قال أحد المعلمين يوما في حديث تلفزي إنه درس طيلة أربعين عاما – قالها مبتسما راضيا- و أ ثنى عليه محاوره و إنثالت على الطرفين نافورة من الياسمين ! ولكنني- والمقام محفوظ– شعرت نحو المتكلم بشيء من الرثاء او السخط فهل هي البطولة أم الغفلة أم هو «سيزيف» الذي لم يتفطن إلى قدره و لم تراوده فكرة رفضه و الثورة عليه إذ المعاناة لا تكون إلا بالوعي بها أم هو من أنصار « دريد بن الصمة » في قولته الشهيرة و ما أنا إلا من غزية إن غوت غويت و إن ترشد غزية أرشد و مازلت غزية في نضالاتها ذات السقف المعقول- أو المحدود - تطالب بإصلاحات جزئية لا ترقي إلى مستوي بطولاتها و فروسية فتيانها و جلد حرائرها ! إن بناء الدولة و تماسكها منذ بدايات الاستقلال يعود أصلا إلى المراهنة على التعليم العام لأبنائها نهجا جوهريا المعلم حجر الزاوية فيه أو ساريته و أسيته. و قد كان بورقيبة يردد أنه يفضل حكم شعب متعلم على حكم شعب جاهل لذلك أقيمت المدارس في الأرياف القصية و قد جند فيها معلمون يتقدون مسؤولية ووطنية و إيمانا بقدسية الرسالة و بتونس و أبنائها. و كانت الكتب و اللوازم المدرسية توزع بالمجان و أتت تلك الجهود ثمارها و بنيت الدولة الحديثة التي تفخر بكوادرها في كل الاختصاصات و في كل أنحاء المعمورة و صار التونسي محل تقدير و تكريم أينما حل لكفاءته و تميزه و جديته. إن الفعل الفرنسي instituer يعني الإنشاء و الإقامة و التأسيس .و تبعا لذلك فان القائم بهذا العمل هو المنشئ و المقيم و المؤسس .فأي شرف أسمى و أية منزلة ارفع ؟ لقد تغنى الشعراء بالمعلم من هذه الزوايا و اكبروا رسالته المقدسة و هندسته للأرواح والأنفس البشرية و لا غرابة إذ إن اول ما نزل من القران الكريم اقرأ و إن الرسول يقول « لو لم أكن نبيا لكنت معلما » و قد صاغ «شوقي» ذلك في قصيدته الشهيرة « قم للمعلم » جامعا فيها بينه و بين الأنبياء و الرسل بل أضاف إليهم الشهيد « سقراط» الذي دأب على حمل المعرفة و بثها حتى الموت. و الحقيقة أن حياة المعلم استشهاد يومي لان الرسالة المنوطة بعهدته تثقل الجبال مما يجعل قول « أبي العلاء » يهم الليلي بعض ما أنا مضمر و يثقل رضوى دون ما أناحامل علامة هي بالمعلم الصق و ان اختلف السياق. غير أن الصدق الفني في تكريم المعلم والاعتراف بجميله وارتباط صورته بالطفولة واليفاعة وبالذكرى والأمنية، كل ذلك تأتى «لآدم فتحي» في قصيدته المغناة الباعثة على الشجن إلى حد البكاء «علمني» و إن كان أفضل من وصف وضع المعلم في ممارسته اليومية الشاعر الفلسطيني «إبراهيم طوقان» معارضا «شوقي» و قد ختم قصيدته الطريفة الجادة الهازلة بقوله «إن المعلم لا يعيش طويلا» !و لا يخفى ما في العبارة من إشارة إلى الاستنزاف اليومي و التلف يطال البصر و العصب و العظم و الروح و الإنسانية. انه لمن الغرابة – وقد حلت الثورة فيما نزعم- أن يغفل ملف المعلمين –و المدرسين في كل المراحل – و المناهج و إلا يراجع سلم الأجور أصلا و عدد ساعات العمل و طول فترة الخدمة و القانون الأساسي من قبل و من بعد و إلا عدت الثورة مجرد مشروعا باهتا «للتغيير» كما يحلو لبعض المتفقهين القول و هم لا يفصلون بين الثورة بمعناها القاطع مع كل أشكال الرداءة و الفساد و التمعش و المناصب التي تهرأت سراويل الجالسين على رموز كراسيها في حين إن التغيير إصلاح جزئي و ترقيع لما سبق و لا يحتاج الأمر إلى موسوعية في المعرفة للوقوف على معنى كل من المصطلحين إلا إذا كانت ضبابية الرؤية و التلهف على الكرسي و الانبهار ببريقه و مشتقاته تحول دون ذلك. و مازلت الحكومات المتعاقبة تكشف عن ساقيها خوفا من اللجة و عجزا عن أخذ القرارات و كل بما لديها من النفوذ .الأحول نشوى و الملفات تتفاقم أثقل من الوعود الفضفاضة و الاضطرابات و الاعتصامات تتجدد و الخطوة لا تتم. إن الدريهمات التي تقترحها وزارة التربية للتسوية مع المعلمين لا تغيث الملهوف و لا تساهم في مراودة الحلم بما يسمى بفرحة الحياة و إن تعللت الوزارة كعادتها بالشعار المألوف يرفع في الفراغ « إن باب التفاوض مفتوح» . «و إذا كان لا يعرف الحب إلا من يكابده و لا يدري الصبابة إلا من يعانيها » فان جل الذين عينوا على رأس وزارة التربية قد اكتووا بنار العشق و تزينوا بقيافة الطباشير بألوانه فكيف و قد أصبحوا في السلطة و صاروا من ذوي القرار يلبسون لكل حالة لبوسها و ينكرون المطالب المشروعة بل الهزيلة أحيانا لمن كانوا في صفوفهم « في يوم من الأيام « على حد موال كوكب المشرق «أم كلثوم» أم هم أصبحوا كما قال احد أعضاء المجلس التأسيسي و سليل ما يسمى بحزب الأغلبية من «ورثة» البلاد؟ فياله من موقف رديء و يالها من عبارة لا مذاق لها و لا طعم و لا ذوق فيها و لا أناقة و هي إلى العشب الغليظ المتسلق اقرب . ان الحديث عن سنة تراوح بين البياض و الصفرة و عن تجميد الأجور او سيلانها قطرة قطرة بيان تخبط و عنوان ضياع. و إن الحديث عن سقف ثلاث سنوات أو خمس كلام مبطن و خطير ناتج عن ثقة مزعومة أفرط فيها أصحابها تفاؤلا أعوج بقادم الأيام و رضى عن النفس كاذب قد لا يكون له من الإعراب محل و قد قال «علي بن أبي طالب» من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه» فما بالك إذا كان يزعم القدرة على الزعامة و تحمل الأمانة ؟ و إن بلدا لا يكرم فيه المعلمون يقامر بمستقبله و غد أجياله و ينفتح على المجهول و على الرياح من كل الجهات تهب و هو ما لا يمكن ان يقبله وطني صادق في تونس الفذة بذاتيتها و شخصيتها و شموخ أبنائها.