمين في ذلك مليارات الدولارات التي توفرها البنوك وشركات التأمين وصناديق الاستثمار الدولية وصناديق التأمين والصناديق الاجتماعية. والأغرب من ذلك كله، انه لا توجد كما قلت سابقا اية سلطة او قوة محلية او عالمية قادرة على محاسبة هؤلاء او حتى ردعهم، إذ تحولت الدعوة إلى الانفتاح على السوق النقدية والمالية العالمية إلى «إيديولوجيا» صارمة ألغت كل الإيديولوجيات والقيم والمعايير الانسانية يخضع إليها الجميع ويتكفل قانون الغاب بمعاقبة كل من تساوره نفسه بالخروج من هذه الانساق والسياسات الحديدية. ومن هنا، أخذت كل دول العالم تقريبا في تطبيق سياسة الانفتاح المعولمة تحت تأثير الضغوطات التي تمارسها المنظمات الدولية والدوائر الاحتكارية. ولا أدل على ذلك سوى تمركز الثروة بين أيادي فئة قليلة وتوسع الفروق بين البشر والدول اتساعا لا مثيل له، إذ يوجه اليوم على سبيل المثال 359 ملياردير في العالم يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2,5 مليار من سكان العالم وان هناك 20٪ من دول العالم تستحوذ على 85٪ من الناتج العالمي الاجمالي على 78٪ من التجارة العالمية ويمتلك سكانها 85٪ من مجموع المدخرات العالمية. وهذا التفاوت القائم بين الدول يوازيه تفاوت آخر داخل كل دولة، حيث تستأثر قلة من السكان بالشطر الاعظم من الدخل الوطني والثروة القومية في حين تعيش اغلبية السكان على الهامش. وهذا التفاوت الشاسع في توزيع الدخل وتوزيع الثروات على الصعيد العالمي وعلى الصعيد المحلي قد حبس أنفاس التنظيمات المهنية والاجتماعية والأحزاب السياسية ومن ورائهم كل النشطاء ودفعهم خارج سياق الفعل في مجريات الرهن، مقابل خلق ضرب جديد من الكيانات الدكتاتورية الجديدة ذات المسؤولية المحدودة وعصابات صاعدة في غابات المال المتوحش وفي سياقات عالمية اسمها أممية رأس المال حيث تلتقي كلها حول عمليات الجذب إلا الأسفل في المسائل المتعلقة بحقوق الانسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وهناك وجه أكثر بشاعة لهذه العولمة ويتعلق بالحروب والابادة وما إلى ذلك من جرائم ضد الانسانية بهدف السيطرة على مخدرات الشعوب والهيمنة على ثرواتها والعمل على تفتيت مقومات نهضتها العلمية والتكنولوجية والعسكرية. وتتمظهر الديناميكية الجاذبة إلى الاسفل في العالم الثالث في المستويات الثلاث التالية: 1 طغيان نمط التعامل بالمثل في المال الاقتصادي بعد ما كان في الماضي هناك تعامل تفاضلي. 2 وجود 85٪ من دول العالم الثالث تحاول تحسين درجة الجاذبية إلى الاسفل وهي مقيدة بالديون وفاقدة لهامش التفاوض مع دول المحور الاقتصادي اضافة إلى تنافس دول العامل الثالث ذاتها حول جلب الاستعمار الخارجي وتقديم جميع الامتيازات الجبائية (مثال دول شمال افريقيا واتفاقية الشراكة). 3 عطالة وتراجع الحقوق الاجتماعية مقابل حركة رأس المال. وهذه المستويات الثلاثة، جعلت من الواقع المؤسساتي معيقا للمناخ السياسي وملوّثا له انطلاقا مما ينتجه من سلوك زبائني ورغبة في التمعش واستقالة النخب وحرص العديد منها إلى الهروب والحرقان، حيث بات هنا في تونس على سبيل المثال زهاء 47٪ من الشريحة العمرية ما بين 20 و25 تفكر جديا في «الحَرقة» وان زهاء 80٪ من الاطباء والمهندسين لديهم مشاريع هجرة فضلا عمّا انتجه ذلك السبل الجارف من الحركة خلال الايام الاولى من الثورة من آلام عمقت جراحات اكثر من 22 ألف عائلة تونسية. كما تراجعت فضاءات التضامن التقليدي وذلك نتيجة تراجع دور «الدولة» الكفيلة والنقابات المناضلة والمنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية رغم توهج خطاباتها المفعمة بالشعارات العاطفية والمرتبطة باستراتيجيات الخلاص والانقاذ والتي باتت لدى الاغلبية المستقبلية بمثابة الأكاذيب التي لا ترضي سوى الضمير. واعتقد ان استعادة أولوية السياسة والنضالين الاجتماعي والحقوقي من هيمنة الاقتصادي هي المهمة المستقبلية والاساسية القادرة وحدها كبح جماح السيادة المطلقة لقوى السوق الساعية أبدا الى سلعنة كل المعايير والقيم وبالتالي تشيئة الافراد والمجموعات، ذلك ان الفقراء والمهمشين والمقموعين وحدهم الذين يمتلكون أداة التغيير الحقيقي وسلاح مقاومة الانهيار من خلال ما يمتلكونه من حق التصويت والانتخاب في مجتمع ديمقراطي تضبط فيه قواعد اللعبة وفق علوية الدستور واحترام القوانين. ولكن لابد أن ننتبه الى مسألة خطيرة وهي حين تحتد درجة الفقر وتتعمق مشاعر الاغتراب وتنكسر ارادة التغيير، تنتعش الأوهام الأصولية وتتوسع دائرة تأثيرها من خلال الوعي الواهم للواقع الذي تقدمه للبشر ومن ثمة تستعمل الديمقراطية أداةً للوصول إلى السلطة واقامة دولة الملوك والأمراء. والمحصلة فإنني أرى انه كلما كانت المخاطر التي تفرزها الفروقات المادية المتنامية واملاءات المؤسسات والدوائر الاحتكارية أعظم على تماسك المجتمعات وعلى قدرة التنظيمات الاجتماعية والسياسية على الفعل والتأثير، زادت الأهمية بأن يدافع المواطنون أنفسهم عن حقوقهم في الحرية قبل حقوقهم في الديمقراطية الاساسية وان يعززوا قيم التضامن الاجتماعي سواء في الحي السكني أو في مكان العمل أو في سياقات المبادرات الرامية إلى توسيع مجالات حرية التعبير. واعتقد انه سيكون لملايين المواطنين الناشطين من أجل أهداف الحرية والعدالة تأثيرا أعظم متى نظموا انفسهم وتضافرت جهودهم عبر الحدود الوطنية، لان حماية المرتكزات والمادية الاخلاقية للحياة الاجتماعية هي الداعمة الاساسية للحرية والتي من خلالها يتعافى الكيان السياسي والجمعي للمجتمع لان المجتمعات العربية على وجه العموم والمجتمع التونسي على وجه الخصوص في حاجة ماسة وفي ضرورة ملحة إلى المرتكزات المادية والأخلاقية كدعامة للحرية. ولا يمكن للديمقراطية أداةً وأسلوبًا في الحكم وفي المشاركة ان تكون محصنة ما لم تسبقها هذه الحرية لان جل التنظيمات الاجتماعية وجل الكيانات السياسية في تونس والعالم العربي على اختلاف أدوارها ومرجعياتها، قد أنشئت من ارادة الفاعل السياسي متجاوزة بذلك ظروف النشأة الطبيعية اي من رحم ارادة الافراد الحرة في التنظيم والتعبير. ومن هنا، نفهم المعوّقات العميقة في فعل هذه التنظيمات حتى وان كانت مختصة في حقوق الانسان ومتجذرة في عمق الفكر والخطاب او المرجعيات التي تعتمدها ولا بد ايضا للنخبة والانتلجسيا من القطع مع اللعب بالعواطف وان تعمل على صياغة برنامج نهضة يمتد على قرن او قرنين كما انها مطالبة الآن بوضع اسس لهذا البرنامج بتصور فضاء جغرا سياسي وثقافي بإمكانه ان يضمن أمننا وهويتنا ومستقبل الأجيال. ولو توقفنا قليلا عند طرق تعاطي بعض العرب بصورة خاصة مع العدوان على العراق الذي بشر بالديمقراطية واختفى وراء الارهاب المدافع عن صفوة الأثرياء لوجدنا أن ثماني منها معرضة وفق القانون الدولي الى المحاكمة بتهمة المشاركة في جريمة الحرب بل ان الاخطر من ذلك بكثير هو ان العرب بحكم وعيهم التاريخي الزائف في هذا الزمان والمتمثل في الاعتقاد باختفاء الدور العربي منذ انهارت الدولة المركزية في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، قد شطبوا أكثر من ألف عام من تاريخهم ذلك ان تكوين وعي تاريخي موضوعي يتطلب بالضرورة النظر إلى الأمور بعقلانية وعمق من حيث ان التاريخ هو عملية تطور سيرورة تم بها أية أمة في مراحل على خط غير مستقيم، أي ان السيرورة لابد أن تتخللها مراحل وتراجعات وانكفاءات واد وار مختلفة وهي بذلك اي السيرورة ليست تقدما صاعدا مستمرا. فبعد سقوط بغداد، يبقى السؤال المنهجي يبحث عن إجابة شافية عبر مقاربات النخبة والانتلجسنيا والمتعلق بالدور المطلوب راهنا لتجاوز الصدمة. لان النكسة التي أصابت المواطن العربي، لا تعود إلى سقوط بغداد، لان هذه الأخيرة، انطلقت من ظاهرة الأزمة المحددة في الزمن. ذلك ان الذي حصل هو نتاج تراكمات تاريخية تعود إلى سقوط الدولة العثمانية، أي أن خسارة العرب بدأت منذ انهيار الخلافة، وهو وضع متواصل ومتمظهر في كل مرحلة بشكل مختلف. في الحلقة القادمة انعكاسات أممية رأس المال على الصحّة العضوية والنفسية للعمال: تونس نموذجا...