في قرية من قرى سبيطلة من ولاية القصرين نشأت كما ينشأ الأيتام الفقراء بعد أن قتل أحد المعمرين الفرنسيين أبي فخلّفني صبيا في حضن أمي ولا سند لنا. وقاربت سن العشرين وحلّ اليوم الموعود، يوم التحاقي بالخدمة العسكرية وجاء «القايد» إلى كوخنا ومعه بعض جندرمة وضباط ليأخذوني صحبة آخرين من أبناء قريتنا وأبناء القرى المجاورة فتصدت لهم أمي فشتموها ودفعوها ولطموها وداسوها وضربها احدهم بمؤخرة البندقية فشجّ رأسها واختلط دمها بدمعها ولم تتراجع ولعنتهم وبصقت في وجوههم ورجال قبيلتنا ونساؤها واجمون لا خوفا على أنفسهم ولكن شفقة على أبنائهم وقد صاروا رهائن لدى فرنسا. واندفعت نحوالضيوف الثقلاء ثأرا لامي فأخذوني وغلّوني ورموا بي في الشاحنة العسكرية وأمي تصيح وتعول وتنوح وتولول وتندب وجهها وتخدش صدرها وتنتف شعرها وتحثوالتراب على رأسها وتمزق أسمالها وتتمرغ على الحصى . وصدّوها فلم يفلحوا فتركوها آملين أن يهدّها العياء إلا أنها ازدادت إصرارا. وتحلق الرّجال حولها وناحت النساء خلف الابواب القزديرية الصدئة ولمحت بينهن حبيبتي التي وعدتها بالزواج فلم يقدر لي ذلك ولم أستطع أن أسعد أمي فازدادت حرقتي في ذلك اليوم العصيب الذي نسميه «يوم القرعة اويوم الفرقة» وكثيرا ما يكون عاصفا أغبش غائما دون مطر وكأن الطبيعة تأبى فيه الا أن تشارك العائلات حزنها على فراق أبنائها. وقد تطير الناس بيوم القرعة وضربوا به المثل في الشؤم لان الذاهب الى الجندية مفقود والعائد منها مولود وكثيرا ما يرجع معوقا عضويا أوذهنيا جزئيا أوكليا بعد أيام الاغتراب الطويلة في المجهول وراء البحار حيث مستعمرات فرنسا الشاسعة وقال الناس أشعارا كثيرة وناحوا بمواويل عديدة في وصف ذلك اليوم وذمه وقد توارثتها الاجيال عن الاجيال . وكان الكثيرون منهم يتعمدون إعاقة أبنائهم كي يجنبوهم يوم القرعة ذاك فلا يلتحقون بالخدمة العسكرية دفاعا عن راية فرنسا التي تزج بهم في مقدمة الصفوف فيموتون منذ الوهلة الاولى. وللآباء فنون كثيرة في تشويه خلقة أبنائهم إذ يعمد احدهم مثلا الى دفع ابنه من عَلٍ أويقطع احدى أصابعه أويفقأ إحدى عينيه فينشأ في عاهة مستديمة ولا يُطمع فيه للجندية. وربما فكّرت أمّي في إعاقتي وخذلها قلبها ناهيك أنّي كنت وحيدها وكنت نحيف البنية ولذلك لقبتني ب«الشاحب» وكانت كثيرة الفخر بي كلما افتخرت النساء بمن أنجبن وكانت دائما تحدّثني عن أبي الكريم الابّي الذي لم أعرفه وتحدّثني عن القايد اللئيم وأفهم من حديثها ما كانت تخفيه عنّي من إرادته الإيقاع بها في المحضور والنيل منها واشتعل ثأرا وانتقاما منه وتحذرني شرّه شفقة عليّ وعليها وتوكل أمرها وأمره إلى الله. ولذلك التفتت الى القايد في ذلك اليوم النحس وهي كاللبوة الجريحة ودعت عليه بان يغلّ كما غلّني وذكرته بان له ابنا في سني فلماذا لا يذهب الى الجندية أم عمالة أبيه لفرنسا تشفع له وافتخرت بي وحطت من شأن ابن الڤايد فقالت إنني أفوقه وسامة وشهامة وليس أدلّ على ذلك من تطوافي ليلا بجبلي« سلاطة والقلعة» وهما بعيدان عن قرانا وعودتي منهما عند الهزيع الاخير لاكمل نومي في حضن أمي وقد رجعت ومعي الرزق فصنت كرامتها بين نساء «ماجر» ورجالهن فيالي من فتى بار بوالدته الحنون. وجبل القلعة هومعقل يوغرطة الثائر البربري على الرومان واليه ينسب فأي قدر هذا الذي يجعلني أحب ذلك المكان واطوف به هل هو حنين الثائر الى الثائر؟ ومن علم أمّي وهي تفخر بي هل هي أرواح الثوار على الطّغاة تحوم في قريتنا وتلقنها ما تقول؟ فاسمع امي تعدد خصالي وهي كالولهى أوكالثكلى وان كنت حيّا فهي تراني في عداد الاموات لوقدّر لي أن ألتحق بالجندية وأمي شاعرة مغنيّة نوّاحة ذات صوت بدويّ شجيّ فاسمعها معي وقد نظرت الى القايد شزرا وصوتت قائلة: ياقايد يقيد قيدك ما هوكي وليدي كي وليدك وليدك فايت بالحظوه وليدي فايت بالرُّجله وليدك فايت بالجبّه وليدي فايت بالشّبّه يدور سلاطه والقلعه ويكمل عقاب نوموعندي أحمد الشاحبْ يا ولدي! اسمع معي ذلك والتذ خاصة بالسطر الاخير للمقطع الشعري «أحمد الشاحبْ يا ولدي» وانظر ما فيه من حنان وحبّ وفخر ولوعة ومعان لا تحذقها الاّ ربات الفخر أوالرّثاء كالخنساء. وهذا السطر سيكون بمثابة اللازمة المتكررة في قصيد امّي الطويل الذي حفظت منه الايام ما حفظت. وتزيد أمي في غنائها أوبكائها في نواح وسط ذهول الحاضرين وولولة النساء وقد برزن من أكواخهن كإناث الطير يرفرفن قرب أبنائهنّ ولم يعدن مباليات بالحجب والابواب ومغبة السفور في حضرة الغرباء. تزيد أمي مصوّتة بأجمل مقطع عروبيّ بدوي في قصيدها فتذكر حملي وارضاعي حولين كاملين وتتساءل في استنكار وهي الارملة المكسورة الخاطر هل انّي ابنها وابن أبي حقّا أم للفرنسي فيّ نصيب والاّ لماذا يريد أخذي للدفاع عن راية فرنسا والموت في سبيلها وترك امي تموت بعدي كمدا ومن غيري سيدفنها ويتقبل العزاء فيها اذا حل بها القضاء المحتوم. وإني لاعجز عن وصف المشهد ولا آتي به كما كان فأمّي تزيد في إدماء خدّيها وثدييها في تلميح صريح الى أمومتها المهدورة ويكاد يغمى عليها ويكاد الناس يظنون أنها بدأت تفقد صوابها فهي لا تبالي بمن يرى ما يرى من صدرها الاسمر الذي طالما هوت به عليّ مرضعة أومقبلة أوحاضنة . وتتدخل بعض النساء لسترها أوسقيها جرعة ماء فتمتنع أمي وتغني أوتبكي في صوت يكاد يبح تماما فتقول: تسع شهور هوفي كرشي عامين كاملين علبزولي يالندرى ولدي وحدي ولاّ مشاركني الرومي من غيرك يحفرلي لحدي أحمد الشاحب يا ولدي. وكأني بك أيها القارئ مشدوه مثلي مشدود أمام هذا المشهد التراجيدي وقد بلغت فيه اللوعة ذروتها واستحال ذلك المكان المجدب ركحا وجوقة وأبطالا وأحداثا وأدوارا واستحالت امي كائنا اسطوريا إغريقيا في مجابهة القدر وقد زاد في رهبة المكان عزف الريح وصلصلتها ونواح النساء وندبهن ولطمهن وعويلهن وولولاتهن... ووجم الجميع حتى جندرمة فرنسا وضباطها بعتادهم وانسجموا في فصل كأنه لحظة الاندماج والتطهير ومحاسبة النفس في مشهد من مشاهد صراع الانسان مع القدر وصارت القلوب لدى الحناجر وبلغت العقد حدّها وهي الان تتدرج نحوالانحدار والشمس تميل الى الغروب وامي المهدودة تترنح ولا تنهار. وجاءت اللحظة الحاسمة والتفتت أمي الى رجال ماجر مؤنّبة معيّرة داعية عليهم بالويل والثبور وأن يكونوا كالهباء المنثور محرضة على إنقاذ البنين من مخالب وانياب المفترسين متوعدة واعدة بانها ستكون مع الرّجال الاشاوس ولن تكتفي بالفرجة بل ستعينهم على المستعمرين ولوبحجر ترميه فتصيب به المعتدين أوليست المرأة الماجرية كالرجل تماما كما يقولون «ماجرْ كل مْرا براجلْ»! . وأمي كذلك وهم يعرفون صلابتها والحجر ملاذ الثائرين المستضعفين عبر الدّهور وحينها سيعرف المقدام من المتخاذل الجبان الذي شبهته امي بالحبل المهترئ ما ان يجذب حتى يقطع أوكما قالت حاثة على العصيان والتمرّد والثورة وقد بدأ صوتها يجف ويخفت حتى لا يكاد يُسمع وهي تحاول أن تجعله مدويا مجلجلا كما كان فقالت نائحة يا ماجر الله يِهْبيكم أعطوا نهار عذراريكم خلّي الرّاشي يدقدق ناي مْرا نرمي حَجره ونكسّر قرن المتعدّي أحمد الشاحبْ يا ولدي وزغردت النساء وقد سمعن أمّي لا تدافع عني فقط بل عن أبناء القبيلة بأسرها. وحزّ في رجال ماجر الاحرار ما قالت أمّي فكثر بينهم التململ وتحركت الآلة العسكرية المقابلة في وجه العزّل وكاد يكون ذلك اليوم دمويا مشهودا لولا فرار القايد واشارة كبير الجندرمة بان توقف المسألة عند ذاك الحد وأُمر باطلاق سراح كل الشبان المغلولين المساقين كالانعام قسرا ونفّذ الامر في الحال مخافة أن يقع مالا تحمد عقباه. وأقيمت الليلة الاولى من حفل عرسي في ذلك المساء وعمّ الفرح بعد الاستياء. وكان لامي «سديرية الغيلانية الماجرية «ماكان من مجد والشيء من مأتاه لا يستغرب أوليست هي حفيدة علي بن غذاهم الماجري قائد ثورة العربان ومزلزل عرش الطغيان سنة 1864 وربما سمّوها «سديرية» تخليدا للبشير «بن سديرة» الجندي المتمرد في عسكر فرنسا والذي أعدمته سلطة الاحتلال سنة 1920 وخلدته الذاكرة الشعبية. واني مازلت أذكر يوم القرعة ذاك وأردد: عشيرتي اتي بها من خفقان الذكرى ومن نشيج روحي أزفر في كياني فتنبري حبيبتي شرارة تحتد في دخاني....* --------------------- *مقطع من نصّ شعري نثري للشاعر علالة حواشي نشر بجريدة الشعب في 17 سبتمبر 1994 تحت عنوان: من طواغيت التردّي في أناجيل التحدي.