بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القنديل الثاني: محمد أركون ل «الشروق»: القرآن كتاب ديني لا يمكن اختزاله في معنى أحادي الجانب
نشر في الشروق يوم 15 - 09 - 2009

(حسب مقولة إبن خلدون والذي كان يسعى إلى سماع الرأي من لدن شيخ فقيه ثم يسعى إلى آخر يسميه القنديل الثاني ليتلقى رأياً موافقاً أو مخالفا ).
موعدنا اليوم مع قنديل مضيئ في عالم الفكر والثقافة المفكر والباحث الجزائري محمد أركون.
صعب إختزال حوار مع محمد أركون في صفحات، تجلس إليه فيسحرك بهدوئه ورصانته، وحميمية غير مفتعلة، تواضع ودفء إنساني، تتحدث إليه فيعطيك المعرفة دون شرط أو تعال، يلتمس أعذاراً للأعداء قبل الأصدقاء، أغلب الحوار كان بالعربية، فعكس ما كنت أعتقده وما يعتقده البعض أركون يتقن العربية بل إنه كان أستاذ عربية في الجزائر، قرأ القرآن وأمهات الكتب والفلاسفة بالعربية، لكنه يعتقد أنه لا يملك اللغة بما فيه الكفاية لعرض بحوث عميقة ودراسات ويفضل ترك ذلك للمختصين، ولد محمد أركون سنة 1928 في «توريرة ميمون» بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، جاءت عائلته إلى القرية باحثة عن الحماية بعد أن تركت موطنها الأصلي في مدينة قسنطينة، دخل محمد أركون المدرسة الابتدائية لكنه غادر المنطقة في سن التاسعة ليعمل في دكان والده في «عين العرب»، قرية غنية يقطنها فرنسيون بالقرب من مدينة وهران العريقة. وكان عليه أن يتعلم صنعة الأب في البيع والشراء، وفي الوقت نفسه أن يواصل تعليمه الثانوي.
هذا الانتقال كان بالنسبة لمحمد أركون «صدمة ثقافية»، لأنه وعى بألم مسألة كونه أمازيغياً وينتمي لأقلية ليس لها من المكانة والحقوق مثلما للعرب، وانه خارج منطقة نفوذ حدود البربر لا يستطيع من الناحية اللغوية أن يعبّر عن نفسه بوضوح، لذا كان عليه أن يتعلم العربية والفرنسية في وقت واحد.
لكن الفضل يعود إلى خاله الذي ضمن له تعليماً جيداً رغم ممانعة والده، والذي كان منتمياً إلى إحدى الفرق الصوفية. ومن هنا يفسر الدكتور أركون عمق فهمه للتصوف و لتأثير الدين على الناس أو حتى بلورة مفهوم «الدين الشعبي»، كان يتعلم القرآن وأصول الدين و يذهب مع خاله وأبيه إلى المجالس الدينية، والتي كانت جزءاً من الحياة اليومية للقرية.
حالت الظروف الاقتصادية الصعبة للعائلة دون إرسال ابنها البكر محمد إلى العاصمة لمواصلة الدراسة الثانوية، مما اضطرها الى إرساله إلى مدرسة ثانوية مسيحية أقامها بعض الرهبان في قرية مجاورة. هذه المرحلة يصفها الدكتور أركون بأنها مرحلة اكتشاف الثقافة اللاتينية والأدب الأجنبي..
دخل الجامعة في العاصمة لدراسة الأدب العربي، وكان يعطي دروساً في إحدى الثانويات من أجل أن ينفق على تعليمه الجامعي. انخرط في دراسة القانون والفلسفة والجغرافيا، بدأ تركيزه على معرفة الفلسفة العربية، ووضع نصب عينيه الدراسة في العاصمة الفرنسية باريس ..
التحق محمد أركون بالسوربون في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ودفعته أجواء فرنسا ما بين الأعوام 1950 – 1960 الى التركيز على مصطلح مفهوم «النهضة». و انهمك مثل بقية أبناء جيله بهموم العالم الثالث والبحث عن «طريق ثالث»، كما تنامى لديه الوعي السياسي الذي دعمته طروحات الطبيب النفسي فرانز فانون. ثم جاء تحريراستقلال الجزائر وفترة الرئيس هواري بومدين، وأخيراً النكسة العربية عام 1967، التي دفعت به الى مأزق نفسي عميق تقاسمه مع بقية أبناء جيله، تتحاور نظريات محمد أركون اليوم مع نظريات ميشيل فوكو وبيير بورديو وفرنسوا فورييه وبلاشير و....غيرهم .يلعب منذ سنوات طويلة دوراً مهماً كرائد في الفلسفة والتنوير الإسلامي بين الشرق والغرب، ينشر العلم ويتعلم منه .
ويقول أركون إنه لم يتأثر إلا بالتوحيدي وهو أبرز المشتغلين على فلسفته، خاصة كتاب «الهوامل والشوامل», وهو نتاج أديبين فيلسوفين هما أبو حيان التوحيدي وإبن مسكويه، والهوامل (النياق الشاردة بلا راع) وبها سمى التوحيدي 175 سؤالا أرسلها إلى مسكويه، الذي أجابه بالشوامل (يقال شملت إبلكم بعيراً أي أخفته ودخل في شملها) وحسب محقق الكتاب أن الكتاب أخفي قديماً خوفاً عليه من سخط العامة ولم يذكره سوى البيهقي في تاريخ حكماء الإسلام.
وفي الكتاب يسأل التوحيدي: «ما الإنسان؟ وما المعرفة؟ وما العلم؟ وما الائتلاف؟ وما الاختلاف؟ ما السبب في قتل الإنسان نفسه عند إخفاق يتوالى عليه، وما السبب في اشتياق الإنسان إلى ما مضى من عمره، حتى انه ليحن حنين الإبل، ولم صار الإنسان إذا صام أو صلى زائداً عن الغرض المشترك فيه، حقَّر غيره واشتط عليه، وارتفع على مجلسه ووجد الخنزوانة في نفسه، وطارت النعرة في أنفه حتى كأنه صاحب الوحي، وما الذي حرك الزنديق على الخير وإيثار الجميل، وما سبب غرور أولاد المشهورين وتعاليهم على الناس، وما السر في أن الناس يستخفون ممن أطال ذيله وكبر عمامته، ولم صار العروضي رديء الشعر، والمطبوع على خلافه، وغيرها».
كم نحن بحاجة اليوم إلى أن نتعلم من التوحيدي، كيف نعيد للسؤال حرارته وحرقته ونفوره من المعرفة الشاملة. أن نسأل عن اللاعقل فينا واللامنطقي واللاإنساني، التاريخ يعيد نفسه بنفس الأسئلة والعالم يتجدد بالهوامل، من يفتح حياتنا بالأسئلة يحرك عالمنا ويجدده ويغيره.
في هوامل التوحيدي : «الحركة صورة واحدة لكنها توجد في مواد كثيرة ومحال مختلفة، وبحسب ذلك تُولَّى أسماء مختلفة.... (فهي) في اللسان منطق، وفي النفس بحث، وفي القلب فكر، وفي الإنسان استحالة، وفي الروح تشوُّف، وفي العقل إضاءة واستضاءة»
ثمة فكرة شائعة في الغرب، مفادها، أن الإسلام لا يمكن إلا أن يكون مضادًّا للعلمانية ؟ وهناك من يفسر العلمانية بالإلحاد.
العلمانية باليونانية تعني (لايكوس) والتي تشير إلى علاقة الدين بالشعب، أي تعبر بين ثقافة ما والتفكير الذي يطرحه «الكليريكوس» الذي بلغ معرفة وفكراً معينين فيما يخص الدين، العلمانية ليست منافية للدين بل أراها تعني تعليم الدين، وإحترام الأديان الأخرى،كما أنها باتت اليوم تعني التوسع في البحوث العلمية، ومعرفة الثقافات والمذاهب الفكرية المختلفة، فلسفة أم لاهوتية، لكي ندرك الوظائف الحقيقية التي تقوم بها الأديان في المجتمعات.
لنحدد معاني المصطلحات الواردة في دراساتك. ماذا يعني مصطلح التنوير؟
التنوير هو الإستخدام الحر للعقل وتشكيل رأي عام مستنير في المجتمع، وقيم التنوير قيم كونية لأنها تنطبق على الإنسان أينما كان .
ومصطلح « الأنسنة» الذي تستعمله فيما يخص الفكر العربي؟
خصصت أطروحتي في السوربون سنة 1970 لموضوع «نزعة الأنسنة في الفكر العربي في القرن الرابع هجري».
الأنسنة ترجمة لكلمة عربية منتشرة جدا في الأدب العربي الكلاسيكي وهي كلمة آداب الآداب، نجدها عند الكُتاب في القرن الثالث والرابع والخامس الهجري، في كتاب ابن قتيبه مثلاً «أدب الكاتب» الذي يدل على جميع المعلومات وعلى ما يحيط به كل ما كان يُسمى كاتب، كان على الكُتاب الذين يعملون في دواوين الخلافة أن يحيطوا بجميع العلوم المتوفرة في زمانهم، ومقابل هذا المفهوم العربي في اللغات الأوروبية كان مفهوم «هيمانيزم» وهو كل ما يتعلق بالإنسان كإنسان، المنتج الإنساني بمجمله، كتاب التوحيدي «الهوامل والشوامل» مراسلة علمية بين أبو حيان ومسكويه، يشمل كل المعارف التي يحيط بها الأديب، ويصف ياقوت أبا حيان بأنه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، وهذا هو مصطلح الأنسنة مختلف عن مصطلح الأدب الذي أصبح يستعمل في نطاقه الضيق،و مفهوم الأنسنة وجد في العصر الاسلامي منذ القرن الرابع الهجري وهو مستقى من فكر ابي حيان التوحيدي.
ألا يمكن أن يقع إلتباس في قراءة عنوان مثل نقد العقل الإسلامي؟
ليس نقد الدين الإسلامي، بل العقل الذي يقرأ هذا الدين، نقد للموروث الإسلامي منذ ظهور الإسلام، ومن خلال دراساتي لمرحلة القرآن والبدايات التكوينية، وجدت أن كلمة «عقل» على هيئة المصدر غير موجودة في الكتاب، الموجود هو عبارات إستفهامية، وإستنتجت بعد تحليل طويل أن للعقل مكانة خاصة في النص القرآني لا مثيل لها في النصوص الإسلامية التي جاءت بعده، فالطابع الإبداعي، الرمزي، والمجازي، يطغى في الخطاب القرآني على الطابع الإستدلالي القائم على الحاجة، موطن الفهم والإدراك الحسي هو القلب وليس الرأس، والمعنى يوحى عن طريق المجاز والمثل والحكمة، ويبدو الخطاب القرآني طالع من القلب ومفعم بالحياة اليومية والأحداث الجارية للعمل التاريخي الذي قاده الرسول طيلة عشرين عاماً، وبالتالي فالعقل السائد في القرآن هو عقل عملي جياش يغلي كما تغلي الحياة، وليس عقلاً بارداً تأملياً إستدلالياً برهانياً على طريقة الخطاب الفلسفي، لذلك فعلم التفسير الذي صدر فيما بعد في البصرة ثم في بغداد والذي كان متأثراً بالفلسفة الأرسطوطاليسية، أسقط على تفسير القرآن مفهوم العقل بالمعنى المنطقي الإستدلالي، كذلك وقع المسلمون المعاصرون في الخطإ نفسه، حاولت في دراساتي أن أنسى كل شيء وأتموضع في البيئة الحضرية والبدوية للحظة القرآن، القرآن كتاب ديني عظيم قائم على رموز رائعة ومجازات متفجرة تسحر الألباب، وليس كتاباً في الجغرافيا أو الذرة أو البيولوجيا، لا يمكن إختزاله في معنى آحادي الجانب وسجنه في قوالب جامدة .
لكنك ذكرت أن هناك العديد من مصطلحات تعني «العقل» موجودة في القرآن؟
المعنى ليس بالمعنى الفلسفي الحديث للعقل، العقل يتحول ويتغير عبر العصور وبحسب إمكانيات كل عصر وأدواته العلمية والتقنية، عندما نذكر كلمة «ألا تعقلون» إنا أنزلناه قرآناً عربيا لعلكم تعقلون «وله إختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون» «وما أنزلت التوراة والإنجيل من بعده أفلا تعقلون» «كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون» جل هذه الآيات تعني: ألا ترون إلى عجائب الله في خلقه، ألا تشكرون ربكم على النعم التي رزقكم بها ؟ فكلمة عقل في القرآن تعني العلاقة بين السماء والتعالي، بين الأرض والنعم التي رزقنا الله بها، بين الرعد وغضب الله وجبروته، التحليل المنطقي للظواهر ظهر في الساحة الإسلامية عند دخول الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو على المجال اللغوي والثقافي العربي، القرآن خطاب ديني يحتوي على موضوعات أساسية تهم البشر أينما كانوا، كالعدل والعمل الصالح والحياة والموت والدنيا والآخرة، وفيه مبادئ أخلاقية ذات طابع كوني « من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره « ألا يكفي هذا المبدأ الأخلاقي وحده لتوجيه حياة الإنسان وتصرفه في المجتمع؟
قمت بدراسة ألسنية تاريخية أنتربولوجية للتراث الإسلامي، لذلك لك رأي نقدي لكتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» وكتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق، حول عدم إدراك ما تسميه القصور المنهجي لهذين الكتابين بالمقارنة مع منجزات العلوم الإجتماعية الحديثة، هل هناك إستعادة قراءة للكتابين؟
طه حسين وعلي عبد الرازق قدما عملين جديين ومهمين بالنسبة للسياق المعرفي الذي صدر في هذان الكتابان , لكنهما وضعا الكتابين في العشرينيات من القرن الماضي، أي أنهما ينتميان إلى فترة من علوم الإنسان تعود إلى القرن التاسع عشر، من حيث المنهج ومن حيث القضايا المطروحة، أكثر مما ينتميان إلى ما تحقق في علوم الإنسان والفكر عامة. هناك قطيعة أساسية في تاريخ الحداثة الفيلولوجي المتبع الخاص بفقه اللغة يكتفي بالتحقق من أن نصاً معيناً كتبه فلان في تاريخ معين، وهذا مافعله طه حسين في «في الشعر الجاهلي» أما علي عبد الرازق فلم يكن في إمكانه أن يعمل أكثر لأن النطاق الإبستمولوجي للكتابة وسؤال التاريخ كان محدوداً في زمنه. فيما بعد خمسينات القرن العشرين حدث الإنتقال من المنهج الفيلولوجي إلى المنهج التاريخي الذي يوظف مكتسبات العلوم الإجتماعية لدراسة أي من موضوعاته، لم يتسن إلى اليوم للكتابة التاريخية حول المجتمعات الإسلامية والفكر الإسلامي أن تمتلك المنهج التاريخي الحديث ولا المذهب الفيلولوجي.
في كتابك من منهاتن إلى بغداد جددت التركيز على حاضر الإسلام ومستقبله، هل تغيرت المعطيات بعد أحداث سبتمبر وتأثيرها المتواصل على ما يجري في العالم؟
بالطبع. فقد ازدادت صورة الإسلام سوءاً وتشويهاً في الغرب، ألفت كمؤرخ كتاباً مع صديقي جوزيف مايلا اللبناني المتخصص في اللغات السياسية، كتاباً مشتركاً عنوانه «من مانهاتن إلى بغداد» وعنوان ثاني يدل على شيء مهم جداً «ما وراء الخير والشر» لأن الرئيس الأمريكي إجابة على ما حدث بمانهاتن قسم بين عمود الخير وعمود الشر، هذا التفريق تفريق مانوي، دين ماني قديم جداً، مؤثر في الفكر الإسلامي والدين الإسلامي، أشرت إلى أن هناك فترات في تاريخ الحداثة مثل نيتشه وفرويد وماركس الذين يمثلون الفترة الثانية من الأنوار ويطرحون قضية مهمة وهي قضية القيم التي تتجاوز محور الخير والشر كما يتصوره بوش.
كيف يمكن أن نقرأ صورة العالم على هذا النحو، كيف يمكن أن تُحل الأمور بهذا الفرز السياسي الحاد للعالم بواسطة مرجعية مثل جورج بوش؟
بل على معالجة متعمقة وعلى قراءة عادلة ورؤية نافذة لحركة التاريخ والمجتمع، تصبح الحلول أكثر تأكيداً بعد أحداث سبتمبر وما يجري في العراق وفلسطين، ومن بينها تثقيف أبنائنا ورفع مستوى الفكر لدى الجماهير العربية والإسلامية، لا بد من فتح آفاق جديدة لفهم القرآن وتاريخ الفكر الإسلامي وإيصاله للجمهور الواسع .
كيف يمكن إيصال فلسفة الفكر الإسلامي وإيصاله للجمهور الواسع؟ والدراسات والبحوث موجهة للنخبة، وضمن الوضع الذي يعيشه المثقفون العرب أنفسهم، وأنت مثال ذلك، تعيش في الغرب ودراساتك موجهة إلى الغرب؟
المسلم يقرأ القرآن ويعيشه ويفهمه فهماً عفوياً ولا يحتاج لنظريات، القرآن ليس معقداً بالنسبة الى المسلم المؤمن، المشكلة هي لدى الباحث لمعرفة الإشكاليات المرتبطة بالواقع المركب بين «القرآن» في اللغة المتداولة وبين «الظاهرة القرآنية» وهناك فرق بين «الدين» والظاهرة الدينية «يجب الارتكاز على التاريخ عند البحث المعرفي في النصوص الدينية، و كيفية استخدام منهجية علم التاريخ، وتطبيقه على التراث الاسلامي لتحديد فهم جذور الظاهرة الاصولية، وذلك بالعودة ثمانية قرون إلى الوراء مع تطبيق منهجيات العلوم الانسانية الأخرى،لتحرير الفكر الاسلامي من الجمود،كما حصل ذلك في الفكر المسيحي في القرن التاسع عشر الميلادي، عند تطبيق المنهج التاريخ على المسيحية حصلت ردة فعل عنيفة من الأصوليين، و اتهموا المجددين بالردة والخراب، مع ذلك تطور الفكر الغربي وأنتج الحضارة الحديثة والثورة الصناعية، و هذا دليل على أن هذه المناهج يمكن تطبيقها على الفكر و التراث الإسلامي.
كيف تفسر ظاهرة إنتشار التيار الأصولي والتعصب الديني؟
التيار السلفي أو الأصولي إبتدأ يترسخ منذ القرن الثالث عشر، فقد إنتشرت المدارس الفقهية في مختلف البلدان الإسلامية، وكل بلد حبذ أحد المذاهب، في تركيا حبذ المذهب الحنفي وفي السعودية المذهب الحنبلي، وفي المغرب العربي المذهب المالكي، وفي إيران الجعفري الشيعي، وهذا يعتبر تراجعاً للتعددية العقائدية والفكرية التي سادت في العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية قبل عصر الإنحطاط وغلق باب الإجتهاد، المذاهب السنية من جهة والمذاهب الشيعية من جهة تعرضا لجمود وتقلص فكري بدأ من القرن الثالث عشر وإستمر حتى القرن العشرين، ونحن ورثة هذه القرون الخالية من المضمون النقدي،
لكن ما سبب إنتشار ظاهرة التطرف الديني عند من تسميه المسلم المؤمن التقليدي؟
الإسلام كظاهرة دينية لا يختلف بشكل مطلق عن بقية الظواهر المتعلقة بالأديان الأخرى،المسلم التقليدي لا يختلف عن المسيحي أو اليهودي التقليدي، كل واحد منهم منغلق داخل تراثه ويعتبره مطلقاً ولا شيء غيره، العنف والتعصب ليس حظراً على الإسلام، تاريخ أوروبا مليء بمحاكم التفتيش وحروب الأديان، و العنف ظاهرة أنتروبولوجية مخزونة في أعماق كل فرد وكل مجتمع،وعندما تتراكم المشاكل في مجتمع معين ويزداد فيه الكبت السياسي والأزمات الإقتصادية، فلا بد أن يحصل إنفجار، فيستخدم الجمع اللغة الدينية لتحرير إنفجاره إذا لم تكن لديه غيرها . كيف يمكن أن تعود الجماهير إلى إسلام غير أصولي، إسلام ثقافي، منفتح، متسامح، إذا كنا نعلم أن الفكر الفلسفي حُذف من ارض الإسلام بعد موت ابن رشد (أي منذ ثمانية قرون)؟ الإسلام الوحيد الموجود في الساحة هو الإسلام الأصولي، يملأ البيت والجامع والمدرسة وحتى صفحة التراث في الجرائد الكبرى!... فما بالك بإسلام جديد محدّث ومفرّغ من كل رواسب القرون الوسطى؟ الإسلام الأصولي اليوم شعبوي معبَّأ كل التعبئة ويصرخ بالانتقام. إسلام يجيّش كل العاطلين عن العمل وكل الشبيبة المسحوقة التي لم يعد لديها أي أمل. فالمسلمون ليسوا متطرفين حباً بالتطرف كما يتوهم بعضهم، وإنما لأنهم جوعى، مقهورون، محتقرون في إنسانيتهم وفي عقر دارهم. التطرف الإسلامي من قبل الحركات هو إستخدام إيديولوجي وليس دينياً ولا روحياً .
حسب مقولة لدريدا أن تكتب كتاباً هو أن تتدخل في السياسة، هل السياسي موجود في مشروع أركون؟
شخصياً لا أتدخل في السياسة كموقف سياسي، ولكن السياسي موجود في كتاباتي وفي كل مفهوم من المفاهيم التي استعملها، السياسي موجود في مضمون البحث العلمي، فضمن التحليلات التي قدمتها عن مفهوم الأنسنة، نجد فوراً وزير الثقافة ووزير التربية كي يطبق ما ورد في الكتاب، السياسة موجودة كفكر لا كإيديولوجيا وسلطة .
هل أنت راض عن كل ما تكتب؟
أبداً. لكن رداً على سؤالك أجيب بمقولة العماد الأصفهاني « أني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده : لو غير هذا الكتاب كان أحسن , ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل»، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على إستيلاء النقص والكمال على جملة البشر .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.