لا أتردد على الحانات والمقاهي، ولا أقضي الساعات الطوال في الساحات العمومية وامام محطات الأرتال مثلما يفعل جل المهاجرين وخاصة منهم التونسيون... ولا أدخل الفضاءات التجارية الكبرى الا للتزود بما احتاجه، لا للتفسح مثل غيري قتلا للوقت... انا والحمد لله من الصنف الذي يحاول الاندماج داخل مجتمع البلد المضيّف، وأتحاشى الاختلاط بأبناء بلدي وخاصة المنحرفون منهم خوفا من تأثيرهم عليّ والسقوط في أنشطتهم المريبة، دون ان أمتنع عن زياراتي للعائلات التونسية المحترمة والالتقاء برجال الاعمال والمثقفين والكادحين الذين ضحوا بالابتعاد عن أرض الوطن طلبا للجد والكد والعمل، والعودة من بلاد الغربة سالمين غانمين. «باري، بارليتا، فودجا، ماشيراتا، كازيرتا، نابولي، جزيرة ايسكيا» بالونا، «فيتولازيو» وغيرها من المدن والقرى الايطالية الجنوبية التي أقمت بها واشتغلت، وبما ان طموحي كان أكبر فقد انتقلت الى جزيرة «بونزا» التابعة لولاية «لاتينا» تلبية لرغبة احد اقاربي، الا ان الشغل هناك كان موسميا لتستقر بي المقام اخيرا بمدينة الاقتصاد والمال والاعمال، مدينة النظافة والموضة والرياضة، مدينة الاعلام والصحافة والمسرح والسينما وهي ايضا مدينة الثقافة... تلك هي «ميلانو» التي تحس بالفعل عند ما تزورها انك دخلت أوروبا. فكان علي اذن ان استغل اقامتي هناك للتردد على المتاحف والمكتبات والمعارض وقاعات السينما ودور المسرح وحضور التظاهرات الثقافية والرياضية، والمحاضرات الخ... هذا الى جانب شغلي المشرف طبعا، وها اني هنا منذ عشرة اعوام كاملة. وذات مرت لفت انتباهي لافتة كتب عليها: قاعة رياضية، فدفعني فضولي للدخول اليها، فكانت صدفة عجيبة، انها قاعة للتدريب على الملاكمة وهي الرياضة التي اعشقها. المدرب كان ايطاليا بالطبع، اما هذا الشاب الاسمر الذي يدربه فكل ملامحه تدل على انه عربي، وتساءلت : ألا يكون تونسيا؟ وبما انني افهم في الملاكمة، فقد انبهرت بتحركات هذا الشاب الذي عرفت فيما بعد انه لم يبلغ العشرين وبفنياته، وبقفزاته التي ذكرتني بقفزات محمد علي كلاي، وتكهنت له بالمستقبل الزاهر في رياضة الملاكمة، ودون ان اشعر تابعت حصته التدريبية حتى النهاية حين اقتربت منه وقلت له باللغة الايطالية: «COMPLIMENTI» ومعناها: تهاني الحارة فقال لي: شكرا...قلت: اذن انت عربي مثلما توقعت. من اي بلد انت؟ قال: انا مصري، وتحديدا من تلبانة التابعة لمحافظة الدقهلية.. ولما عرف انني تونسي اضاف: «ونتكلم كويس بالتونسي زادة».. يا حسرة على تونس... قلت : ماذا تقصد؟ قال: «يا حسرة على البوكس في تونس». ولكنك صغير السن كيف تعرف ذلك؟ قال: انا اتابع اخبار رياضة الملاكمة في العالم من خلال وسائل الاعلام ومطالعة الصحف وحواراتي مع الآخرين واعرف ان الملاكمة اهدت الى تونس في الزمن الجميل عديد التتويجات والالقاب والميداليات في المواعيد الرياضية البارزة ولذلك فأنا اتحاشى كثيرا وجود الكثير من الملاكمين التونسيين الذين هاجروا الى البلدان الاوروبية وخاصة الى ايطاليا. مثلا الملاكم البلبولي والجلاصي والسلطاني وغيرهم... فلماذا لا تعود الملاكمة في تونس الى زمنها الجميل؟ احترت بماذا أعلق على كلام هذا الشاب المصري الذي يعرف عن الملاكمة التونسية اكثر مما يعرفه التونسيون انفسهم، فغيرت مجرى الحديث وقلت له: حدثني عن نفسك: الشغل والعائلة والاقامة وظروف عيشك: قال: لا باس... اشتغل في محل لصنع وبيع «البيتزا» الذي يمتلكه شاب تونسي، واسكن مع «التوانسة» واضافة الى الايطاليين فان حرفاءنا من التوانسة كثيرون... هذاكة علاش نتكلم مليح بالتونسي. اما عن مستقبلي الرياضي فأنا حريص كل الحرص على مواصلة نشاطي في رياضة الملاكمة وعلى الحصول على التتويجات والالقاب ولذلك فأنا مواظب على الحصص التدريبية ولا أتغيب عن حصة تدريبية واحدة الا بسبب ظروف قاهرة خاصة وان مدربي معجب بي كثيرا وينتظر مني الكثير. بعد ان تمنيت له النجاح والمستقبل الزاهر قلت له : بما انك تعرف الكثير عن تونس... ما رأيك لو تساهم في عودة الملاكمة التونسية الى الزمن الجميل؟ قال: كيف ذلك؟ قلت: بعد ان تنتهي مشوارك الطويل، وتدخل عالم التدريب تذهب الى تونس وتدرب ملاكميها الشبان... قال: «علاش لا» ان شاء الله... «مازال بكري على كل حال». وهكذا اصبحت صديقا لهذا الملاكم الشاب المصري ومنذ ذلك الوقت احرص على حضور حصصه التدريبية واتابع اخباره ومقابلاته وقبل ان اغادره قلت له: المعذرة نسيت ان أسألك عن اسمك ، قال: اسمي: سيّد... ولقبي: أبو العنين...